|
نظرات في كتاب: -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة الثامنة - الملكية والدخول في التاريخ (1921-1958)
كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 6248 - 2019 / 6 / 2 - 19:24
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
كتب الدكتور فالح مهدي بشأن تجربة العهد الملكي في العراق: "لقد أجهضت تلك التجربة الفريدة في تاريخ العراق المعاصر، لأنها وجدت في أوج الصراع بين الغرب الرأسمالي والشرق السوفييتي"، ثم يشير إلى أن "التاريخ مأساوي، فالتجربة الملكية مع كل عيوبها، قدمت الكثير للعراق بشخص نوري السعيد، إنما لم تتمكن من الصمود أمام رياح "الصراع الطبقي" الذي كان يردده كالببغاء الحزب الشيوعي العراق أبان الخمسينيات من القرن المنصرم، وبراكين المد القومي، الذي أجج نيرانه جمال عبد الناصر. فسقط ذلك النظام في الانقلاب العسكري في 14 تموز في عام 1958". (الكتاب، ص 132/133). في هذا النص القصير والمكثف مجموعة مهمة من الأفكار التي أحترم كاتبها ووجهة نظره، ولكنها تستوجب في الوقت ذاته الحوار العقلاني والنقاش وطرح الرأي الآخر بما يساعد على الفهم المتبادل، بغض النظر عن مدى التقارب أو الابتعاد في الرأي. وفيما يلي أشير إلى تلك المسائل: 1) دور الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي على الوضع في العراق في العهد الملكي وعواقب ذلك. 2) التجربة الفريدة للنظام الملكي في العراق. 3) ترديد الحزب الشيوعي كالببغاء للصراع الطبقي في العراق. 4) دور القوى الناصرية في تنشيط المد القومي وعواقبه على العراق. ولا بد لي أن أشير إلى أن الدكتور فالح مهدي قد ذكر على وجه السرعة إلى أن التجربة الملكية في العراق "فريدة رغم عيوبها"، أي كانت للحكم الملكي عيوب، ولكنه لم يشر إليها، إذ ربما كانت تلك العيوب هي القتل لذلك النظام. وقد البدء بمناقشة هذه النقاط أشير إلى ما يلي: نعم، يمكن القول بأن تجربة النظام الملكي في العراق فريدة، لأن جميع تجارب دول العالم فريدة، إذ إنها لا تتكرر بذات المواصفات بأي حال، إذ عرفت الدول العربية مثلاً تجارب أخرى وهي نماذج فريدة أيضاً. لم يكن البريطانيون مع تشكيل دولة عراقية، بل كانت رغبتهم ربط العراق بالدولة البريطانية، كما في حالة الهند حينذاك. إلا إن ثورة العشرين، بما لها وما عليها، حققت نجاحاً مهماً يتلخص في إلزام البريطانيين على إقامة الدولة العراقية الملكية. ومؤتمر القاهرة في مارس 1920 هو الذي قرر ذلك وقرر من يكون ملك العراق أيضاً. وقد تمكنت مس گيرترود بيل أن تنفذ قرارات مؤتمر القاهرة الذي حضره تشرشل والأمير فيصل، وأمكن إبعاد جميع المرشحين العراقيين بمن فيهم طالب النقيب، من شيوخ وأعيان البصرة حينذاك. لقد بدأ الوضع في العشرينات بوضع حسن نسبياً تغير في الثلاثينيات، وبعد وفاة الملك فيصل الأول، إذ بدأت الحكومة تمارس سياسات التضييق على بعض القوى المعارضة مما كان يدفعها لتقف ضد الحكومة وتشدد من معارضتها. لقد كان الملك فيصل الأول حائر بين شعوره القومي العربي في تحسين أوضاع العراق، وبين ما تريده بريطانيا منه في العراق. وكان أحياناً يعترض على مواقف الحكومة البريطانية، وأخرى ضد الحكومة العراقية ولصالح بريطانيا، وبين هذين الموقفين قضى الملك فيصل الأول نحبه، فمن المسؤول عن ذلك. لقد مات بما لا يمكن تحديد سبب موته!! 1) دور الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي على الوضع في العراق في العهد