|
كيف حكمت سلالة قريش أرض الفراعنة (4)
محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث
(Mohamed Mabrouk Abozaid)
الحوار المتمدن-العدد: 6238 - 2019 / 5 / 23 - 13:23
المحور:
المجتمع المدني
الأصل في الإسلام هو حرية الاعتقاد، وأن سلطة الحساب على المعتقد هي لله وحده ولا سلطة لإنسان أن يحاسب غيره على اعتقاده في الله، إن سلطة الحساب والعقاب الدنيوي محصورة فقط ما يتسبب في ضرر مباشر للفرد أو المجتمع، أما الأمور العقائدية فلا ضرر منها على الأفراد لأنها ليست جريمة مادية ولا يترب عليها ضرر لإنسان آخر. ولكن العرب حاولوا قمع الشعوب بأدوات دينية وتفتيت القومية المصرية والنسيج المتحد، وفكرة القومية المصرية في هذا الوقت كانت قوية جداً في مواجهة القومية العربية، لأنها كانت قائمة على (لُحمة أسرية اجتماعية وصلات قرابة وصداقة وجيرة وعشرة ووحدة الثقافة والعادات والأعراف والحرف والمهن والأمثال الشعبية ووحدة المأكل والملبس والأسماء والألقاب ولهجة الكلام واللغة الفرعونية وحتى طرق الطهي المصرية ونوعية الأكلات في المطبخ المصري كانت واحدة ومختلفة عن العرب فحاولوا تفتيتها بتمييز الناس عن بعضهم حسب الدين وحسب الولاء للعرب) خاصة أن الشعوب في هذا العصر حديثة العهد بالإسلام وكان منها ما يدخل الإسلام ويخرج، ثم يدخل وهكذا، وهذا ما شكل عائقاً أمام السيادة العربية وخشية من التحالفات والتنسيقات البينية لأبناء المجتمع المصري الذين كانوا أصدقاء وجيران وأقارب وزملاء في محاولة للخلاص من الحكم العربي القمعي، فجاء العرب بأحكام من التراث الديني اليهودي تساعدهم في كسر شوكة وتفتيت وقمع هذه الشعوب والسيطرة عليها، فأقروها ديناً. ونجد من ذلك مثال: " من بدل دينه فاقتلوه "
وأصل حد الردة من كتاب اليهود؛ سفر التثنية الإصحاح السابع عشر: 2 « إِذَا وُجِدَ فِي وَسَطِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ يَفْعَلُ شَرًّا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلهِكَ بِتَجَاوُزِ عَهْدِهِ، 3 وَيَذْهَبُ وَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَسْجُدُ لَهَا، أَوْ لِلشَّمْسِ أَوْ لِلْقَمَرِ أَوْ لِكُلّ مِنْ جُنْدِ السَّمَاءِ، الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ أُوصِ بِهِ، 4 وَأُخْبِرْتَ وَسَمِعْتَ وَفَحَصْتَ جَيِّدًا وَإِذَا الأَمْرُ صَحِيحٌ أَكِيدٌ. قَدْ عُمِلَ ذلِكَ الرِّجْسُ فِي إِسْرَائِيلَ، 5 فَأَخْرِجْ ذلِكَ الرَّجُلَ أَوْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، الَّذِي فَعَلَ ذلِكَ الأَمْرَ الشِّرِّيرَ إِلَى أَبْوَابِكَ، الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ، وَارْجُمْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ. " ...
وكما نرى أن عقوبة الردة عند اليهود لا تكون لمجرد الإنكار أو الإلحاد أو الزندقة، بل للفعل المترتب على الإنكار، اقرأ: "3وَيَذْهَبُ وَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَسْجُدُ لَهَا". هذا في الشريعة اليهودية، أما الإسلام فقد ضمن سقف الحرية الدينية والعقائدية حينما قال صراحة " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وأرجأ الحساب إلى الله وحده، لكن العرب حاولوا الاستفادة من هذا التراث اليهودي في توطيد دعائم حكمهم في البلاد التي دخلوها، فأقروها أحكاماً دينية للتخلص من المناوئين سياسياً لهم في هذه الشعوب، فالعرب لم يكونوا يقصدوا عقاب من خرج من دينهم ولكن عقاب من خرج طوعهم، خرج عن دائرة الموالي الموالين للحكم العربي، لأنه بمجرد خروجه من دائرة الموالي أصبح مناوئ سياسي لهم وليس مجرد ممارساً لحقه العقائدي في نطاق الحرية الدينية. وبما أن مسألة تتبع العرب للموالي بنشر العسس والجواسيس لقتل كل من خرج الموالي، هذه المسألة كانت مكلفة وقت وجهد للعرب فنقلوا المسؤولية للموالي أنفسهم بقتل كل من يخرج منهم وذلك بإقناعهم أن دينهم يقول ذلك، وبالتالي فعلى الموالي تلقائياً أن يقتلوا كل من خرج عن دائرة المولاة.. ومن هنا استقرت أحكام قتل المرتدين والملحدين والزنادقة، ولم يعترف العرب بأي نوع من الحرية الدينية لأنها كانت مصدر قلق سياسي لهم فحرّموها. فقد حاول العرب استخدام كافة الوسائل الدينية كأدوات للقمع السياسي، لأن حكمهم السياسي لم يكن مستقراً لأنهم ليسو من أبناء الشعوب التي حكموها، لكن هذه الأدوات ورثناها منهم بعدما صاروا آباء روحيين لنا، فأصبحت أدواتهم في قمعنا تراثاً دينياً لنا حتى اليوم، وكأننا تلقينا منهم التعليمات ومشينا على الصراط المستقيم تلقائياً كما أمرونا، وظللنا نراقب بعضنا ونعاقب بعضنا برغم أنهم ذهبوا لكننا لم نفق ولم ندر أنهم ذهبوا !.
