أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة
أصبحت الديمقراطية أحد بنود جدول الأعمال الأميركي لمستقبل الوطن العربي قبل غزو العراق وبعده• وأصبحت ذريعة للتدخل في نظم الحكم لدرجة قلبها من الداخل أو غزوها من الخارج• وهي حجة تخدع الرأي العام، وتجعل الغرب عامة وأميركا خاصة نموذج العالم الحر الديمقراطي الذي يرعى حقوق الانسان والشعوب معا• وتسمح للقوى الأجنبية بتمويل مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل للغاية نفسها على رغم اختلاف الأهداف، السيطرة من جانب القوى الخارجية، والعمل الوطني الديمقراطي من جانب القوى الداخلية لو خلصت النوايا وعلى رغم مما يشوب الدعم الأجنبي من تساؤل عند المثقفين الوطنيين وبسطاء الناس•
وتسمح نظمنا السياسية بذلك، وتعطي الذرائع للقوى الأجنبية للتدخل للحكم عليها إيجابا أم سلبا• فتصدر أميركا بيانا ضد مد مجلس الشعب في مصر لقانون الطوارئ سنوات أخرى وتغفل عن عمد إلغاء مصر لمحاكم أمن الدولة لصالح القضاء العادي• وتقف لبعض مراكز البحوث والمشرفين عليها بالمرصاد إذا ما تجاوزوا الخط الأحمر وتعرضوا للمسكوت عنه مثل تداول السلطة بطريقة الجمهوريات الملكية، والنظم العسكرية، والإشراف الدولي على الانتخابات المحلية، ونسيج الوحدة الوطنية، ونشر المعلومات عن الوطن في الخارج، والخارج يعرف عن الوطن أكثر مما يعرف الوطن عن نفسه•
كما تعطي المعارضة السياسية الذريعة نفسها لنظم الحكم في الداخل أولا ولقوى التدخل في الخارج ثانيا• فقد تناقلت وكالات الأنباء نبأ تأييد الناصريين لمد قانون الطوارئ ضد جماعات الإرهاب والمقصود بها الحركات الإسلامية استمراراً لخصام قديم منذ أزمة مارس في 1954 في الجمهورية الأولى واستمرارا لها، وقد كانوا ضحية لها منذ 1971 في الجمهورية الثانية عندما أُطلق الإسلاميون على الناصريين تمهيدا للانقلاب على الثورة• وما زالت الوحدة الوطنية بعيدة المنال وتسير على استحياء في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الأمة العربية، ويبيت فيه العدوان على العراق أولا، وإيران وسوريا ولبنان ثانيا، والسودان والسعودية ومصر ثالثا• ومن يفرط في أخيه اليوم يفرط أخوه فيه غدا• ويستمر شق الصف الوطني، ويتباعد جناحا المعارضة الرئيسية ويقوى النظام•
الغاية الحقيقية من فرض الديمقراطية على أسنة الرماح ليست الديمقراطية بل السيطرة على مقدرات الشعوب وفرض نظم حكم تابعة للقوى الكبرى لتحقيق هيمنتها، والقضاء على النظم السياسية المستقلة التي توصف بالدول المارقة أو تكوّن محور الشر مثل العراق وإيران وكوريا أو الدول الراعية للإرهاب مثل سوريا وليبيا والسودان• وكلها أقطار عربية إسلامية باستثناء كوريا•
ولا تعني الديمقراطية المفروضة من الخارج حرية التعبير للأفراد أو التعددية السياسية والانتخابات الحرة والوزارة المسؤولة والدستور بل تعني النظام السياسي التابع للولايات المتحدة الأميركية، والتخلي عن السيادة الوطنية، ورفع الحواجز الجمركية، وفتح الأسواق المحلية، والتوقيع على اتفاقية الجات ، وقبول توصيات البنك الدولي وصندوق النقد، والتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية حتى تجد العولمة النظم السياسية المواتية لها حتى يعم اقتصاد السوق، وتصدر مجموعة الدول الثماني منتجاتها من المركز إلى الأطراف• فالعولمة أحد أشكال الهيمنة الغربية من خلال السوق والثقافة، المنافسة والربح وقيم الاستهلاك• فالديمقراطية عنوان الليبرالية، والليبرالية حامل الرأسمالية• وتكون النتيجة أن المجتمعات التقليدية التي مازالت تصارع من أجل التحول الديمقراطي تتحول فيها الرأسمالية دون شروطها الليبرالية فتصبح فسادا وإثراء وترهيبا لرؤوس الأموال إلى الخارج وتخلفا وفقرا•
