رولا حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1540 - 2006 / 5 / 4 - 09:49
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"بكدمة زرقاء من عضة الندم"..
هل من بلاغة جديدة من الممكن أن يتوخاها الشعر ليقول ما يريده؟..أو إذا نجح الشعر في ؟أن يفعل ذلك فما دلالة فعله وكيف نتلقى هذه الدلالة ونعي أو ندرك ما تعنيه كيفية إنتاجها؟.
هذا ما يطرحه ديوان عماد فؤاد بكدمة زرقاء من عضة الندم- الصادر عن دار شرقيات القاهرة- على نحو ملح ويطالبنا بالإجابة سلباً أو إيجاباً.
بداية علينا أن نعترف بوجود شعريات مختلفة لكل منها شكلها الخاص ومن ثم تقنياتها الخاصة وفاعليتها الخاصة، بيد أن تعدد الشعريات في الثقافة الواحدة يعني وجود منطقة مشتركة بين هذه الشعريات تفرضها واحدية الثقافة فيما يعني في الوقت نفسه إمكانية استيعاب هذه الثقافة خصائص مغايرة منوطة بغيرها من الثقافات وما دمنا نسلم بثنائية اللغة- الكلام فإن تأثير الشعر بوصفه كلاماً يظل مرهوناً دوماً بقدرته على تمثيل معطيات الكلام الآخر داخل نسيج اللغة الأم التي تعكس خصوصيتها الثابتة فيما يعمل على التطوير فيها في الوقت نفسه كما يظل مرهوناً بالمعطيات التي يختارها دون غيرها ليفتح بها أفقاً مشتركاً بين عالمين مختلفين من عوالم الثقافة الإنسانية.
إن تراجع الصورة الشعرية بمعناها القديم يعني تراجع الإحساس القديم أيضاً بالارتباط الخالد بين الإنسان والكون والكائنات فالتضاد والسخرية والحذف والمفارقة والتقديم والتأخير والإحالة إلى غائب..الخ أدوات تمثل في جوهرها عالماً من القطيعة والعزلة والانفراد وفقدان الارتباط الحار العميق. فالوجود القديم قد حل بدلاً عنه وجود جديد عار تماماً ومنشور بلا إيقاع وفارق في اغترابه وانفصاله ومحدودية فضائه...وجود مكثف ومستدير على نفسه ومنذور للفناء والتلاشي والإحساس بالعدم واللاحدود /لا شيء/ أنا قابع في آخر السطر / تليني نقطة/ ويسبقني/ الفراغ ص56 هكذا يكون تعبير" بكدمة زرقاء مع عضة الندم" تعبيراً موائما لموقف اللغة، لغة مزرقة مائلة للسواد فوقه أحمرار شفيف يتدرج نحو عتمته، أشبه بتلك الكدمة المترعة بالألم والمرارة لتوصل ذلك الإحساس الجارف بخيبة الرجاء والخسارة/ يظل يدور على عقيبة أمام عيوننا/ هازئاً منه تخاذلنا/ من رؤوسنا المحنية في مذلة الخسران/ من دوراتنا ونحن عائدون / فارغو الأيدي/ ليس سوى/ كدمة زرقاء فوق شفاهنا ص106.
تعقد اللغة الشعرية عند عماد فؤاد أواصر فنية مع خصائص مغايرة منوطة بأدبيات الحداثة الغربية بما تنطوي عليه من حساسية مفارقة للحساسية العربية أن تختار عالم التشيء تكتفي أو تكاد بوصف الأشياء في وجودها الفعلي بطريقة ظاهرية تصطنع الحياد.
ما جعلني أحيا/ليس المياه/ التي نذرت لها في غفلة مني/ ولا الريح البيضاء في شراعي/ لا الذراعان اللتان تدفعانني للأمام بمجدافين عتيقين /لكنه الرمل/ هذا الذي يمسه خشبي/ فقط/ حين أرسو. ص81 قصيدة" قارب".
رغم الحمولة التمثيلية للألم والحسرة بسبب وجود كدمة زرقاء من عضة الندم تظل الذات باردة تجاه ذاتها، تصف نفسها كما تصف الأشياء الأخرى بلغة طبيعية مباشرة تتخللها انفعالات تذكرني بانفعالات ناتالي ساروت في قصصها القصيرة التي تجعل من الشي موضوعاً لها بالمونولوج الداخلي الذي يصف الأشياء والذات كما هي شيء غريب عن نفسه، مجهول القدر والأعماق والأحلام مقطوع من زمنه الخاص ومزروع في المكان بلا أفق/نراهن يمشين بمحاذاة الواجهات الزجاجية جذوعهن لطيفة الاستقامة متقدمة إلى الأمام، أرجلهن متصلبة ومتباعدة قليلاً، وأقدامهن الصغيرة المقوسة على كعابهن جداً والتي تضرب الرصيف بقسوة، بهن تحت أذرعهن، كفوفهن المفتوحة، وقبعاتهن الصغيرة مرتبة كما يجب، مائلة على رؤوسهن، رموشهن الطويلة والقاسية مغروزة في أجفانهن المحدبة وعيونهن الصلبة هكذا كن يسرعن الخطا بمحاذاة المحلات التجارية، يفتشن بعين متعطشة وعارفة. من انفعالات ناتالي ساروت. نلحظ التلغرافية نفسها، الجمل القصيرة المقتضبة منطق لسرد ذاته والقدرة على التكثيف، وتلك اللغة الوصفية للأشياء أو البشر...فأن تجعل من فكرة أو حديث أو طبيعة صامتة، لقاء دقائق، صورة حسية تعيش في قليك وربما في جسدك ما تقرأ أو ترى أو تسمع.