وبما أنهم تمكنوا من استقطاب الموالي في مصر (المسلمين الأوائل من الشعب المصري الذين أسلموا وكانوا موالين للعرب بعد دخولهم مصر، وكانوا مواطنين في الدرجة الثانية بعد العرب، وأما الأقباط فكانوا في الدرجة الثالثة، ونتيجة اختلاف درجات المواطنة من حيث الاحترام الإنساني والأعباء الاقتصادية " خراج على الموالي – وخراج وجزية على الأقباط، ومضاعفة الجمارك 2.5% على الموالي و 5% على الأقباط) ، فأدى ذلك إلى محاولات متكررة للتحرر من الحكم العربي وأعبائه الاقتصادية الباهظة، وكانت هذه المحاولات تتم بالتنسيق بين الموالي والأقباط، ما دفع العرب إلى استقطاب الموالي المسلمين لإبعادهم عن الأقباط ومنع التنسيقات المشتركة، فغرسوا فيهم ثقافة دينية تصنع قطيعة بينهم وبين الأقباط الذين هم من أصلهم وصلبهم ووطنهم ولغتهم، فتغلب العرب على هذا الأصل باستقطاب الموالي، وكان أجدادنا الموالي هؤلاء يمثلون 2% من الشعب المصري على مدار 100 من دخول العرب مصر، وكانوا مؤيدين للوجود العربي موالين للعرب نتيجة خضوعهم وتأثرهم بمتلازمة ستوكهولم العربية، وهم أول من تحدثوا اللغة العربية في مصر، وهم أول من استحبوا اصطلاح " الفتح الإسلامي لمصر"، ثم زادوا في المائة سنة الثانية إلى 25% من شعب مصر أصبحوا موالي مؤيدين لدخول العرب ويعتبرون عمرو العاص بطلاً بينما الـ 75% الباقون يعتبرونه محتلاً بربرياً، ثم بعد أربعمائة سنة زاد أجدادنا الموالي إلى 50% تقريباً من شعب مصر، ثم أصبحنا نحن أحفاد الموالي 85% من الشعب المصري في عام 2019م.
وبالطبع نسينا أجدادنا الموالي الأوائل وأنهم عانوا من عنصرية العرب والجزية والخراج معاً، ونسينا عنصرية العرب ضدهم، ونسينا أنهم كانوا مواطنين من الدرجة الثانية أمام عمرو العاص وأصحابه من سلالة قريش، ونسينا عقدة الموالي التي عانى منها أجدادنا وحتى الفقهاء أنفسهم، ولكن متلازمة ستوكهولم العربية والخضوع للعربي للأسف مازالت مغروسة في نفوسنا بشكلٍ لا إرادي، بدليل أننا مازلنا موالي نؤيد دخول العرب مصر، لأننا مازلن خاضعين للاحتلال المعرفي العربي، بل والكثير منّا يظن في نفسه أنه عربي ويفتخر بذلك - طالما لم يسأله العرب عن أصله ونسبه وقبيلته- بل إننا نتذكر الرئيس المصري السابق حسن مبارك في أحد اجتماعات مجلس الشعب بالقاهرة قال: (الأخوة العرب اتخذوا قرار كذا..واحنا مختلفين معهم في ذلك) والغريب أن الغالبية لم تفهم أن مبارك يتحدث عن العرب الذين هم دول وشعوب الخليج العربي الأصل)، ذلك لأنهم لا يمكن أن ينسوا أصولهم وأنسابهم وقبائلهم أبداً ولا يقبلون انتساب أحد لهم، بينما نحن نفتخر بنسيان أصولنا المصرية الفرعونية وانتسابنا لهم برغم أننا لا نملك أصول وأنساب قرشية مثلهم وهم يرفضون الاعتراف بنا لأن نسبنا لهم غير شرعي في نظرهم، وما زلنا نسمي ذلك فتحاً إسلامياً بقيادة عمرو العاص ونعتبره بطلاً قومياً، وندرس ذلك في مناهجنا الدراسية والتربوية. !
