محمد أحمد الزعبي
الحوار المتمدن-العدد: 6242 - 2019 / 5 / 27 - 21:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
الربيع العربي وجدلية التراث والمعاصرة
د. محمد أحمد الزعبي
14.03.2016 ( إعادة نشر بعد الإضافة والتعديل )
اولا في تحديد المفاهيم :
ينطوي عنوان هذه المقالة على ثلاثة مفاهيم هي ( الجدل والتراث والمعاصرة ) ، ينبغي توضيحها أولاً ، ومن ثم الانتقال إلى العلاقة الجدلية فيما بين التراث والمعاصرة ، وهو مايمثل موضوع هذه المقالة . هذا مع العلم أن المفاهيم بصورة عامة ، إنما تولد من رحم اللغة ولكنها في كثير من الحالات ، ورغم بقاء الحبل السري الذي يربط المفهوم بأصله ( جذره ) اللغوي ، فإن هذا المفهوم يمكن أن يبتعد قليلا أو كثيراً عن هذا الأصل ، ليكتسب بتغير الزمان والمكان والأحداث معنى اصطلاحيا جديدا . فمفهوم " التراث " مثلا إنما يتفسر بالفعل الثلاثي " ورث " وهو انتقال ماكان بحوزة الأموات إلى الأحياء ، سواء أكانت أشياء مادية أو معنوية ، ويكون التراث بهذا المعنى هو " الإنتاج المادي والروحي الذي يورثه السلف إلى الخلف " ، أما اليوم فإن هذا المفهوم بات يتفسر بنقيضه " المعاصرة " أكثر مما يتفسر بأصله اللغوي ، ولكن هذه " المعاصرة " سوف تتحول غداً بدورها إلى تراث . وذلك بعد مرور حقبة تاريخية طويلة إلى حد ما تفصل بين الأمس واليوم . ألم يكن الإسلام يوم نشأته الأولى يعتبر حداثة ومعاصرة بالنسبة إلى العصر الجاهلي ؟ ، وبالتالي ألم يكن العصر الجاهلي يعتبر يوم جرى تجاوزه بالإسلام تراثا ؟ . أي أن إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة كانت موجودة أيضاً في حينها . ولكن الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع قديمه وحديثه هي : ماهي المحددات الاجتماعية النظرية والعملية التي تفصل بين زمني التراث والمعاصرة ؟ . إننا واقع الحال أمام مايمكن أن نطلق عليه " السيولة التاريخية "، أو "الأبواب المفتوحة" بين العصور بمختلف مسمياتها ( القديمة ، الوسيطة ، الحديثة / قبل الميلاد ، وبعد الميلاد الخ) ) وبالتالي بين مفهومي وبين زمني التراث والمعاصرة .
