بئر السبع
ربما يبدو هذا العنوان الذي يبحث عن الحلقة المفقودة في الخطاب الفلسطيني في الترابط العضوي والمبدئي والتاريخي بين فلسطينيي الداخل (1948) وفلسطينيي الشتات كمن "يحمِّل فلسطينيي الداخل أكثر من طاقتهم"، كما يدعي "مفكرو" المرحلة ممن سلّموا بمخلفات حقبة الهزيمة وتداعياتها، حيث ساهموا عن وعي أو عن غير وعي في تجزئة وتذرير الخطاب الفلسطيني بما يتناسب مع خصوصيات كل قطاع من قطاعات شعبنا وكأن له قضية مستقلة وقائمة بحد ذاتها. وربما يبدو إستفزازياً أكثر أن نذكر بأن اقتلاع وطرد اللاجئين الفلسطينيين ومن ثم فرض الاستعمار الصهيوني على من تبقوا في وطنهم ما هو إلا مشهد واحد من عملية استيطانية كولونيالية متكاملة ومبرمجة إلى أقصى حد من التخطيط والتحالف وتشابك المصالح بين الصهيونية والاستعمار الغربي.
وكما هو واضح من خطاب المرحلة، فإن اختزال القضية الفلسطينية في "إدارة" وليس حتى حل الأزمة بين فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1967 وبين الاحتلال، من خلال تصفية حق العودة وطمس فلسطينيي الداخل على هامش الكيان، يؤكد بأن محاولة تفكيك الشعب الفلسطيني إلى قطاعات متفرقة كلٍ يدير أزمته بطريقته الخاصة وضمن ظروفه الموضوعية التي فرضها الاستعمار أساساً، هي المنعطف الأكثر خطورة في تاريخ القضية الفلسطينية. إن فهمنا الصحيح لجذور القضية الفلسطينية يحتم علينا الربط بين صمود فلسطينيي الداخل أمام محاولات الطمس والتذويب وبين حق عودة للاجئين ومن ثم الارتقاء بنضالهم الجماعي من نضال حول "حقوق مدنية ومساواة" إلى نضال تحرري يمهد الطريق لممارسة اللاجئين حق العودة ولو بعد حين.
لقد أصبح واضحاً بما فيه الكفاية، ومن خلال دراسات قام بها بعض المؤرخين الإسرائيليين الجدد أنفسهم، بأنه كان لا بد أن يحتل مخطط التطهير العرقي واقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه حيزاً أساسيا في مشروع الحركة الصهيونية، وذلك في محاولتها إقامة دولة يهودية نقية في فلسطين. فالتحول الذي حصل عام 1948 سبقته هجرات استيطانية مكثفة، واستيلاء على الأرض بشتى الوسائل الكولونيالية، وبالتالي فأن تجسيد المشروع الصهيوني كان لا يمكن أن يتم إلاّ على حساب تدمير ما يقارب 530 قرية فلسطينية وطرد أهلها خارج الوطن. وهكذا ولدت قضية اللاجئين، التي شكلت منذ البداية العمود الفقري في مسيرة حركة التحرر الوطني حتى أن تم محاولة تصفيتها وشطبها في مسلسل أوسلو. وبالمقابل، فالأقلية المتبقية من شعبنا من الذين لم تتمكن العصابات الصهيونية من اقتلاعهم من أرضهم آنذاك يشكلون الوجه الأخر والمكمِّل لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وأكثر من ذلك، فهم الجزء الوحيد المتبقي شاهداً على عروبة الأرض التي اغتصبها الكيان الصهيوني في المرحلة الأولى من تجسيده في قلب الوطن العربي.
وهكذا نلاحظ ومن خلال قراءة بسيطة جداً للأمور بأن الكيان الصهيوني قد توجه منذ أن فرض وجوده على الأرض إلى استهداف ومحاربة الوجود الجماعي الفلسطيني على صعيدين متداخلين ومتواصلين ألا وهما تذويب وامتصاص الأقلية المتبقية في وطنها على هامش "مجتمع الاستعمار" لأنه لم يعد من الممكن التخلص منهم عملياً، أي الترحيل، (رغم أن هذه الإمكانية ما زالت واردة في حسابات القيادة الصهيونية)، والعمل على تشريد وتوطين اللاجئين في الشتات ثم الحيلولة دون حقهم في العودة إلى البقعة التي أقيم عليها الكيان مهما كلف الثمن.