وربما لو كان الإسلام دخل مصر بغير الطريق الذي اتبعه العرب لكان المصريون جميعاً اليوم مسلمين، لأن سياسة العرب في حد ذاتها كانت مانعة من انتشار الدين لصالح السيادة العربية، فالعرب منعوا توارث الأبناء والأقارب المختلفين في الأديان، ومنعوا المسلمين الموالي من الارتباط والاندماج في شعوبهم الأصلية ومنعوا السلام بينهم فصنعوا قطيعة من نوع اجتماعي كان من شأنها إن وجدت أن تساهم في التواصل الاجتماعي والثقافي فتساعد في نشر الإسلام. لكن هكذا العرب بعد رحيل النبي طبخوا الدين وأكلوا عليه الثريد وتجرعوا الحساء.
فنجد في القرآن الكريم " يُعامل الأسير كضيفٍ عند المسلمين" فيقول تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)/ الإنسان.. أما في تراث العرب القذر" يُقتل الرجال، وتسبى وتغصب النساء ويسترق الأطفال"، فقد روى عنهم الشيخان البخاري ومسلم:" نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ فأرسل رسول الله إلى سعد، فجاءه على حمار... ثم قال إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، قال فقال النبي عليه السلام " قضيت بحكم الله" !!!... وفي هذه الواقعة وفقاً للروايات حكم سعد بن معاذ بقتل حوالي 800 رجل أسير من بني قريظة وصدّق النبي على حكمه احتراماً وتشريفاً له في مذبحة جماعية ودفنهم في مقبرة جماعية، وسبي نسائهم واسترقاق أطفالهم.. وهذه الرواية العربية برغم كونها مبدئياً تخالف أخلاق النبي وتسامحه وقيمه، وتخالف كتاب الله القائل" ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا "، لكن هذه الرواية وردت في التراث العربي ونقلها المحدثون رغم مخالفتها وكذبها وطعنها المباشر في الكتاب والنبي، بل إنها تضرب أسس الإسلام في مقتل، لأن معناها أن النبي يخالف كتاب الله، وأنه كان يشبه أبي بكر البغدادي الداعشي في طريقته الوحشية في القتل وسفك الدماء، وأنه لم يكن نبي ولا كان في قلبه رحمة بهؤلاء الأطفال والنساء والثكالى.. وهذه هي نوعية الثقافة التي جاء بها العرب إلى مصر، وهي ما أخّر اعتناق المصريين للإسلام حتى تعلموا اللغة العربية وبدؤوا يقرؤون القرآن بأنفسهم بعيداً عن النَفَس العربي الأبخر.
والغريب أن الملحدين والمحاربين للإسلام يتشبثون بهذه الرواية للطعن في الإسلام بالجملة وهدمه كلياً وهدم أركانه وتشكيك المؤمنين في دينهم، ومع ذلك نجد المسلمين "الموالي المستعربين" يتشبثون بهذه الرواية بذات الدرجة للدفاع عن البخاري، ويدافعون عنها ويصدقون قول العرب أن النبي فعل ذلك، وأن ذلك موافق لكتاب الله ويعتبرونها فخراً للإسلام والمسلمين ويضربون بها المثل في الجهاد بكثرة الذبح والقتل والسبي كما توهموا رسولهم ! دون أن يدركوا كونها مخالفة لكتاب الله وأخلاق وقيم نبيهم، وأنها هي العقبة أمام الإسلام. وليست وحدها، بل هي واحدة من آلاف العقبات الكؤد التي وضعها العرب أمام انتشار الإسلام. لأنه ببساطة الإنسان الملحد يتساءل لماذا اعتنق ديناً يأمرني بقتل وذبح 800 إنسان؟ ولماذا اتبع نبي قتال وسفاك بهذه الطرقة البشعة؟ وما هذا الدين الذي يأمر أتباعه باغتصاب النساء وخطف الأطفال وبيعهم في أسواق العبيد؟ هذا كتالوج إجرام شامل!
يقول الشيخ متولي إبراهيم: جاء العرب بمعانٍ باطلة فسروا بها نصوص القرآن، وألفاظ باطلة نسبوها كذبا إلى نبي الإسلام، حولوا بها الإسلام من رسالة هداية وبشرى رحمة للعالمين إلى مشروع سيطرة وسيف سلطان سلطوه على رقاب الناس ليوسعوا ملكهم، فاستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والعرض الحرام غنائم وأسلابا باسم الإسلام، والإسلام من كل ذلك براء، ثم - يا حسرة على العباد- حذوا حذوَهم مَن بعدَهم ولا يزالون حتى اليوم وهم لا يشعرون، «وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا»/05 المائدة.