إن مفهوم " العلاقة الجدلية " ، يمكن أن يساعد الباحث هنا في حلحلة هذه الإشكالية المعرفية ، وذلك من خلال رؤيته أن الواقع الملموس الذي يعيشه الباحث اليوم ، إنما هو الابن الشرعي لليوم الذي عاشه آباؤه وأجداده بالأمس ، والأب الشرعي أيضاً لليوم الذي سيعيشه أولاده وأحفاده غداً ، أي أن علاقة جدلية تربط الحاضر بجناحيه التاريخيين : الماضي والمستقبل ربطا جدليا بمعنى التأثير المتبادل أفقيا وعموديا بين أضلاع مثلث (الماضي - الحاضر- المستقبل) الأمر الذي تنتفي معه عملياً العلاقة العدائية بين التراث والمعاصرة لتحل محلها علاقة القرابة البيولوجية والاجتماعية والفكرية على مدى مرحلة الانتقال الطويلة من التراث إلى المعاصرة ، و التي يصعب وضع حد زمني بالشعرة لها (على حد تعبير المرحوم حسين مروة )، ( أنظر : مجلة الثقافة الجديدة ، عدن ، 1979، ص 137 ) . إن هذه الرؤية التاريخية الجدلية الموضوعية ، للمرحلة الانتقالية الطويلة التي تمثل الحاضرالذي يتعايش ويتداخل على صعيده وفي بنيته الداخلية كل من الماضي والمستقبل ، تتنافى عملياً مع فكرة "القطع " مع التراث التي طالما ألح عليها المرحوم محمد عابد الجابري . يقول الدكتور الجابري حول مسألة القطع مع الماضي "إن ما جعل الرشدية تدخل التاريخ في نظرنا ،هو قطيعتها مع السينوية " ( أنظر كتابه ، نحن والتراث ، قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ، دار الطليعة ، بيروت 1982 ط2 ، ص 71 ) وتعليقنا على رؤية المرحوم الجابري ، هو : وهل أصبح ابن سينا(الشيخ الرئيس ) الذي قطع معه ابن رشد ( حسب الجابري )اليوم خارج التاريخ ؟!، أم أن جامعات أوروبا عاشت سبعة قرون مع تراث ابن سينا ، مادة ابن سينا ) . WIKIPEDI في الطب ( القانون في الطب ) والفلسفة ( الشفاء ) . ( أنظر
ثانيا ، في تحديد وتوضيح إشكالات العلاقة الجدلية بين التراث والمعاصرة ،
في إطار العلاقة الجدلية بين التراث والمعاصرة ، يقع الباحث على عدد من الإشكالات والتساؤلات التي تحتاج إلى أجوبة علمية . أبرز هذه الإشكالات والتساؤلات هي :
1. لماذا الاهتمام بالتراث ، وبالتالي بالعلاقة بين التراث والمعاصرة ؟.
وجوابنا : يحمل كل ابن أنثى عند وبعد ولادته وراثتين : وراثة بيولوجية ووراثة اجتماعية ، ويظل المرء منذ وعيه على محيطه الاجتماعي دائم الحرص على القيم والمبادئ التي اكتسبها في الأسرة بداية ولاحقاً في المدرسة وأخيراً عبر الارتباطات الاجتماعية المختلفة ( حزب سياسي ، نادي رياضي ، جمعية خيرية ، الأصدقاء ، الخ ) . إن توقف إنسان البلدان النامية ومنها وطننا العربي عند الجوانب المضيئة من تراثه الاجتماعي والتاريخي والقومي إنما يعزز ثقته بنفسه أمام التفوق الأوروبي الراهن ، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الهروب إلى الوراء أي بالنسبة للعرب عامة والسوريين خاصة ، إلى الزمن الذي كان آباؤهم وأجدادهم متفوقين حضاريا على آباء وأجداد هؤلاء " المعاصرين " الذين يستعمرون بلادهم اليوم ، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، والذين دمرت" أسلحتهم النوعية " مشروع الربيع العربي الواعد ، الذي كان الهدف المعلن لشبابه هو تطوير بلدانهم وتنميتها، وردم الهوة التكنولوجية والاقتصادية بينها وبين الدول المتطورة . أي ردم الهوّة بين التراث والمعاصرة تطبيقياً . ولعلّ سؤال " لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب ؟" الذي طرحه رواد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر على أنفسهم ، كان من بين دوافع شباب الربيع العربي للإجابة على سؤال أسلافهم ، رواد عصر النهضة العربية ، بل إن ثورات الربيع العربي تمثل ـ بنظرنا ـ أول محاولة شعبية عربية جادة للإجابة على سؤال أولئك الرواد .