لا داعي للتذكير بأن الثورة الفلسطينية المعاصرة قد انطلقت قبل احتلال 1967، أي على خلفية الانتقال من الاستعمار البريطاني المباشر لفلسطين إلى الاستعمار من خلال الكيان الصهيوني عام 1948، حيث نظم الثورة المسلحة وقادها اللاجئون الفلسطينيون بداية في الأردن ومن ثم في لبنان، حتى أن هُزمت عسكرياً في اجتياح 1982 وتخلت قيادتها عن مقاتليها وقواعدها ولاجئيها الذين شكلوا حطب الثورة، وذلك عندما رحلت القيادة المهزومة عن بيروت وتحولت إلى العمل المكتبي والبيروقراطي في تونس (وحتى حكومة في المنفى بدون دولة ولا شعب!).
مع تخليها عن الثورة وانتقالها إلى العمل المكتبي تخلت القيادة الفلسطينية عن اللاجئين، سندها الأساسي في حقبة العمل المسلح، وتوجه كل اهتمامها نحو إنقاذ ذاتها ومصالحا الطبقية والعودة بجلدها وبعض المقربين لها على ظهر الانتفاضة التي فجرها فلسطينيو احتلال 1967 لتحكم وتتحكم بفلسطينيي الضفة والقطاع، حيث كان المد الطبيعي بعد بيروت هو سحب الثورة إلى الداخل، وهو ما دفع قيادة الكيان الصهيوني للتعاطي مع قيادة ثورة مهزومة بعد أن فشلت في كسر شوكة الانتفاضة. ففي كل هذا كانت الحلقة المركزية هي إدارة الأزمة مع سكان الضفة والقطاع من خلال شطب حق العودة وامتصاص فلسطينيي الداخل على هامش الكيان الصهيوني. ومع انحدار قيادة المنظمة في منزلق التسوية تزايد الانتباه بين الأوساط الشعبية التي يخصها الأمر مباشرة إلى خطورة وإمكانية التفريط بحق العودة. فقد تداخل الوعي الشعبي العفوي في مخيمات اللاجئين بأهمية حق العودة مع المجهود الفكري والثقافي الذي حافظت عليه قلة صلبة من المثقفين العضويين الذين أعادوا تجليس قضية حق العودة في مركز الصراع مهما تم محاولة التلاعب بها .
من الواضح بأن الحلقة المفقودة في الخطاب الفلسطيني منذ خروج المقاومة من بيروت وبداية الانزلاق نحو الحلول الامريكية هي الربط الفكري والتاريخي والعملي بين صمود فلسطينيي الداخل أمام مخطط التأقلم والتذويب على هامش الكيان الصهيوني من جهة، وتمسك اللاجئين بحقهم الشرعي والمقدس في العودة إلى وطنهم من جهة أخرى. عدم الإندماج على هامش الكيان الصهيوني يتعدى التشدق اللفظي بهويتنا القومية كعرب فلسطينيين في حين ننغمس في مؤسسات الكيان الرسمية والتشريعية لاهثين وراء شعارات جوفاء من قبيل "المساواة والمواطنة التامة" والتي لا يمكن تحقيقها في ظل واقع استعماري كالذي نعيشه. وهكذا فلا بد أن يصبح شعار "رفض الاندماج" ممارسة جماعية يومية تقود إلى نمط حياة بإتجاه وضع الكيان في تناقض مستمر من الداخل يمهد من خلاله هذا الجزء المتبقي من شعبنا في الوطن إلى حق العودة.
ففي محاولتنا للإجابة على السؤال المتعلق بالدور المناط بفلسطينيي الداخل في معركة حق العودة، والتي تشكل دون أي شك المدخل الصحيح والوحيد لحل القضية الفلسطينية، بإمكاننا تسجيل بعض النقاط العملية التالية، باعتبارها بداية لصياغة برنامج ثوري لا يقبل المساومة يمهد لإعادة اللحمة لأجزاء الشعب الواحد وينقلنا إلى مرحلة ما بعد الهزيمة.