لم يأت العرب لنشر الإسلام في مصر، بل لممارسة الحكم والسياسة وجمع الضرائب والجبايات والإتاوات بدليل أنهم توارثوا الحكم في أبنائهم بالوراثة ولم يتركوا المصريين يحكمون بلدهم، بل كانوا كل خمسة أعوام تقريباً تقوم ثورة من المصريين ضد حكم سلالة قريش ولكنهم يقمعوها بالقوة والوحشية في كل مرة، وكان المصريون عُزل بلا سلاح، ومع ذلك لم يستسلموا لحكم قريش، وتحوّل المصريون من صناعة أوراق البردي التي كانوا يصدرونها إلى العالم لتدوين العلوم والمعارف، تحولوا إلى صناعة السلاح لمقاومة الاحتلال العربي. لأن العرب عندما دخلوا مصر لم يكونوا يمارسون دور الداعية، بل دور ضابط الشرطة ذا الوجه البغيض. كانوا يقومون بدور العسس لا الأصدقاء المتعاونين، كانوا وجودهم أشبه بعصابات فرض السيطرة وليس رجال الدين والدعوة. في الواقع إن العرب لم يحترموا بلادنا ولا شعبنا ولا صلة الجوار وإنما استغلوا كبوتنا الحضارة وقفزوا على ظهورنا وظلوا يتراقصون كما القرَدة على عرش البلاد، ولم يرحموا عزيز قوم.
فكيف نحتفل نحن بحضارة العرب ودولتهم في العراق والأندلس، ونفتخر بهارون الرشيد بمقولة أنه قدم ساعة ميكانيكية هدية لملك من أوروبا فظن أنها شيطان لغرابة وضعها، على اعتبار أن حضارة العرب وصلت أوج ازدهارها من حيث التقدم والرقي والابتكارات والاكتشافات العلمية، بينما كانت مصر تعيش أسوأ عصور القمع والقهر والذل تحت الحكم العربي، فلم ير المصريون من العرب سوى القسوة والوحشية والغباء والجشع في جمع الجبايات والضرائب، ولم يقم العرب بأي إنجازات في مصر سوى أدوات الحكم والسلطة فقط لإحكام القبضة على الشعب المسكين، حتى وإن كان أجدادنا المصريين في هذا الوقت مسيحيين، فلهم حق وحرية العقيدة، ولو كان جدي مسيحياً فلا يمكن أن أسلمه لمحمد بن سلمان كي يهين كرامته أو يسبي بناته أو يذبح أبناءه.. غير أن ما منعهم منذ البداية عن اعتناق الإسلام سوى وحشية العرب لدرجة أن الإسلام لم ينتشر بين المصريين سوى بنسبة 2% خلال مائة عام كما يؤكد الأزهر، بينما انتشرت المسيحية خلال خمسين عاماً فقط، وهذا ما يؤكد أن الوجود العربي في مصر كان " غير مرغوب فيه" وأنه تسبب في تأخر اعتناق المصريين للإسلام. أي أن القومية العربية هي التي قيدت وعطلت الدين عن الانتشار في مصر.
يقول الأستاذ فاروق عطية(1)" يظن الكثيرون أن المصريين شعب مستكين قانع بحياته لا يقاوم الظلم ولا يثور, وهذا فهم خاطئ لطبيعة المصريين. كلنا نعلم أن الطبيعة الجغرافية للسكان تشكل الكثير من طبائعهم, والمصريون قد حبتهم الطبيعة بأرض زراعية سهلة الزراعة ونيل متدفق يبعث النماء والاستقرار فانعكس ذلك على سلوكهم الهادئ الوديع. فهم شعب مسالم طيب ودود صبور جداً ولكنه حين يتعرض للظلم يثور ثورة عارمة وينطبق عليه القول" يكفيك شر الحليم إذا غضب".. لكن حتى ثورات الغضب المصري لم تجد نفعاً مع الوحشية العربية... ونستعرض بعض ثورات المصريين ضد العرب بعد تربعهم على أرض الفراعنة. وقد ظن المصريون أن العرب أخف وطأة من الرومان ولكنهم كانوا كمن استجار من الرمضاء بالنار, فتوالت ثوراتهم وانتفاضاتهم الواحدة تلو الأخرى.
