|
هل تخلع كوبا معطف فيدل كاسترو؟
عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
الحوار المتمدن-العدد: 6240 - 2019 / 5 / 25 - 12:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في زيارتي الأولى لمدينة دمشق صيف عام 1977، أنا القادم من بلدة ريفية صغيرة في الشمال السوري، تعرّفت إلى فيدل كاسترو، والمفارقة المذهلة أن هذه المعرفة جرت بالمصادفة، فقد أنهيت اختبارات مرحلة التعليم الإعدادي-الصف التاسع-بنجاح، وأراد والدي مكافأتي، فأرسلني لزيارة أخي الكبير الذي يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. حمَّلني الأهل حقيبة مُتخمة بما لذَّ وطاب من لحوم مشوية ومطبوخة وكبّة بأصنافها وسمبوسك وحلويات، لذا كانت الحقيبة ثقيلة على ذلك الفتى الذي كنته في تلك الأيام. وحين وصلت بعد جهد جهيد إلى الغرفة التي يسكنها أخي في سفح جبل قاسيون، وأذكر ما أزال أنها في بيت شامي قديم في زقاق قريب من جامع ضريح شيخنا الأكبر مُحْيي الدين بن عربي. رأيتُ على أحد جدران الغرفة صوراً لشخصيات لا أعرفها، لفت نظري صورة في حدود الأربعين سنتمتراً طولاً والعشرين سنتمتراً عرضاً. يلفُّ سوادها بياض في الوسط كأنه هلال في ليل، أظهر المصور حرفيَّة عالية في عمله، أضاء حواف الوجه من الأمام بنور باهر وترك الباقي في سواد حالك، ثمَّ التقط الصورة من الجانب الأيسر للوجه، تتأمل الصورة ملياً، فتشك أول الأمر، هل هي صورة شخصيَّة، لتكتشف بعد حين أنها صورة مذهلة فعلاً.
سألتُ أخي عمن يكون هذا الذي في الصورة، فقال: هذه صورة فيدل كاسترو، ألا تعرفه؟ مما زاد في غُمُوض الصورة البارعة. تركت الصورة تأثيراً عميقاً في مُخيلتي، ثمَّ رحتُ أبحث عمَّا قصد أخي من وراء تسمية الصورة فيدل كاسترو. بعد برهة اكتشفتُ أنه من أعظم الشخصيات السياسية في القرن العشرين إلى جانب رفيق دربه أرنستو تشي غيفارا. كأنما القدر رسم لهما طريق اللقاء والفراق. في هذا المقام لن أذهب بعيداً فقد قيل الكثير عن التجربة الاشتراكية في جزيرة قصب السكر. ولكنني سأتابع رحلة السيارات القديمة التي استغرقت في سيرها في شوارع العاصمة هافانا عقوداً من السنين. سأذهب معها-إن استطعتُ ذلك- إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطن الكوبي في ظلِّ الحزب الشيوعي الكوبي ومعطف فيدل كاسترو الذي ارتدته كوبا لأكثر من خمسين عاماً.
قبل ذلك سأستدرج المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه ليقول ما عنده، فهو صاحب خبرة كبيرة في هذا الشأن وقد كان رفيق فيدل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا، وله كتاب مشهور سماه (ثورة في الثورة) عن التجربة الكوبية. واليوم وقد اقترب من الثمانين عاماً من عمره يقول، وتراني أتفق معه في الرأي:
إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس. البؤس يقود الشعوب إلى الثورات، والثورات تعيد الشعوب إلى البؤس. الثورات التكنولوجية فقط، تشذُّ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعية بعد أن ابتكرنا المحركات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محركات التاريخ الحقيقية الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء، سواء كان جيداً أو سيئاً.
من وجهة النظر هذه هل يمكن أن تخلع كوبا معطف فيدل كاسترو؟
ياي ميلاي عازفة كوبية مع فرقة سان تيزز التي تتخطى شهرتها حدود كوبا، فهي تعزف في كل أنحاء العالم. التقيتها في فلم وثائقي بثته محطة دي دبليو باسم: كوبا تُجدد الحنين إلى الماضي، من إعداد لورديز بيكاريتا. ترجلت الفتاة من سيارة أجرة كانت توصلها إلى مقر الفرقة في أحد أزقة أحياء هافانا القديمة، تحمل حقائب طبلاتها الكاريبية من الكرسي الخلفي للسيارة وتُدردش مع السائق على إيقاع أغنية كوبية حديثة تصدح من مُسجل سيارة شيفرولية أمريكية، سماوية اللون، مكشوفة السقف، جميلة، ونظيفة، طراز نهاية خمسينيات القرن العشرين. تقول كلمات الأغنية:
مدفونة بين جدران غرفتي الرمادية، متعبة من هذه العزلة، تغزو الكوابيس وحدتي، المخدرات سوداء، والفرح أبيض، الغيتار بيد، وجرعة خمر عند الفجر، نحن صامدون هنا، لأن الحظ العابر أخطأنا.
تسأل الشاب:
-هل تعمل سائق تكسي منذ زمن طويل؟
-كلا، منذ عام فقط.
-ما نوع محرك سيارتك، هل هو شيفروليه؟
-كلا، لقد وضعت بها واحداً جديداً.
-هل هو شيفروليه؟
-كلا، من طراز تويوتا وأحتفظ بالمحرك القديم في المنزل.
- جديدة من الداخل قديمة من الخارج، جديدة وقديمة في آن واحد، هكذا هي كوبا.
آخر جزر الاشتراكية التقليدية ظاهرياً، فمحرك المجتمع الكوبي يتجه نحو رأسمالية حديثة منذ فترة. وفرص العازفة ياي ميلاي للبقاء في الخارج كثيرة وقوية، لكنها مصرَّة على أن تعيش هُنا خاصة الآن، فكوبا تنفتح على الولايات المتحدة الأمريكية. تقول: لدينا آمال كبيرة في أن نتمكن من النمو، كنا محصورين في كوبا لوقت طويل، لكننا ننفتح الآن، خاصة الشباب، وهم ليسوا الوحيدين الذين يتطورون، رغم ذلك هُناك خوف كبير من المستقبل، ولكن لا أحد يضع حداً لنا.
#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المزارعون الأوائل قبل عشرة آلاف سنة
-
هل القلب يصدأ كالحديد؟
-
كتاب الثورات
-
صاحب صحيح البخاري
-
شيوعيون في الفيسبوك
-
ستالين
-
المُسْتَطْرَف الصَّغير
-
رسائل بركات لطيف الحزينة إلى الأول من أيار
-
الفأرة الحكيمة
-
قصة انقلاب عسكري
-
غسان كنفاني في تراجيديا أرض البرتقال الحزين
-
وَحْيُ الشيوعيَّة
-
بيان الشيوعيَّة
-
حبوبتي كنداكة
-
مُذنَّب كرولز يومض في سماء السودان من جديد
-
كيف تعلَّم أبي القراءة والكتابة؟
-
الهوية والعنف ... ماذا حدث, وما أسباب حدوثه, و إلى أين نحن م
...
-
الحُكَّام في أغاني الشيخ إمام
-
ماركس بالصيني
-
الدولة أفهم من بني آدم
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|