أولاً، لقد آن الأوان للانتقال من مقاطعة البرلمان الصهيوني إلى المناهضة الفعالة لعملية الاندماج. لقد تشكلت "الحركة الشعبية لمقاطعة انتخابات الكنيست الإسرائيلي" عشية انتخابات البرلمان الصهيوني الأخيرة بمبادرة حركة أبناء البلد وشخصيات وطنية عديدة ومتنوعة تدعو جميعها لمقاطعة الانتخابات الصهيونية. وكان من الواضح من خلال نشاطات وفعاليات هذه "الحركة الشعبية" أن هنالك حاجة ملحة وضرورية لإعادة بلورة وتنظيم صفوف التيار القومي اليساري الذي يرفض مفهوم الطمس والتذويب والمشاركة في لعبة مؤسسات الكيان الصهيوني الرسمية، وعلى رأسها البرلمان.
فالنقلة النوعية هذه والتطور الملموس في اتجاه جمع عناصر الحركة الوطنية بين صفوف الجماهير وليس تحت سقف البرلمان، يستلزم بلورة وتطوير هذه الحركة لتصبح تياراً شعبياً فعلاً هو عبارة عن تحالف جبهوي لا برلماني يكون برنامجه الأساسي العمل، بشكل متواصل وليس موسمياً، على ترسيخ الهوية والانتماء القومي لفلسطينيي الداخل من خلال بناء وتعزيز مؤسساتنا الوطنية المستقلة والعودة تدريجياً إلى العمل الجماهيري البديل لمهاترات البرلمان "كالمنبر" الوحيد لإسماع صوتنا والحصول على بعض حقوقنا المدنية. إن حقوقنا الإنسانية والمطلبية (من أجل الصمود وليس من أجل التكييف) والتي تتقاطع مع حقوقنا القومية وعلى رأسها حقنا الشرعي في الوطن، هي ابعد من حقوق مدنية على هامش المواطنة والتي تأتي مقابل ثمن يطول هويتنا القومية والمساهمة في شرعنة الاحتلال. نحن بحاجة ملحة إلى العودة لمشاريع العمل التطوعي، والضغط الجماهيري، وبناء مؤسساتنا المدنية والاقتصادية المعتمدة على الذات، وكل هذا إضافة إلى ما يمكن تحصيله من بين مخالب سلطات الكيان.
ثانياً، نحن بحاجة إلى مشروع تربية وطنية شعبية بديلة لتثبيت هويتنا بدل من الانتظار لكي تمنحنا إسرائيل "حكم ذاتي ثقافي". في سبيل الحفاظ على هويتنا القومية وانتمائنا للوطن والتمهيد لعودة باقي شعبنا المشرد، وليس الهوية بمفهومها الرمزي المفرغ بمعنى "نحن هنا وشعبنا هناك"، لابد من خلق بديل تربوي شعبوي تحرري شامل يخرج عن المألوف يعتمد على تقوية الناس ووضعهم في مركز الحدث التربوي بدل من نضال النخبة السياسية نيابة عنهم وهو ما يسهل احتواء هذه النخبة وعزلها عن مصالح جماهيرها الحقيقية. ان مشروعا تربويا كهذا لن يأتي بديلا عن التعليم الرسمي، ولكنة يجب ان يكون مجهود جماعي شامل يهدف الى بناء وتعزيز وبلورة الهوية القومية لدى الاجيال الشابة ومن ثم فرض هذه الهوية وتجلياتها على المدرسة والمؤسسات الرسمية.