وفي عام 831م، في عهد الخواجة المأمون خليفة العرب، يقوم مجموعة من المسيحيين المصريين بثورة كبيرة ضد السلطات العربية، وبعد فشل الثورة، يطلب المسيحيون من الوسطاء بينهم وبين الخليفة أن ينقلوا له أسباب ثورتهم، فقالوا في رسالتهم أن أبا الوزير الوالي كان يرغمهم على دفع جزية لا يستطيعون تحملها، وكان يسجنهم ويربطهم في الطواحين، ويضربهم ضربًا مبرحًا ويضطرهم إلى طحن الحبوب كالدواب تمامًا، وعندما تأتي نساؤهم إليهم بالطعام، كان خدمه يهتكون عرضهن." ! (2).. هذا هو ما جاء العرب من أجله لمصر.. جمع الجزية والخراج، بل لم يكتفوا بالجزية فرفعوا الخراج – الضرائب - إلى أقصى درجاته، ثم تحوّل الأمر في مصر إلى عملية تأميم شامل، فأصبحت الأراضي ملكاً للعرب والمصريين يزرعونها مقابل حصة سنوياً من محاصيلها .! وما زال العرب مقتنعين أنهم إنما جاؤوا ليعلمونا الدين ! وما زلنا نحن الموالي مقتنعين بأن آباءنا الروحيين العرب إنما جاؤوا ليعلمونا الدين، وفي الواقع هم في حاجة ماسة لمن يعلمهم مبادئ هذا الدين العظيم.
فلما زاد ظلم جُباة الخراج وضوعفت الجزية واشتد الخناق على الجميع، انتفض أهل البلاد جميعاً كرجل واحد فى ثورة عارمة, وقد أسفرت هذه الثورة عن هزيمة جيش العرب. وفرّ أمامهم الوالي ومعه جُباة الضرائب, الأمر الذي جعل الخليفة المأمون يُرسل أخاه المعتصم على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي ليدعم جيوش العرب لإخماد الثورة في مصر، وعلى الرغم من وحشيتهم, إلا أن الثورة ازدادت اشتعالاً مما اضطر المأمون إلى إرسال جيشٍ آخر من الأتراك بقيادة "أفشين" التركي للتنكيل بالثوار، فحاربوه وقتلوا من الجيش عددا كبيراً, فبعث إليهم جيشاً آخر فكسروه. وفي سنة 824 م 216 هـ اضطر الخليفة المأمون أن يزحف بنفسه من بغداد إلى مصر على رأس قوة حربية لإخماد ثورة المصريين التي فشل في إخمادها كل قواده الذين أرسلهم سابقاً. وكاد ثوار المصريين أن يفتكوا بجيش المأمون لولا أن الخليفة لجأ إلى أخبث الطرق السياسية وأحطها للقضاء على الثورة، وذلك باستدعاء رجال الدين الأقباط، وطلب منهم تحت التهديد أن يتعاونوا معه في إخماد ثورة المصريين، وعلى الرغم من هذا فقد رفض الثوار الاستسلام وفضلوا الاستمرار, وبعد حروب دموية بينهم وبين جيش المأمون كان النصر دائماً فى جانب الثوار، لكن مع استمرار الضغط ضعف الثوار، ودخل الجيش بلاد البشمور وحرق مدنها ودمر كنائسها وقتل صغارها وسبى نساءها وأجلى رجالها إلى جزر الروم الخاضعة له(3).
يقول المقريزى المؤرخ المسلم (فى كتاب الخطط للمقريزى ج1 ، ص78/89):" إن هؤلاء القوم (يقصد البشموريين) كانوا أكثر توحشا وتعنتا من سائر سكان مصر، وقد أقلقوا السلطات, ألم يناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الإسكندرية فى أيدي عمرو؟ ألم يكونوا أول من قام بإعلان الثورة ضد جباة الضرائب؟". ويقول في اختصار: " انتفض القبط فأوقع بهم "الأفشين " على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، فبيعوا وسُبى أكثرهم، حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر". !!.. ومن شهادة المقريزي المؤرخ المسلم هذا نفهم أن العرب أذلوا المصريين، أي لم يأتوا لمصر كي يعلموا المصريين دينهم ولكن لكي يحكموهم عنوة ويحصلوا منهم الجبايات والإتاوات ويخضعونهم ويقمعونهم عنوة، وبنص شهادة المقريزي نفهم بوضوحٍ شديد أن من دخل الإسلام من المصريين في هذا الوقت لم يكن يتمتع بإرادة حرة بمفهوم القانونيين، بل مورس عليه إكراه غير مباشر لكنه متعدد العناصر، إذ يقول المقريزي " ذُلّتْ القبط في جميع أرض مصر".