الملكي وعواقب ذلك. 1. لقد انقسمت القوى السياسية العراقية منذ العشرينيات إلى مجموعتين مختلفتين، مع وجود تعاون بينهما وتبادل في المواقع الحكومية، إذ لم يكن هناك تمايز شديد بين القوى فيما عدا الدينية أو بتعبير أدق المذهبية. وكانت الخلافات تتركز حول بنود الدستور وشروط منح امتياز النفط ومواد المعاهدة العراقية والوجود البريطاني في العراق، وكانت الأجواء سلمية وهادئة. إلا إن هذا التباين قد تبلور أكثر فأكثر في خضم النقاشات واشتد في منتصف الثلاثينيات وتجلى في أول انقلاب عسكري حصل في تاريخ العراق الحديث، انقلاب قاده رئيس أركان الجيش العراقي بكر صدقي العسكري عام 1936. وفشل الانقلاب بعد فترة وجيزة. لم يكن في هذه الصراعات أي دور للصراع بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي، كما إن الحزب الشيوعي العراق كان لتوه قد تأسس (1934) ولم يعبر دور المهد، بل كانت البداية الأولية والفعلية للصراع بين بريطانيا وألمانيا على العراق، حيث برز نشاط كبير وملموس للوزير المفوض الألماني دكتور فرتز گروبة في بغداد وللقوى القومية وذات النزعات النازية التي تجمعت في نادي المثنى بن حارث الشيباني الذي تأسس عام 1935 في بغداد. ورغم ضعف نشاط الشيوعيين في هذه الفترة وقلة عددهم أصدر النظام الملكي في عام 1938 قانون العقوبات البغدادي رقم (51) يعاقب من يروج للأفكار الشيوعية. (راجع: سيف عدنان ارحيم القيسي لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي 1934-1979، الحوار المتمدن-العدد: 4496 - 2014 / 6 / 28، المحور: مواضيع وابحاث سياسية)، معارضاً لبنود الدستور العراقي حول حرية الرأي والمعتقد والحق في إقامة تنظيمات سياسية بتحريمه الترويج للفكر والنشاط الشيوعي في العراق. وفي هذه الفترة أيضاً برزت بداية الكراهية الشديدة لليهود لدى النخبة الحاكمة، حيث أقدم الحكم على فصل الكثير من الموظفين اليهود (150) مواطناً يهودياً وتعيين مسلمين مكانهم. (قارن: عبد الله، سعد سلمان. النشاط الصهيوني لليهود بالعراق. مكتبة مدبولي. القاهرة. ط 1. 1999، ص 96). في عام 1941 حصل الانقلاب العسكري الثاني بقيادة السياسي رشيد عالي الگيلاني ومفتي القدس محمد أمين الحسيني ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة، وهم جميعاً في "حزب الشعب" القومي الفكر ضد الوجود البريطاني وضد السياسة البريطانية في العراق وبالتعاون مع ألمانيا الهتلرية النازية. وفشل الانقلاب. حتى الآن لم يكن للاتحاد السوفييتي دور في الصراع بين قوى المعسكر الغربي في العراق. بدأ الصراع الفعل بين المعسكرين في أعقاب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن تشكل المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي. ولم يرفع الحزب الشيوعي شعار الإطاحة بالملكية في العراق حتى عام 1957، وكان صراعه موجه ضد الحكومات العراقية المتعاقبة. هنا بدأ تأثير الاتحاد السوفييتي واضحاً في الصراع الدولي وفي التأثير المباشر وغير المباشر على حركات التحرر الوطني لا في العراق فحسب، بل في القارات الثلاث أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد التزم الحزب الشيوعي العراقي والعديد من القوى اليسارية والديمقراطية العراقية المواقف التي تبناها الاتحاد السوفييتي في العلاقات الدولية وفي الموقف من الحرب والسلام ومن الدول الاستعمارية التي كانت لا تزال تمتلك مستعمرات. وأصبح العراق وكل الشرق الأوسط في إطار هذا