|
بين الحاجة والابتكار
جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 6242 - 2019 / 5 / 27 - 14:58
المحور:
تقنية المعلمومات و الكومبيوتر
بين الحاجة والابتكار
كلما أنوي الاتصال بأولادي وبناتي الموزّعين في أقاصي الأرض وشتاتها ألجأ لملاذي الذي اعتدت عليه في الهاتف الذكيّ وأنتخب " السكايب " ليوصلني إلى من أحبّ فيهدأ بالي وتطيب سريرتي . في العام / 1992 رحل شاب قرويّ ، وحيد أمه وأبيه ؛ طبعُه ساذج ، ليس له مران في التعامل مع الثورة الالكترونية وعالم التقنية والميديا الاّ النزر اليسير ؛ فتىً قليل الخبرة هاربٌ من الاضطرابات السياسية في بلاده الأم ّ، ضعيف الدربة اسمه " جان كوم " مع أمّه القرويّة الساذجة ربّة البيت الأوكرانية مهاجراً الى الولايات المتحدة بعد ضنك عيشٍ في بلادها الأم وتركا الأب في أوكرانيا اذ كان هذا الأب معاندا ولم يرغب في الهجرة وبقي في بلاده كمدير لمشروع إسكان الفقراء وبناء بيوت شعبية لهم وتشييد المدارس والمستوصفات الصحية لمواطنيه وأطفالهم في قريته . كان عمر هذا القرويّ الوحيد لعائلته وقتذاك اربعة عشر عاما حينما حطّ رحاله في بلاد " اليانكي " واستقر في قصبة نائية ضمن ولاية كاليفورنيا اسمها " ماونتن فيو " هربا من النزعة المعادية للسامية وكراهية الأجانب النازحين الى الولايات المتحدة والتي كانت قائمة بين بعض سكّانها في تلك الولاية . عاش مع أمّه في شقة صغيرة تحوي غرفتَي نوم حصلا عليها ضمن المساعدات الحكومية التي تمنح للمهاجرين قبل ان تصاب والدته بالسرطان وتنتقل الى العالم الآخر سنة / 2000 . وقبل هذا التاريخ رحل والده ايضا سنة / 1997 ودفن في وطنه الأوكراني الذي لم يغادره . عملت أمّه في ردح حياتها الاميركية أوّل مرةٍ مربية وجليسة أطفال لدى إحدى العوائل الغنية رغم اشتداد أسقامها ، كما حصل " جان كوم " على عمل رثّ في دكان بقالة متواضع ويقوم بنفسه في ترتيب البضائع وغسل أرضية البقالة وتنظيفها يوميا وبعدها انتقل الى عمل آخر حارسا ليليا بإحدى الشركات حينما تم قبوله طالبا دارسا في جامعة سان خوزيه ستيت اذ كان يدرس نهارا في الجامعة ويعمل في الحراسة ليلا . قبيل وصوله الى العالم الجديد ؛ عاش الفتى قبلا مع والدته في قرية صغيرة خارج العاصمة كييف في أوكرانيا معيشة فيها من الضنك الكثير إذ كان مسكنه يخلو من الماء الساخن والكهرباء وأجهزة الهاتف ، وبالكاد أكمل دراسته الابتدائية في تلك القرية وعُرف بشغبه وشراسته مع زملائه الطلبة ولم تظهر عليه علامات الفطنة والذكاء أيام التعليم الأساسي في بلاده ومحتده أوكرانيا . وطوال إقامته في الولايات المتحدة بدأت سمات الذكاء تظهر عليه خاصةً بعد ان فاز بعملٍ مهندس إلكتروني في شركة " ياهو " وتكليفه بتفقّد أنظمة الدعاية ، وكان يجمع بين الدراسة وبين العمل والكدح المضني ، وبسبب خلو جيبه فقد كان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن زملائه وأصدقائه ليلتهمها في اقصر وقت ويعيدها الى أصحابها إذ صمم على تغذية عقله بتقنيات التكنولوجيا الرقمية وعلوم الحاسبات وعالم السوشيال ميديا وجهدَ على المثابرة لإغناء عقله باعتباره طريقا سالكا باتجاه إثراء جيبه وزيادة أرصدته المالية ,وهو الذي عاش الفقر المدقع والحاجة القصوى للمال يوم كانت أمّه المريضة بأمسّ الحاجة الى الدواء والعلاج المكلف خاصة وانها لم تكن وقتذاك تمتلك تأمينا صحيا يتيح لها العناية بصحتها ومواصلة العلاج . ولأن الحاجة أم الابتكار والاختراع كما يقال في أمثالنا ؛ ففي عام 2009، قام مع شريكهِ " بريان أكتون " بتأسيس برنامج التراسل للهاتف الجوال " واتس آب " والذي يعني ويترجم تساؤلاً في العربية : ما الجديد ؟؟ ، والذي اشترتها في فبراير/ 2014 شركة فيسبوك التي سبق ان طردتْه عام / 2007 عندما قدّم على وظيفة تُعينه وصديقه على تحمّل أعباء الحياة وتدعم مشروعه المجاني في عالم الاتصالات مثلما رفضت تعيينه شركة ( تويتر ) ايضا ، ولكن بإصراره وقوة عزيمته حقق ثروة لا تخطر حتى في خيالات الأحلام وأوسع من حدود الأماني ( 19 مليار دولار ) استلم دفعته الأولى البالغة أكثر من ستة ونصف مليار وهو الذي كان يُمنّي نفسه بأن يملأ جيبه ببضع مئات من الدولارات ليسدّ رمقه ويقيم أوَده . والمدهش ان الصفقة التي تمت بينه وبين مؤسس الفيسبوك قد حصلت في نفس البناية البيضاء التي كانت مركزا لاستقبال أمثاله المعوزين اللاجئين وكثيرا ما كان يستلم منها المعونات البخسة بين حين وآخر ( بضع مئات من الدولارات وقليل من المساعدات العينية ) وكوبونات الحكومة المدعمة لأقرانه المغتربين الفقراء باعتباره لاجئا هو وأمّه وقت شبابه وفتوته ليقيم أودَه ويسدّ رمق أمه المعوزة المريضة . تحدّث جان كوم بعد استلامه الدفعة الأولى البالغة اكثر من ستة مليار دولار : كنت في صباي ادخل مكاتب البريد لأتصل بوالدي في اوكرانيا وأبقى ساعات انتظر دوري في مكتب البريد وحالما انتهي عليّ ان ادفع أجرة الخدمات الهاتفية مما يرهق جيبي ، ولا اخفي فان هذا الحال المدقع ودفع الدولارات من اجل مكالمة تُريحني كانت سبباً لابتكار الخدمة الهاتفية المجانية في الواتساب ؛ لهذا عزمت مساعدة مستخدمي الواتساب بصورة مجانية و سعيِي ونجاحي في تحميل ما ابتكرت في جهاز ( الآيفون ) الذي امتلكته عام / 2009 بشقّ الانفس ، وهذه ضمن شروطي على إدارة الفيسبوك على إبقائه مجانيا وبدون دعايات إعلانية مفرطة بعد عقد الصفقة عسى ان أوفق في خدمة المعوزين وأخفف عنهم ؛ وها أنا حققت ما أريد وكم أسعد حينما أرى مئات الملايين يستفيدون من خدماتي الهاتفية بلا مقابل مادي ، فأنا الآن رغم ثرائي ما زلت اعشق الحياة البسيطة التي كنتها في بلادي قبل رحيلي الى الولايات المتحدة ؛ وهل أنسى أمّي التي ملأت حقيبتي أقلاما وقرطاسية ودفاتر من مكتبات أوكرانيا حتى لا أضطر الى شرائها بسعر غالٍ في مهجري العالم الجديد . كثيرا ما تختلج في رأسي فكرة ان المبدع – فنانا كان او أديبا ، مخترعا او مكتشفا في أيّ حقل من حقول العلم – لا يصل الى قمة الإبداع والابتكار إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي والاكتشاف الذي يصبو إليه ؛ لأن الفقر والعوز يعطي العالِم المخترع والأديب والفنان دفعا وزخما أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة وهذا هو حال السيد الأوكراني " جان كوم " مثار حديثنا الذي أقدّم له وافر الشكر والامتنان كلما سمعت صوت نسلي وأحفادي وأروني شكلهم وجها لوجه عبر اللوح الالكتروني .