وتقول مصادر التاريخ أن الخليفة المأمون كان معه مستشاره الخاص على الرضوان الذي قيل إنه طبيب وعالم لغويات فقام بدور المترجم للخواجة المأمون لينقل له الحوار مع المصريين وتقصى بنفسه الأمر ليقف على الحقيقة، كان يريد أن يحاط علماً بكل ما يجرى على الأرض وفى البلاد، ضمانا لأمور كثيرة أولها عدم إفلات السلطة منه وثانيها عدم إفلات الثروة، وضمان تسمع ما يقال عنه كحاكم ومعرفة ما يجرى من مؤامرات ضده كأجنبي على أرض الوطن، لأن المصريين لم يكونوا يعرفوا اللغة العربية في هذا الوقت، وكان العرب أجانب منعزلين في قواعدهم العسكرية "الفسطاط" وغيرها .. وفجأة قرر المأمون أن يشطب العرب من ديواني العطاء والجند. هذا القرار جاء سياسياً عسكرياً لضمان ولاء الموظفين داخل هذه الدواوين الحكومية، لكنه أيضاً بالصدفة أدى إلى معرفة المصريين بالدين الإسلامي واللغة العربية، لأن معنى ذلك أن الأموال والرواتب التي كان يتحصل عليها العرب من عملهم في هذه الدواوين قد ألغاها المأمون، وهو ما يعني نزع كل مكتسبات الأمويين وأعوانهم من العرب والذين اشتركوا في الثورة ضده، لأن هذه هي الثورة الوحيدة التي اشترك بها العرب في مصر ولم تكن أهدافهم مصرية ولا كانت للتظلم من الجباية والجزية أو غيره، وإنما كانت محاولة للانقلاب على حكم الخليفة العباسي أو استقلال بحكم مصر، وبالتالي بعدما تمكن الخليفة المأمون من وأد هذه الحركة نكل بكل من شارك فيها أو يشتبه فيه... فترك العرب الحصون والمواقع الوظيفية ومدن الجنود واندمجوا في الشعب المصري ليتكسبوا قوت يومهم، بعدما عاشوا عالة متطفلين على المصريين، توسلوا وزاحموا المصريين في العمل والتملك والمصاهرة, وتعرف المصريون على ديانة العرب عن قرب وبدأ التأثير والتواصل بين الثقافتين، وتعلم المصريون اللغة العربية ومن هنا تفقه المصريين في الدين الإسلامي أكثر من العرب أنفسهم.
وبعدما تزايدت قيمة الجزية والخراج أضعافاً مضاعفة، واستنجد المصريون بالرومان مرة أخرى حتى جاؤا الإسكندرية وفتح المصريون لهم أبوابها كي يخلصوهم من العرب، لكن لم تنجح محاولاتهم. وقامت سلسلة من الثورات، ليس من المسيحيين ضد العرب فقط، ولكن الأكثر كانت من خليط (مسلمين ومسيحيين) بسبب الظلم والجور وفساد الحكم العربي، وتكاد مصر تكون قد عاشت عمرها كله تحت الحكم العربي ثورات متتالية وحركات تمرد يتم قمعها بوحشية غريبة ذكرها المؤرخون الإسلاميون في كتبهم بهدوء أعصاب غريب. لكن في الغالب كانت حركات التمرد هذه ضد الأعباء الاقتصادية والمشكلة أنها كانت تحدث من قرى مستقلة ونادراً ما تتحد قريتان أو إقليم (محافظة مثلاً)، وكانوا في الغالب عُزل بلا سلاح، وإن اتخذوا أسلحة بدائية يأتي العرب بقوة عسكرية يكتسحوا القرية بالكامل ويخطفون الأطفال والنساء والبنات ويحرقون بيوت القرية... هؤلاء هم الصحابة الذين عاشوا على أرض مصر وماتوا فيها ودفنوا في ترابها، لكنهم بعد وفاتهم اكتشفنا أنهم كانوا أبطال فاتحين مجاهدين في سبيل الله وخلدنا ذكراهم بعدما اضطهدوا أجدادنا، فقط لأننا أصبحنا مسلمين بينما أجدادنا كانوا مسيحيين، لأنه بالطبع 80% من المسلمين الآن في مصر كان أجدادهم مسيحيين في هذا الوقت... وبالتالي قبل أن نتفاخر بحضارة العرب في بغداد والأندلس لا بد أن ننظر إلى حال أجدادنا وأبناء شعبنا كيف كانت حياتهم تحت حكم العرب، هل كانوا يعيشون عز وحضارة وازدهار كما في بغداد والأندلس؟ فمن الغباء أن نولي غيرنا على أجدادنا بحجة أنهم كانوا مسيحيين.