الصراع. وعلينا أن نتذكر هنا قضايا الحياد الإيجابي ومؤتمر باندونغ وحركة السلام العالمي في الخمسينيات من القرن الماضي من جهة، ودور المعسكر الغربي في الدفع باتجاه إقامة الأحلاف العسكرية ابتداءً من النقطة الرابعة للرئيس الأمريكي هاري ترومان ومشروع الدفاع عن الشرق الأوسط الذي طرحه جون فوستر دالاس عام 1952 وخلال فترة رئاسة أيزنهاور وانتهاءً بحلف بغداد (السنتو) في عام 1955، وكانت مهمة هذه الأحلاف إقامة القواعد العسكرية في المنطقة، ومنها العراق، والتي كانت كلها موجهة ضد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الذي كان يقوده. نعم كان هناك صراع بين المعسكرين في العراق إذ انقسم المجتمع العراقي إلى فريقين أحدهما مع الحكومة والآخر مع المعارضة. ولم يكن ذلك في صالح العراق أو دول المنطقة طبعاً. 2) التجربة الفريدة للنظام الملكي في العراق. الأسئلة الأساسية التي تواجه كل باحث، حين يسعى للتعرف على أي نظام سياسي هو: ما هي طبيعة هذا النظام؟ وما هي القوى التي يمثلها؟ وما هي السياسات التي يمارسها؟ ولمصلحة من تكون نتائج تلك السياسات؟ لم يكن المجتمع العراق قد تبلور طبقياً حين تأسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وكانت الأكثرية بدوية وفلاحية وقلة قليلة من الكسبة والحرفيين في المدن وأقل من ذلك من المتعلمين والمثقفين أو أصحاب روس أموال موظفة في الاقتصاد الإنتاجي أو حتى الخدمي. ولكن كانت هناك في واقع الحال كثرة من البدو وكثرة من الفلاحين وهما يشكلان فئات اجتماعية كادحة وفقيرة, وبجوار هؤلاء كانت هناك فئة شيوخ العشائر وكبار الملاكين والميسورين في المدن، إضافة إلى التجار الذين ارتبطوا بالتجارة مع الشركات البريطانية بشكل خاص استيراداً وتصديراً، والتي أطلق عليها بالكومبرادور. وكانت القوى التي تربعت على رأس السلطة قد انحدرت من الضباط السابقين ومن شيوخ العشائر أو من يمثلهم والعائلات الميسورة في بغداد. أي أن الحكم كان يمثل هذه الفئات ومصالحها وكانت القوانين والمراسيم تصب في مصلحة هؤلاء عموماً. وفي الوقت الذي كان ينعم شيوخ العشائر وكبار ملاكي الأراضي الزراعية بالمال والراحة والنعيم النسبي، كان الفلاحون يعانون من الكدح الشديد والفقر والعوز والهروب من جحيم الريف. استمر هذا الوضع طيلة الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى بعد ذاك رغم مجيء وزراء من وسط المثقفين إلا أنهم كان يعبرون عن ذات المصالح للفئات الغنية والمالكية للأرض. وقد خلق هذا الواقع شرخاً في المجتمع لا شك في ذلك، وازداد هذا الوضع رغم زيادة إيرادات العراق المالية بسبب تصدير النفط الخام حتى نهاية الخمسينيات، وتحسنها أكثر بعد المناصفة في عوائد النفط الخام المالية ابتداءً من عام 1950/1951. ولكن الحكم لم يبذل الجهود الكافية لتوجيه موارد النفط المالية صوب الزراعة لتحسينها، بل بقي معتمداً على كثرة الفلاحين واستغلالهم واعتماد الزراعة غير الكثيفة، مما أدى إلى هروب الكثير من العائلات الفلاحية من الريف إلى المدينة قبل ثورة تموز. وهنا أورد للقارئات والقاء نموذجاً واحداً ما يزال في الذاكرة حين تصدت الشرطة لحركة فلاحية تطالب بتحسين حصتهم من المحصول: فهوسوا الهوسة التالية: (كريم صاحب الأرض التي يشتغل عليها الفلاحون) كريم ياكل عنبر وآنة بليه دنان اسمع يا مفوض كريم يركب كادلاك وآنه بليه نعال اسمع يا مفوض في عام 1950/1951 أمكن تأسيس مجلس الإعمار ومن ثم وزارة الإعمار