جواد غلوم [email protected]
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حِبالٌ خانقة
-
رفقتي الى شارع المتنبي مع حفيدتي المغتربة
-
أخطاءٌ مقدّسة
-
إناقة الأكاذيب أمام الحقائق العارية
-
أجنحة طائرة على أوجاعها
-
رحماك يا وابور على مصر وأهلها
-
متى يغنّي عبّود المتعب في بيته الذكيّ ؟؟
-
محنة اللاجئين والرقص على معاناتهم
-
إليها معلمتي ... وهل غيرها أنهكتْني ؟؟
-
على مائدة عشاء مهلِك
-
كتابة التأريخ .. تزييف الحقائق وتشويهها وانقلابها
-
غزوات ٌ وغاراتٌ بريّة أم فتوحات ؟؟
-
أما من مزيد
-
دكاكين وعيادات تجميل أم تقتيل ؟!
-
عتابٌ الى أبي الطيّب المتنبي
-
متى تلامس مؤشراتُ الرفاهية العراقَ المحزون ؟؟
-
حديث وسط خضم الفوضى
-
ماراثون الى الوراء
-
قصيدة بعنوان / اسمك القصيدة
-
وحشية الذئاب البشرية وإنسانية الذئاب البرية
المزيد.....
-
الأعراض الأولى لسرطان القصبة الهوائية والوقاية منه
-
أطعمة ومشروبات تجنبها عند تناول المضادات الحيوية
-
الضغوط تتزايد على عمالقة التكنولوجيا.. ماذا يعني قانون الأسو
...
-
الحكومة الأميركية تطلب من القضاء إجبار غوغل على بيع -كروم-
-
” سجل الآن من هنا “.. التسجيل في مسابقة الشبه الطبي في الجزا
...
-
مخدر الاغتصاب GHB .. مراحل تأثيره السلبى على الجسم وكيف يحدث
...
-
وكالة الفضاء الأوروبية تمول شركات صناعات الفضاء الخاصة بملاي
...
-
نوع من الفطر قد يبطئ نمو الورم السرطاني ويطيل العمر
-
للمرة الأولى.. اصطفاف مجرتين بشكل مثالي يساعد على رؤية الكون
...
-
أوبئة عادت لتهدد العالم فى 2024.. فيديوجراف
المزيد.....
-
التصدي للاستبداد الرقمي
/ مرزوق الحلالي
-
الغبار الذكي: نظرة عامة كاملة وآثاره المستقبلية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
تقنية النانو والهندسة الإلكترونية
/ زهير الخويلدي
-
تطورات الذكاء الاصطناعي
/ زهير الخويلدي
-
تطور الذكاء الاصطناعي بين الرمزي والعرفاني والعصبي
/ زهير الخويلدي
-
اهلا بالعالم .. من وحي البرمجة
/ ياسر بامطرف
-
مهارات الانترنت
/ حسن هادي الزيادي
-
أدوات وممارسات للأمان الرقمي
/ الاشتراكيون الثوريون
-
الانترنت منظومة عصبية لكوكب الارض
/ هشام محمد الحرك
-
ذاكرة الكمبيوتر
/ معتز عمر
المزيد.....
|