أصابعها/ الخيوط العشر الملفوفة وهي تهتز في مشيتها، طويلة حين تمشي تشعر بالعيون وهي تتمسح بإليتها المرفوعتين خطوها الثقيل على الأرض/له مريدون/ يديرون رؤوسهم خلفها برهبة/ولرجة نهدها الملفوف/ نصل يحز القلوب ص55 قصيدة(تهش على أغنامها دون عص).
في قصائد عماد فؤاد ثمة انحياز إلى الشعر على حساب السرد ولا سيما في النصوص القصيرة، مثل قصيدة وحدة قارب، رقصة، حجاب..لكنه استطاع توظيف هذا السرد في النصوص الطويلة أيضاً لاستخلاص الشعر..ما يميز السرد عند عماد فؤاد أنه سرد قصصي.. فثمة حكاية دائماً استطاع أن يشد عماد هذا السرد إلى بؤرته الشعرية بإدراكه لشيئين مهمين. أولهما" صورة النحو التي تحل بتعبير جاكبسون محل المجازات في قصيدة بلا صور ويعمل بوصفها نمطاً من المونتاج(cut) الذي يقرن اللقطات بطريقة تولد في الذهن أفكاراً لا تستطيع هذه اللقطات أن توحي بها من تلقاء نفسها وثانيها الشكل الخارجي للكتابة بما يملكه من إمكانات التوزيع والوقف والإبراز.
يهرب من الزحام/وحين يغلق عليه باب حجرته/ يسمع الجيران لساعات طويلة/ وهو يستعطف آخرين/ ويرجوهم المغادرة كانوا متأكدين أنه وحده/ وإنه لا يعرف أحداً/بعد دقائق يسمعون أصوات أقدام/تهبط السلم/.قصيدة وحدة ص21.
إلا أن هذه السردية تتضح أكثر في النصوص الطويلة والتي يتعامل فيها مع نماذج بشرية ويشتغل فيها على ثيمة الكاركتر ومن ثم يكون السرد أو الحكي هو الوسيلة الوحيدة لاستخلاص ما هو شعري داخل هذه النماذج أو الشخوص ذات الملامح الخاصة ففي قصيدة:" تهش على أغنامها دون عصا" يتحدث فيها عن بائعة هوى شرقية ص16 في الظل الغامق لامرأة لا تشبهنا ص36 حجاب ص92.
مؤكداً في ذلك على جذوره الريفية محاولاً الاستفادة من التراث الشعبي المصري وكما يقول في أحد حواراته: هذه الجذور التي علمتني منذ كتابتي الشعر كيفية الاستفادة من المفردات العامية في النص وكيف أستدعي المنجز الذي عايشته سواء من خلال أمي أو أقاربي البسطاء الذين يستطيعون تلخيص الحياة في مثل شعبي أو حكمة يصوغونها ببساطة.
وهذا ما نلحظه في قصيدة" الظل الغامق لامرأة لا تشبهنا" حيث يحاول الشاعر القبض لابنها الذي يرحل وكيف تمنحه وصاياها. في هذه الوصايا يحاول القبض أيضاً على التراث الشعبي المصري باعتباره واحداً من الركائز التي تهملها قصيدة النثر الحديثة في مصرعلى حد تعبيره/ قالت له أمه: لتكن تلك اتكاءتك في البعيد/ صوتك الذي ترفعه خفية في الظلام/ يدك التي تبطش بها الآخرين/ ودمعتك التي تبكيها /عليهم/ يا ولد لا تحلم بامرأة ليست ملك يمينك/ولا تهرب نظرتك تحت فستان لم تنشره/ وابق عينيك مفتوحتين/ اتقاءً لغدر ص48/ قصيدة الظل الغامق لامرأة لا تشبهنا.
ربما كان وراء هذا الاشتعال على الأماكن والشخصيات التي لمسها الشاعر عن قرب في ديوانه تجربة الغربة ذاتها ما حدا بتفاصيل جديدة أن تظهر في النص مستعيداًً بذلك عذوبه ميزت القصائد هي بنت مرحلة الطفولة البعيدة المستعادة في كدمة زرقاء من عضة الندم- المجموعة الثالثة لعماد فؤاد بعد أشباح جرحتها الإضاءة، وتقاعد زير نساء عجوز-يتقدم كواحد من شعراء تسعينيات قصيدة النثر المصرية في فصائد تنسج ثيابها من فسيفساء الواقع الشخصي بما فيه من فانتازيا تنطلق من المرئي والحسي ساعية إلى القبض على الشعري فيها، قصائد هي لحظات وأشياء صور ومشاهدات ووقائع ملمومة من الذات والعالم المحيط بها كأنها تريد أن تقول الذات الشعرية بتقنيات الحياة اليومية واللغة السينمائية وإيقاعها البانورامي كاشفة عن حالات ومناخات شخصية جارحة يمتزج فيها المونولوج الداخلي بالبوح صاعدة وهابطة وفقاً لأحوال النفس في القص والخطاب والحكاية يلتقط بعضها التفاصيل العادية والواقعية ويدغمها في انزياح تصويري بسيط ومدهش في محاولة ولوج عالم الفانتازيا الغني بالتخييل والغريب وإنقاذ اليومي والعادي من عاديته ويوميته وإن بدت حيناً غرائبية وسوريالية في صورها غير المتوقعة لكنها تعود لتنسجم في سرديتها القصصية حيث" شخصيات" وأحداث، وأمكنة، وأزمنة هي ركائز القص لا من ركائز سواه.
الكتاب: بكدمة زرقاء من عضة الندم - شعر
المؤلف: عماد فؤاد
دار النشر: دار شرقيات القاهرة
#رولا_حسن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