ووضعت برامج لها، كما قدم خبراء أجانب الكثير من المشاريع الاقتصادية والصناعية للحكومة العراقية. والحقيقة نشير إلى إن البرامج الاقتصادية التي بدأت الحكومة بوضعها منذ العام 1938 حتى سقوطها عام 1958 لم ينفذ منها إلا النزر اليسير. وأكثر المشاريع الحكومية التي نفذت كانت في الفترة 1952-1958، وهي قليلة جداً بالقياس إلى موارد العراق المالية حينذاك وحاجة العراق لها. لقد كانت هناك عدة عوائق أمام التصنيع، مما وسم الاقتصاد العراقي بسمة الريعية الفعلية وأوجد منها دولة ريعية غير ديمقراطية وليست استبدادية بالمعنى الصحيح للاستبداد، إلا حين كانت تصدر الأحكام العرفية فتكون الأحكام قرقوشية. وهنا تحضرني بعض من تلك الأحكام القرقوشية التي كانت تصدرها المحاكم العرفية في العهد الملكي، ومنها ما صدر بعد وثبة كانون الثاني 1948، بعد أن أصبح محمد حسن الصدر رئيساً للوزراء وفرضت الأحكام العرفية ونصب عبد الله النعساني حاكما. جاء في مقال للكاتب جاسم المطير، ما يلي: "كان القاضي العسكري العراقي الشهير (عبد الله النعساني) حراً ، تماماً، وسعيداً، تماماً، في كونه ومجلسه العرفي العسكري عام 1948 – 1949 بإصدار القرارات الظالمة بالجملة على الواقفين في قفص الاتهام حين قال هذا القاضي العسكري قراراته الغريبة بالحكم على كل المتهمين الواقفين امامه وكان عددهم 50 متهما( من صاحب السترة الزرقاء حتى صاحب البنطلون الاسود) بالحبس الشديد لمدة 15 سنة من دون الاشارة الى اية تهمة جنائية او سياسية، من دون تقديم ما يكفي من الدلائل بالحكم على المناضلين الواقفين أمامه. في اليوم التالي غطس في نفس الغرابة حين أصدر قرارا بالحكم 10 أعوام على مجموعة الواقفين بالقفص (ابتداء من الشاب ابو الشارب الاسود وصولا الى التأشير على الرجل القصير) المتهم الواقف في نهاية الصف." (راجع: جاسم المطر، 100 عام من الفساد في تاريخ القضاء العراقي..، موقع كتابات). يمكن إيراد العوامل التالية التي كانت تعيق التنمية الصناعية في العراق: أ. ذهنية الحكام كانت لصيقة بذهنية كبار الملاكين وكبار التجار الذين كانوا لا يرون ضرورة التصنيع بل اعتماد الاستيراد باعتباره الأفضل، وهي تحمي تلك الفئات من نشوء برجوازية صناعية وطنية وطبقة عاملة ووعي جديد. ب. كانت ذهنية الحكام أيضاً تؤكد أن ليست هناك من ضرورة لتدخل الدولة في الاقتصاد والتصنيع بل القطاع الخاص، ولكن لم تكن لدى القطاع الخاص إمكانيات ولم توفر له الدولة مستلزمات الاستثمار الواسع. ت. لم يكن البريطانيون، أصدقاء نوري السعيد، راغبين في أن تتطور الصناعة العراقية ويكفي أن لها صديق متقدم صناعياً هو بريطانيا يمكنها أن تمد السوق العراقي بما يحتاجه من سلع مصنعة، وأن على العراق أن يأخذ بنظرية "التكاليف النسبية"، التي اقتنع بها الحكام ومارسوها إلى أبعد الحدود. من هنا نشأت معارضة ليس سياسية فحسب، بل واقتصادية من جانب بعض أصحاب الأموال الذين رغبوا في توظيف رؤوس أموالهم في مشاريع صناعية فنهضت حملة متواصلة بدأت في نهاية الثلاثينيات واستمرت حتى سقوط الملكية تطالب بالتصنيع بثلاثة اتجاهات صناعة حكومية، صناع يقوم بها القطاع الخاص وصناعة ينهض بها قطاع مختلط حكومي-خاص، إضافة إلى إمكانية قيام شركات أجنبية للتوظيف في العراق. لم تبادر الحكومة العراقية إلى معالجة ملكية الأرض الزراعية رغم المطالبات والانتفاضات الفلاحية التي لم يحىكها كلها الحزب الشيوعي العراقي. وكان الحل الذي طرحه نوري السعيد في