والغاية أيضا هي القضاء على ما تبقى من نظم اشتراكية في بلدان العالم الثالث• فقد ولى عهدها وسقطت أنظمتها منذ أكثر من عقد من الزمان• وانتصرت الرأسمالية، وانتهى التاريخ، وتوقفت عقارب الساعة• ولم يبق إلا صراع الحضارات لكي يخفي صراع المصالح والمعسكرات بين العالم الحر والنظم الشمولية• الغاية هي الدخول في السوق العالمية وسيولة رأس المال العالمي، وتقسيم العمل، ونهاية القطاع العام وإعطاء الأولوية المطلقة للقطاع الخاص، والتعامل مع الحاجات الأساسية بأسعار السوق، وانحسار دور الدولة في التخطيط الاقتصادي ودعم الطبقات الأقل قدرة• وأصبح صدام الحضارات هو كلمة السر للحروب القادمة بما في ذلك الحرب العالمية الثالثة•
والغاية أيضا إنهاء روابط الوحدة بين البلدان المجاورة، فقد ارتبطت الاشتراكية بالقومية وليس بالأممية الاشتراكية أو الرأسمالية كما اتضح ذلك في الاشتراكية العربية، والاشتراكية الأفريقية، والاشتراكية الأميركية اللاتينية، والاشتراكية في أوروبا الشرقية قبل انهيارها• فالعولمة حركة ذات اتجاهين، توحيد المركز وتفتيت الأطراف• والقومية بطبيعتها مناهضة للهيمنة ودعوة إلى الاستقلال كما حدث في القومية العربية إبان المد القومي العربي• فلا مجال للتعاون الإقليمي أو للاعتماد المتبادل بين دول الجوار ولا للسوق العربية المشتركة أو لسوق أميركا اللاتينية أو لمجموعة الثماني والعشرين في جنوب شرق آسيا ولا حتى للسوق الأوروبية المشتركة• فقد ابتلعت العولمة كل شيء باسم العالم قرية واحدة، وتكنولوجيا الاتصالات، واقتصاد السوق وقوانينه•
والحقيقة أن الديمقراطية ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لتحقيق غاية أخرى، وهي مجموع المقاصد والأهداف التي يضعها المجتمع من أجل العدالة والتنمية• ليست الديمقراطية مجرد شكل، تعددية حزبية، وانتخابات حرة، وبرلمان، ودستور، وحرية صحافة بل أيضا مجموعة الأهداف والغايات التي تعمل لها الأحزاب الديمقراطية• ففي النظام الأميركي الذي يضرب به المثل في الديمقراطية لا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في العدوان على العراق، وفي التأييد المطلق لإسرائيل والتسابق نحوها والسعي إليها كسبا لأصوات اليهود في الانتخابات الرئاسية وفي نقل السفارة الأميركية إلى القدس• وفي بريطانيا صاحبة الديمقراطية العريقة، لا فرق بين العمال والمحافظين أيضا في العدوان الثلاثي على مصر في ،1956 وفي العدوان الواقع على العراق، وفي مناصرة إسرائيل إلا في الدرجة وليس في النوع• وقد أيدت كل الأحزاب الليبرالية والديمقراطية في الغرب المد الاستعماري الأول في القرن التاسع عشر وحتى هذا القرن وهي منتخبة انتخابا ديمقراطيا• والنازية والفاشية تم انتخابهما أيضا انتخابا ديمقراطيا في ألمانيا وإيطاليا قبيل الحرب العالمية الثانية•
وليست الديمقراطية تصورا كميا للأصوات، الأغلبية تحكم ضد الأقلية وعلى رغم منها، فهذا قهر للأقلية لحساب الأغلبية العددية• إنما الديمقراطية هي التي تنشأ عن توافق في الرأي وإجماع وطني عام بعد المداولات والمناقشات والمشاورات ضد التفرد بالرأي وإصدار القرار• الديمقراطية جوهر ومضمون ضد التسلط والقهر كنظام وبنية• الديمقراطية تعددية طبيعية في الرأي تقوم على حق الاختلاف وشرعيته ضد الرأي الواحد والحزب الواحد و الفرقة الناجية •