فقط عندما تشعر السلطة بأن هنالك جيل فلسطيني غاضب مسلح بوعيه لهويته وانتمائه القومي ومصمم على كسر الطوق التجهيلي المفروض عليه، عندها فقط ستتكيف مؤسسة التعليم الرسمي للواقع الجديد. باختصار، التغيير في الدور الاجتماعي السياسي للمدرسة يتبع كنتيجة لتراكم وعي جماعي جماهري يفرض على المدرسة التكيف له وليس المدرسة كمؤسسة رسمية خاضعة لسيطرة السلطة هي التي تقوم وبقرار سياسي من الجهاز الرسمي بتبني مشروع تثقيفي قومي لدى الشعب الفلسطيني. ولكن برنامجا قوميا نهضويا مقاوما بهذه الأهمية والشمولية لا يمكن ان تحققه زعامات نخبوية برجوازية تابعة تشير بوصلتها بشكل دائم نحو البرلمان الصهيوني.
التربية الوطنية الشعبية لأجيالنا القادمة لا بد أن تشمل تعريف منهجي مدروس (وليس زيارات استجمام) على معالم وجغرافيا الوطن مع التركيز بشكل خاص عل القرى التي هدمها الاحتلال وشردّ اصحابها. كجزء مكمل لهذا المجهود التربوي يجب تنظيم زيارات لمن يمكنه العودة من اللاجئين للوطن (كثيراً منهم يحملون جنسيات أجنبية تمكنهم من ذلك) وهذا بعكس "زيارات الشام" التي كان أساسها أن اللقاء بين فلسطينيي الداخل وأهلهم من اللاجئين هو عمل إنساني لا أكثر، يصادق على بقاء كل جزء في مكانه مع القفز عن تحويل هذه الزيارات إلى خطوة عملية على طريق ممارسة حق العودة.
ثالثاً، يجب الإنخراط بشكل جماهيري منظم في حركة "العودة" العالمية. رغم الموقف الرسمي المجحف بحق قضية اللاجئين الفلسطينيين – حيث تقوم الولايات المتحدة بتدمير يوغسلافيا والعراق بحجة الدفاع عن حق اللاجئين الالبان والأكراد في حين تستمر في دعم الكيان الصهيوني على حساب تشريد ضحاياه من اللاجئين الفلسطينيين – فإن الموقف الشعبي في الدول الغربية والعالم متفتح وقابل لدعم قضية لاجئي شعبنا كونها قضية عادلة وصريحة وواضحة وممكن فهما والتعاطف معها من قبل المواطن الغربي العادي. فعلى هذا الأساس تشكلت حركة "العودة" عشية مؤتمر كامب ديفيد 2000 حيث كان شعارها عدم المساومة على حق العودة للاجئين الفلسطينيين كما كان متوقع أن يحصل في مفاوضات الحل النهائي. وكما هو معروف فكانت القشة التي قصمت ظهر أوسلو هي محاولة شطب حق العودة، وهذا ضاعف الالتفاف حول حركة "العودة"، لتصبح حركة عالمية شبيهة من حيث مدى انتشارها ونمط عملها بحركة مقاطعة نظام الابارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كان للأخيرة دور أساسي في تفكيك ذاك النظام التوأم للكيان الصهيوني.
وبما أن بوصلة العودة تشير دون شك إلى ذلك الجزء المحتل من فلسطين عام 1948، فأن مشاركة الفلسطينيين في هذا الجزء من الوطن في فعاليات ونشاطات حركة "العودة"، والتي هي نشاطات إحتجاجية وإعلامية بالأساس، هو ممكن ومؤثر وجوهري. فعلى سبيل المثال، بالإمكان تشكيل فرع لحركة "العودة" في الداخل، استغلال شبكة الاتصالات الالكترونية إلى أقصى حد من اجل التواصل مع باقي العالم (وهو ما يشكل كابوس حقيقي للكيان الصهيوني)، تنظيم زيارات تضامنية واستقبال الوفود من الخارج وتعريفهم على معالم الوطن الذي يطالب اللاجئين بالعودة أليه، المشاركة الفعالة في المظاهرات والحملات الإعلامية التي تنظمها "العودة" ... الخ، وكل ذلك من موقعهم المميز في الداخل يعطي لنشاطات هذه الحركة العالمية زخما حقيقيا وامتدادا عمليا يقرب من تحقيق أهدافها وشعاراتها، ألا وهي عودة اللاجئين إلى وطنهم.
***********
كنعان