2. الإشكاليات التي تترتب على قراءة الماضي بالحاضر أو قراءة تراث بتراث آخر ،
ان من ينظر إلى الدنيا بمناظر( كزالك ) ملونة ، لابد وأن يراها ملونة بلون هذه المناظر ، وهذا ما يفسر القراءة المنحازة لمعظم المستشرقين الغربيين ( أوروبا وأمريكا ) للتراث العربي الإسلامي . فهذا الفيلسوف الألماني ج ف هيغل (1770- 1813)ة مثلاً يقول" لابد من شطب الفكر الشرقي من تاريخ الفلسفة " !! ، وهذا إرنست رينان ( 1833 - 1892 ) ينكر بدوره على العرب حتى تفضيلهم للفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو على من عاصره من الفلاسفة ذلك أنهم - أي العرب - بنظره عاجزون حتى عن مثل هذا التفضيل ، ذلك أن التفضيل يقتضي الاختيار وهو مالا يستطيعونه !!. وهذا فرانسوا دو شاتوبريان ( (1768 ـ 1848) الأديب والسياسي الفرنسي ، يشير إلى أن الدين الإسلامي بكونه " لايحث المؤمنين على دفع الحضارة نحو الأمام ولا يعلمهم أن يعنوا بالحرية ، وهو في هذا أقل مستوىً من المذهب المسيحي " على حد زعمه .( أنظر، د. مي عبد الكريم محمود ، تائهون في صحراء الإسلام ، الأهالي ، دمشق 2003 ص 12) .
إن مثل هذه القراءات المتحيزة لبعض المفكرين الغربيين للتراث العربي الإسلامي ، إنما تدخل في إطار قرائتهم لهذا التراث العربي الإسلامي بتراث آخر مغاير له زمانا ومكانا ولغة ودينا ، أي أن المناظر الملونة التي يضعونها على عيونهم ( لون تراثهم ) هي التي جعلتهم يرون تراثنا على هذا النحو المغاير . و دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال التقليل من المستوى الرفيع لأفكارهم وفلسفاتهم الاجتماعية والكونية . وأيضاً دون أن نبرّئ تاريخنا من العيوب التي أشار إليها هؤلاء المفكرين .
3. الإشكالات المتعلقة بمسائل: العلاقة بين الوعي والواقع ،
تشير هذه الإشكالية المركبة ، من جهة ، إلى العلاقة الجدلية ( التأثير المتبادل ) بين الوعي والواقع ، بمعنى أن كل منهما يغني الآخر ويغتني منه ، حتى في الحالة التي يمكن أن يكون للوعي درجة من الاستقلال النسبي عن الواقع . إن الواقع والوعي يسيران هنا بخطين متوازيين جنباً إلى جنب بحيث يمكن أن يكونا متلاصقين ، بل وأحياناً متداخلين . ومن جهة أخرى ، فإن هذه الدرجة من الاستقلالية للوعي (الفكر ) عن الواقع الملموس ، هي التي تسمح لهذا الوعي أن يسبق عصره ، وأن يكون حاضرا ( معاصرا) في أكثر من مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي ، أي أنه يطير ( إذا جاز التشبيه ) في رحلته التاريخية هذه بجناحين اثنين هما التراث والمعاصرة معا وفي آن واحد.
4. إشكالية الشدة التراثية ، حيث تتناسب هذه الشدة طردا مع العمق الزمني للتراث . فجرّة الفخار التي عمرها ألفي سنة هي أكثر شدة تراثية من مثيلتها التي عمرها ألف سنة فقط . وينطبق هذا الأمر (مسألة العمق الزمني/ الأسبقية ) على كل أنواع التراث ، وبشكل خاص على الآداب والفنون والصناعات والمخترعات التكنولوجية المختلفة . وجدير بالذكر هنا أيضاً ، أن أمر هذه " الشدة " التراثية ، لا يتعلق بالعمق الزمني ( بالأسبقية )للتراث فقط ، وإنما أيضاً بالقيمة الذاتية ( الداخلية ) لهذا التراث، فتتعلق الشدة التراثية بشريعة حمورابي ـ على سبيل المثال ـ من جهة بعمقها الزمني التاريخي ( 1790 ق.م )، ومن جهة أخرى بمضمونها ، اي بعمقها الإنساني . بغض النظر عن قبولنا أورفضنا لكثير مما ورد فيها من قوانين مرتبطة بزمانها .