لقد أيدت الولايات المتحدة الأميركية أعتى النظم التسلطية في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وفي الوطن العربي طالما كانت تحقق مصالحها في السيطرة، وإقامة الأحلاف، والعداء للمعسكر الاشتراكي في عصر الاستقطاب• فإذا ما خرجت هذه الأنظمة عن بيت الطاعة، وأصبحت من الدول المارقة ومن محور الشر تتحول أميركا ضدها لأنها أصبحت لا تتعاون معها بما فيه الكفاية وإلى الحد الأقصى أو لأنها حاولت التمسك باستقلالها الوطني• وسرعان ما يفتح ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد والإرهاب، أداة ضغط على النظم السياسية كي تعود إلى الحظيرة الأميركية•
بل إن الولايات المتحدة طالما وقفت ضد المعارضة السياسية التي تناضل من أجل الديمقراطية لأنها أيضا مناهضة للنظم السياسية التابعة والحليفة لها• وطالما اتهمتها بالشيوعية وممارسة العنف والعمالة للاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة• بل إنها تحاول أن تقلب النظم الديمقراطية المناهضة لها كما فعلت في الانقلاب على ألليندي في شيلي وفي عدم الاعتراف بسلطة ياسر عرفات وهو منتخب ديمقراطيا من الشعب الفلسطيني أمام العالم أجمع•
وقد حدث رد فعل في حركة النضال الوطني من أجل الديمقراطية برفضها أن تضع نفسها في الخندق الأميركي نفسه وعل جدول الأعمال الأميركي نفسه وباللغة والمصطلحات الأميركية نفسيهما وإن تغيرت الأهداف• فقد ارتبطت الديمقراطية بالولايات المتحدة الأميركية في أذهان البسطاء وغير السياسيين، وتوارى ارتباطها بالنضال الوطني المجرّح من الأنظمة السياسية التسلطية في الداخل• وبات من اللازم التفرقة بين الديمقراطية على أسنة الرماح المفروضة من الخارج لصالح القوى الخارجية، والديمقراطية كمطلب وطني من الداخل• الديمقراطية الأميركية كلمة حق يراد بها باطل ، والديمقراطية الوطنية كلمة حق يراد بها حق، الأولى الديمقراطية بالقوة الخارجية وهي نقيض الديمقراطية، والثانية الديمقراطية بالنضال الوطني الداخلى، بيدي لا بيد عمرو •
إن الغزو الأميركي ضد العراق باسم الديمقراطية قد يوحد الشعوب ضد العدوان، ويلغي التناقضات الثانوية بين الأنظمة العربية من أجل الإبقاء على التناقض الرئيسي بين قوى العدوان الخارجي والقوى الوطنية الداخلية• وقد يتفتت العراق بين دولة شيعية في الجنوب، وسنية في الوسط، وكردية في الشمال• وقد تتصارع قوى المعارضة العراقية البديلة بين القوى الوطنية والقوى المتحالفة مع العدوان الأميركي التي تدخل بغداد على فوهات المدافع وطلقات الرصاص وأزيز الطائرات والصواريخ• حينئذ، قد تحنّ الدول إلى توحيد الأمة• وقد تحنّ الشعوب إلى الدولة الوطنية المركزية القادرة على حماية وحدة التراب الوطني• حينئذ تضحي بالديمقراطية في سبيل الوطن• فوطن موحد قوي يضحي بالديمقراطية خير من وطن مجزأ باسم الديمقراطية• وتفتيت الوطن العربي أحد أهداف الاستعمار الجديد، وقسمته إلى عرب وأكراد وبربر، وسنة وشيعة، وأقباط ومسلمين حتى تصبح إسرائيل هي أقوى دولة طائفية عرقية في المنطقة• وتأخذ شرعية جديدة من داخل المنطقة وليس من خارجها، أرض المعاد لـ شعب الله المختار والتي يعدها الكثير من أساطير الأولين•
الأتحاد الأماراتية