خطابه المشهور الذي صاح فيه من الإذاعة العراقية ببغداد "دار السيد مأمونة"، وقال فهيا "تحل مشكلة الأرض من خلال وفاة الشيخ صاحب الأرض الواسعة ويترك لأبنائه الكثر الأرض لتقسم بينهم، وهكذا تحل مشكلة الأرض تدريجاً" هذا هو مضمون الخطاب الذي سمعته بإذني، وتحدث عن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي حينذاك نيكيتا خروشوف، ولكنه قالها بطريقة تبدو وكأنها "خره الشوف". لم يكن نوري السعيد عميلاً لبريطانياً، بل كان حليفاً لها، ولكن الحليف الصغير أمام الكبير، أولاً، وكان مؤمنا بأنها الدولة الوحيدة القادرة على حماية العراق من الإيرانيين والأتراك وتحافظ على حقوق العراق، ثانياً، ولكنها هي التي افردت الكويت وعزلته عن قضاء البصرة ايضاً وكان جزءاً في فترة الحكم العثماني، وكان في الوقت مناهضاً للشيوعية ومنسجماً مع بريطانيا في هذا الصدد ثالثاً. لقد كان نوري السعيد ملكياً ومخلصاً للعائلة المالكة ولكنه كان ضد عبد الإله، وكان فردياً وعنيداً ومخلصاً لبريطانيا. التزم نظام الحكم الملكي في العراق بدستور ديمقراطي كان أبعد بكثير من مستوى تطور المجتمع، وهذا صحيح، ولكن ألا يستوجب هذا التزم الحكومة بتنفيذ بنود هذا الدستور؟ طبعاً هذا واجب أصيل. ولكن ماذا كانت تفعل حكومات تلك الفترة، ولاسيما نوري السعيد؟ أورد مثالاً واحداً من ملفات مجلس النواب. بصدد تزوير عملية الانتخابات في العراق ضد قوى المعارضة السياسية. وهذا ليس سراً. ففي تحدٍ فريد من نوعه حقاً حصل في الثلاثينيات من القرن الماضي في إحدى جلسات مجلس النواب حين انتفض نوري السعيد ضد بعض النواب الذي كان قد سانده ليفوز في الانتخابات وقال بصوت حازم، ويجد ذلك من يرغب في محاضر مجلس النواب الملكي، "أتحداكم جميعاً أن يفوز أيٌ منكم بالانتخابات ما لم تسنده الحكومة وتساعد"، فصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير. يمكن أيراد الكثير من الأمثلة والمسائل في هذا الصدد. وقد أسس هذا الوضع غير القانوني لما حصل في العراق فيما بعد. المعارضة العراقية كانت في الغالب الأعم يسارية، هذا صحيح. وكانت في بعض جوانب عمليها متطرفة. ولكن كيف كان سلوك الحكومات العراقية المتعاقبة؟ هل كانت ديمقراطية؟ لم تكن ديمقراطية وكانت السبب وراء المزيد من الصراعات الاجتماعية وليست بالضرورة طبقية، مع واقع نشوء نقابات وجمعيات مهنية ومدنية. أي رمي اللوم على المعارضة العراقية ورفعها عن الحكومة يكون الموقف غير موضوعي وغير عادل بأي حال. 3) ترديد الحزب الشيوعي كالببغاء للصراع الطبقي في العراق. في عام 2003 صدر لي وللفقيد الدكتور زهدي الداوودي كتاباً بعنوان "فهد والحركة الوطنية في العراق"، عن دار الكنوز الأدبية ببيروت. في هذا الكتاب شخصنا مسائل مهمة بصدد الحزب الشيوعي العراقي والتي استندنا فيها على تحليل موضوعي للفترة التي عاش وعمل فيها فهد ولسياساته كسكرتير عام للحزب الشيوعي العراقي. كان للرفيق فهد خطابان: خطاب عن أوضاع العراق الملموسة اقتصادياً واجتماعياً، وهو خطاب ينبع من واقع العراق الفعلي ولصيق به من جهة، وخطاب أممي بعيد كل البعد عن الواقع العراقي وترديد للشعارات الأممية التي لم تكن تتناغم مع أحوال العراق حينذاك. حين تقرأ كراس البطالة ستجد أنه يتحدث عن واقع عراقي، وليس عن واقع أوروبي أو مجتمع طبقي منقسم إلى طبقات متميزة بعضها عن البعض الآخر. ولم يطالب يوماً بإسقاط الملكية، بل كان ينتقد الحكومات العراقية المتعاقبة، وربما