5. إمكانية التوظيف التنموي للتراث ، بمعنى أن يجد المرء / الشعب في ماضيه ، ما يدفعه على العمل والإنتاج في حاضره . فحديث الرسول ( ص ) " المسلمون شركاء في ثلاث ، في الكلأ والماء ، والنار"، إنما يجسد برأينا بعدا اشتراكيا وفق مفاهيم العصر الحاضر ، ويعطي الضوء الأخضر بالتالي لتأميم وسائل الإنتاج الكبيرة ، وجعل ملكيتها اجتماعية ( ملك الأمة ) وليس ملك عدد محدود ومحدد من أفراد المجتمع ، وذلك على غرار الكلأ والماء والنار .
6. وأخيراً ، لابد من الإشارة إلى دور الاستعمار الغربي ( القديم والجديد )في تخليف وطننا العربي ، وبالتالي في خلق وتكريس الفرق بين تراثنا ومعاصرة الغرب ( بالمعنى الإصطلاحي ) وفي الحرص على إبقائنا دولا مستهلكة ، أي غير منتجة ( أي عملياً متخلفة ) لكي نظل نستهلك منتجاتهم هم وليس ماننتجه نحن!!. إن الدول الغربية المتطورة تقنيا واقتصاديا ،تحتكر لنفسها اليوم العلم والتكنولوجيا والديموقراطية ، وتترك لنا فقط حرية الاستجداء. وها هوشعب سورية يستجدي اليوم أصدقاءه المفترضين ( المعاصرة ) لكي يفرضوا وقف " الأعمال العدائية " لبشار الأسد وفلادمير بوتين على أطفاله ونسائه وشيوخه ، بل و لكي ينفذوا قرار مجلس الأمن رقم 2254 . نعم إننا نستجدي اليوم ،ممن يصغر تراثهم أمام تراثنا ، وتتفوق معاصرتهم على معاصرتنا ، نستجديهم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان .
وليس من النافل هنا أن نأتي بمثال العراق ، الذي غاضهم ، لابل أخافهم تطوره العلمي والتقني ، فغزوه عام 2003 ودمرت جيوشهم وأسلحتهم " المتطورة " الحرث والنسل فيه ، وفرضوا عليه ديموقراطية المحاصصة والسرقة ، واستبدال التعايش الأخوي ( حتى في صورته النسبية ) بين كافة مكوناته بفيدرالية تقسيمية محاصصية كاذبة ، محولين ذلك التعايش العراقي التاريخي الأخوي بين السنة والشيعة من جهة وبين العرب والكرد من جهة أخرى إلى عداوة جغرافية ( شمال ـ جنوب ـ وسط ) تدخل في باب خلق ورعاية الفتنة بين هؤلاء الإخوة ، ولا علاقة لها لابالتراث ولا بالمعاصرة . وكانت"داعش " هي الجوكر الذي راهن ويراهن عليه الغزاة لكسب معركتهم الخاسرة مع الشعب العراقي .
فيا إخوتنا في الغرب اعلموا أن أمتنا وشعوبنا ، وربيعنا العربي ، وديننا الإسلامي وتراثنا هم مع المعاصرة ، فدعونا نتعايش معاً بحرية وأخوة وسلام ، ولا تفرضوا علينا ــ بالله عليكم ــ عملاءكم ، مثل بشارالأسد ، ونوري المالكي ، وأبو بكر البغدادي ، ونتنياهو بقوة السوخوي والميغ والميراج والكوبرا والبراميل المتفجرة . دعونا نقرر مصيرنا بأنفسنا ، يامن نعترف نحن بتفوقهم علينا اليوم ، حتى ولو أنكروا هم تفوقنا عليهم بالأمس .
#محمد_أحمد_الزعبي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