كان في ذلك تشديداً يصل إلى مستوى اليسارية الطفولية في فترة نهاية الأربعينيات والنصف الأول من الخمسينيات حين تولى شيوعيون لا يمتلكون رؤية واضحة قيادة الحزب ودفعوا الحزب بالاتجاه اليساري كما في قيادة ساسون دلال، أو فيما بعد قيادة حميد عثمان أو بهاء الدين نوري على سبيل المثال لا الحصر وحين هتفت جمهرة من المتظاهرين "بس تامر باسم العرش نشيلة"، ولم يتردد ثانية فيما بعد. وكان المقصود بباسم بهاء الدين نوري. أما الخطاب الأممي فكان على الدوام يعبر عن الالتزام بما تطرحه الأممية الثالثة، وبعد حلها ما كانت تطرحه المؤتمرات العامة للحركة الشيوعية العالمية. وفي قناعتي كان هذا خطأ غير مبرر وترديد لا معنى له. ورغم هذه الأخطاء على كل منصف أن يتذكر الدور التنويري الكبير الذي مارسه الحزب الشيوعي العراق في المجتمع وفي مواجهة الكثير من القناعات البالة والراسخة ومنها الخرافات التي بثها رجال دين جهلة وغير متنورين. لا أشك بأن الحزب الشيوعي العراقي قد أخطأ في هذه القضية أو تلك. وقد تلقى عواقب ذلك أيضاً، ولكن أعطني شخصاً أو حزباً عراقيا لم يخطئ أولاً، وأن أخطأ، اعترف بخطأه. سأعود إلى موضوع الحزب الشيوعي في حلقات قادمة أيضاً. 4) دور القوى الناصرية في تنشيط المد القومي وعواقبه على العراق. تأثرت الحركة القومية في العراق منذ الثلاثينيات من القرن العشرين بالفكر القومي المتطرف، وأسست نادي المثنى بن حارث الشيباني. "كان رئيس النادي الدكتور صائب شوكت ونائب الرئيس محمد مهدي كبة، الذي أصبح فيما بعد رئيساً لحزب الاستقلال، وهو حزب قومي برجوازي يميني، يقابل حزب برجوازي وطني تقدمي ويساري هو الحزب الوطني الديمقراطي، وعضوية كل من متي عقراوي، خالد الهاشمي، درويش المقدادي، المقدم فهمي سعيد، والدكتور صبري رشيد. وكانت هناك وجوه عديدة ذات نفوذ تعمل في هذا النادي، ومنها الدكتور سامي شوكت، الذي شكل فيما بعد "جمعية الجوال العربي"، التي أدخلت نظام الفتوة في المدارس العراقية، والعميد طه الهاشمي، الذي شارك في عام 1936 بتأسيس "جمعية الدفاع عن فلسطين" وترأسها، وشاركت معه وجوه أخرى مثل سليمان فيضي وسعيد الحاج ثابت والشيخ نجم الواعظ ومحمد مهدي كبة وعيسى طه، وعبد الرحمن البزاز، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء في عهد عبد الرحمن محمد عارف بعد مقتل أخيه عبد السلام محمد عارف في حادث طائرة في العام، ...1966" (راجع: كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 2015، ص 314). وشارك هذا النادي في الكثير من النشاطات مع القنصلية الألمانية، بما فيها محاضرات عن الفكر القومي، وقدم الكثير من القوميين العرب وبعض الطائفيين محاضرات فكرية وسياسية في هذا النادي. وفي الأربعينيات لعبت القضية الفلسطينية دوراً كبيراً في تحريك القوميين العرب والإخوان المسلمين الذين نشطوا الصراع ضد الشيوعيين وضد يهود العراق. وكانت حادثة الفرهود ضد اليهود معروفة ووقعت في البصرة في مايس/أيار والفاجعة الكبيرة وقعت في بغداد في حزيران/يونيو 1941، ثم كان التقسيم الذي وسع وفاقم من النشاط القومي ضد الحكومات في الدول العربية التي ساومت مع إسرائيل وسمحت بهجرة مئات الألوف من اليهود من الدول العربية إلى إسرائيل. وهجر العراق ما يقرب من 120000 مواطن ومواطنة من يهود العراق. وهذه الحركة استعانت بحركة القوميين الناصريين لتتوسع في العالم العربي. وفي عام 1947 نشأت حزب البعث الأكثر تطرفاً في عدائها للديمقراطية والشيوعية واقترابه من الفكر النازي وبعض شعاراته مثل أمة واحدة ذات سالة خالدة، أمة واحدة وجيش واحد. ولكنها مع ذلك توجهت ضد سياسات النظام الملكي في العراق، لأن سياسات ذلك النظام لم تكن ديمقراطية وكانت تثير فئات كثيرة في المجتمع. لقد أقدم النظام الملكي على إعدام مجموعة من الضباط العسكريين ممن شاركوا في انقلاب 1941، وفي عام 1946 أعدم أربعة من الضباط الكرد رغم العفو الرسمي عنهم لأنهم شاركوا في احداث كردستان، وفي عام 1949 أعد خمسة من قادة الحزب الشيوعي العراقي، إضافة إلى من قتل منهم تحت التعذيب أو في السجون (بغداد والكوت) أثناء الإضراب عن الطعام. لم يكن الحزب الشيوعي في سلوكه عنيفاً إزاء نظام الحكم في العراق، ولكنه كان ناقداً شديداً ومعبئا للناس ضد سياسات النظام الملكي. وكان المفروض ألّا يُعامل بالعنف، لأن العنف ينشط المعارضة ويدفعها إلى المزيد من التحريك للشارع، وربما يصل إلى العنف. أتحدث هنا عن معرفة بالواقع إذ عشت هذه المرحلة بكل تفاصيلها وتعرضت لعنف التحقيق والتعذيب الهمجي في فترة الحكم الملكي وسجنت وأبعدت. (راجع: كاظم حبيب، أسبوعان في ضيافة التحقيقات الجنائية في العام 1955، موقع الحوار المتمدن). ولم أكن قد رفعت السلاح بوجه الحكومة أو طالبت بإسقاط الملكية، ولم أكن في حزب رفع السلاح بوجه الحكومة أو طالب بإسقاط النظام الملكي، ولكني طالبت برفض الأحلاف والقواعد العسكرية وطالبت بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لقد قام الحكم الملكي باعتقال القوميين والبعثيين وتم تعذيب البعض القليل منهم، وسجن عدداً أقل منهم، وهذه حقيقة، ولكن لم يكن عدد القوميين والبعثيين كبيراً، بل بعدد أصابع اليدين، في حين بلغ عدد السجناء الشيوعيين والديمقراطيين بالمئات وعلى امتداد الفترة الواقعة بين 1946-1958 وصلوا إلى عدة ألاف. وكان التعذيب، وهو شكل مميز من العنف ومن السفالة يمارس في التحقيقات الجنائية وفي السجون، سواء أكان في سجن بغداد أم في سجن بعقوبة أم في سجن الحلة، إضافة إلى سجني نقرة السلمان والكوت. انتهت الحلقة الثامنة وتليها الحلقة التاسعة
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرات في كتاب: -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
عوني كرومي: خسارة فادحة للإنسان والمسرح
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي - الحلقة
...
-
نظرات في كتاب -مقالة في السفالة- للدكتور فالح مهدي
-
وداعاً أبا مخلص-وفاة الصديق والرفيق والقريب عبد الرزاق الصاف
...
-
حين يغيب الحوار عن السياسة ... يتوقف العقل عن العمل! : المسأ
...
-
لعبة خطرة ومكشوفة يمارسها العسكريون في السودان
-
جريمة بشعة يرتكبها أتباع حزب الفضيلة ضد مقر الحزب الشيوعي ال
...
-
رؤوس نقاط عن مشكلات الاقتصاد العراقي في المرحلة الراهنة
-
خلوة مع النفس بصوت مسموع: الرأي والرأي الآخر
-
رؤساء الدول العربية لا يتعلمون ممن سبقوهم في الحكم: سيسي مصر
...
-
نظرة في كتاب -الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدك
...
-
نظرة في كتاب -الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدك
...
-
نظرة في كتاب -الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدك
...
-
هل من جديد في العراق؟ نعم، تمخض الجبل فولد فأراً!
-
لتكن خبرات عام 1971 و1985/1986 دروساً بليغةً للشعب والأحزاب
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|