وليس هناك مبرر للتضامن مع الحكام السعوديين سواء من قبيلة بني كلب أو كان الأشتر النخعي أو حنظلة أو صفوان الكلبي أو دود المهلبي، ضد أجدادنا المصريين، حتى وإن كانوا مسيحيين فلهم حرية العقيدة، ولهم حق الدفاع المشروع عن أنفسهم وأموالهم ووطنهم، وقد أمرنا الله بالبر والإحسان إليهم حتى وإن كانوا مشركين، لكنهم كانوا أصحاب البلد وأصحاب عقيدة إلهية ولهم أيضاً حق الدفاع المشروع عن بلدهم وحقوقهم، ولا يمكن إجبارهم بالتسليم لسلطان حاكمٍ سعودي يتسلط عليهم ويستنزف طاقتهم الاقتصادية بأي حال، أو يهينهم بالختم على قفاهم كما فعل العرب، وليس المبرر أن العرب خلصوا المصريين من حكم الرومان، لأن جميع المصادر التاريخية والشعب المصري في هذا الوقت قرروا أن العرب كانوا أشد وطأة على المصريين من الرومان، بدليل عدد الثورات وحركات التمرد كانت في عهد سلالة قريش أكثر وأعنف مقارنة بالرومان. وإلا فما موقف التاريخ من هذه الثورات؟ هل كانت خيانة للوطن؟ هل خان الأقباط وطنهم بقيامهم بثوراتٍ ضد الحكم العربي؟ غير أن العقيدة الوطنية تحتم علينا الانتماء لبلدنا ولا يمكن القبول بأن يحكمها سعودي إلا إذا كانت عقيدة إخوانية، والإخوان بطبيعتهم لا يؤمنون بفكرة الوطن، وليس لديهم عقيدة وطنية من الأساس.
ونتيجة هذه القلاقل والثورات وحركات التمرد المتتالية، حاول العرب استقطاب الموالي في جانبهم وإبعادهم عن باقي الشعب المصري للقضاء على الثورات وحركات التمرد، وهذا هو منشأ وبذرة الفتنة الطائفية وانقسام المصريين إلى مسلمين وأقباط، مسلمين أقلية بنسبة 2% موالين للوجود العربي في مصر في سبيل الهروب من الضغوط الاقتصادية، وأغلبية الشعب المصري مسيحيين معارضين للوجود العربي في مصر، حتى أن كلمة أقباط أو القبط كان تطلق على جميع سكان مصر، فصار يستثنى منها الموالي، وانحصرت في باقي الشعب المصري الذي ظل على المسيحية 400 عام. وبالتالي فإن الحكم التاريخي التأريخي هنا لا بد أن يسجل احتلال عربي لمصر، طالما وقف الشعب المصري ضد هذا الطغيان، ومن الأسف أن نجد أغلبنا المسلمون حالياً مقتنعين بأن المسيحيين فقط هم منا قاوموا الطغيان العربي واعتبروه غزو! الغريب أننا كمسلمين حالياً كان أجدادنا هم هؤلاء المسيحيون الذين تعرضوا لظلم العرب، لأن المسلمون وقتها كانوا 2% فقط وأغلبهم من القبائل العربية التي غادرت أوطانها بعد عناءٍ طويل إلى بورتو قريش بالقاهرة، فهل نحن بذلك نعتبر ناقمين على أجدادنا لمقاومتهم العرب ودفاعهم عن وطنهم! على الأقل هم كانوا مسيحيين أخلاقهم أفضل من أخلاق العرب، ولم يكونوا عنصريين مثل العرب، ولم يكونوا جهلاء مثل العرب، ولم يكونوا همجيين مثل العرب. غير أن الدفاع عن الوطن غير متعلق بدين، فهم دافعوا عن وطنهم بإخلاص، فهل يكون التخلي عن الوطن من أجل الدين؟ وهل لا يمكن اعتناق الدين مع الاحتفاظ بالوطن؟ إن مجرد إطلاق كلمة فتح على دخول العرب مصر لهو خيانة وطنية في حق الوطن؛ لأن العقيدة الوطنية تحددها الأغلبية وليس الأقلية، ولو اتخذنا سجلات الأمم المتحدة كمعيار إنساني عادل للفصل بين الشعوب والأوطان، سنجد سجلاتها تقول بأنه وقع احتلال عربي للأراضي المصرية خلال هذه الفترة. وهنا نقف لنتساءل؛
مع الوضع في الاعتبار أن القضية هي قضية وطن وليس قضية دين، لأن العرب لم يأتوا في الأساس من أجل الدين وفقاً للسجال الذي دار بين عمرو وعمر، ولأن الوطن لا يمكن امتلاكه إلا بامتلاك حرية الحكم على أرض هذا الوطن، وحرية العقيدة قرينة بحرية الوطن، أما الدين فيمكن اعتناقه في أي مكان في العالم، غير أن الديانة المسيحية انتشرت في مصر بالكامل دون أن تنتزع سلطة الحكم في مصر، ودون أن تفرض على الشعب المصرية جزية ولا خراج ولا ختم ع القفا برسمة أسد، فلماذا اشترط العرب انتزاع سلطة حكم مصر كي ينشروا الدين؟ وهل فرط المسلمون وقتها في حرية وطنهم حفاظاً على دينهم؟ وهل كان هناك ما يمنعهم من اعتناق الدين والحفاظ على الوطن معاً؟ فلماذا فرطوا في حرية وطنهم وتضامنوا من العرب الدخلاء طالما أنه ممكن اعتناق الدين دون الخضوع لحكم قبيلة بني كلب؟ وإذا قلنا أن المسلمين انضموا إلى العرب واعتبروا وجودهم في مصر فتحاً مقدساً عليهم، فهذا لا يمكن اعتماده حكم لأن المسلمين في هذا الوقت كانوا أقلية بنسبة 2% ولا يمثلون الشعب المصري. ولأن العقيدة الوطنية يحددها الأغلبية وليس الأقلية. بمعنى لو جاءت بريطانيا الآن وهي دولة مسيحية لدخول مصر ووقف جيشها على الأبواب، وانضم إليه المسيحيون المصريون وبقيت الأغلبية المسلمة تقاوم دخول الانجليز باعتباره احتلال، فكيف يكون الوضع؟ هل الوطن هنا من حق الأقلية المسيحية ليقولوا أن دخول الإنجليز فتح مقدس؟، وهل يحق لهم التضامن مع الإنجليز ضد إرادتنا نحن الأغلبية المسلمة؟
في الواقع إن العرب الذين حكموا مصر خلال هذه الحقبة لم يكونوا يمثلوا الإسلام وإنما كانوا يمثلون أنفسهم وطبيعة مجتمعهم الهمجي، كانت الكاريزما العربية غالبة على الطابع الإسلامي، وما حدث في هذا الوقت من تضامن الأقلية المسلمة مع العرب ضد إرادة أغلبية الشعب المصري ليس نابعاً من خيانة وطنية، ومن الصعب اتهامهم بالخيانة الوطنية أو خيانة الذات أو خيانة الوطن لصالح الدين، ولكنه ناتج من أثر الضغوط والصدمة النفسية، لأن الظروف التي وضع العرب المصريين فيها لم تكن أبداً تسمح لمصري باعتناق الإسلام عن قناعة كاملة وبإرادة حرة، بل كانت الحقبة التاريخية كلها عبارة عن " ظرفٌ قهري" كان وضع المسلمين المصريين في هذا الوقت كما حال "عرب 48 " الذين تنازلوا عن هويتهم ولغتهم وقوميتهم الفلسطينية وانضموا إلى إسرائيل وقبلوا أن يحملوا بطاقات هوية إسرائيلية، برغم أنهم ليسو إسرائيليين، ويتحدثون اللغة الإسرائيلية وينتمون للدولة الإسرائيلية، وسيأتي أبناءهم إسرائيليين، يدرسون تاريخ إسرائيل وقوميتها في مدارسهم، وينتمون واقعياً للهوية الإسرائيلية، ومع ذلك من الصعب اتهامهم بالخيانة الوطنية لأن إرادتهم ليست حرة حرية كاملة، بل يعيشون في ظرفٍ قهري جميع عناصره مفروضة عليهم.. وبمرور الوقت تضعف فكرة القومية الفلسطينية في عقول أجيالهم حتى تذوب وتحل محلها القومية الإسرائيلية.
وهكذا كان المصريون تحت الحكم العربي ولذلك لم يتجاوز عدد من أسلموا 2% من الشعب المصري في ظل هذه الظروف، بينما اعتنق جميع المصريين الديانة المسيحية خلال 50 عاماً فقط لأنها لم تقترن بظلم وحكم قمعي مثل حكم العرب، وإنما جاءت مصر في ظرفٍ هادئ وعلى منبر الدعوة، أما العرب فقد أساؤوا للإسلام أبلغ إساءة وشوهوا مبادئه السمحة حينما استخدموه وسيلة لمص دماء الشعوب.. وليس معنى صدمة أن تكون وقوع تحت تعذيب أو ضغط بدني مباشر وإنما الصدمة هي مجموع الظروف التي يوضع فيها الإنسان فلا يستطيع التحمل، فيتحوّل إلى الاستسلام، ومن هنا تنفلت أفكاره وقناعاته وتنعكس على نفسها، كما توضح متلازمة ستوكهولم، بأن الضحية يتحول ليؤمن بأفكار المعتدي عليه ويدافع عنه ويتبنى أفكاره ومبادئه في محاولة لاستشعار الأمان بعدما ضعفت إرادة المقاومة، وقد حدث هذا معنا نحن المسلمين، ليس المصريين فقط، بل كل الشعوب التي تعرضت للاحتلال العربي أصيبت بهذه المتلازمة الشعبية، وظلت على مدار ألف وأربعمائة عام تؤمن بأفكار خاطئة، هذه الأفكار الخاطئة هي أن الطريقة التي احتل بها العرب بلادهم دين مقدس، وهذا ليس من فقه الدين وإنما من أثر الصدمة التي جعلتنا نؤمن بأفكار العرب وندافع عن مبادئهم ونعتبرهم أبطال. إذ أن مدارسنا لا زالت إلى اليوم تدرس دخول العرب مصر باعتباره جهاد وفتح مقدس، مع أنه مخالفة صريحة لمبادئ الدين الإسلامي، لأن الإسلام لا يقر دخول بلد واغتصاب سلطة الحكم فيها بهذه الطريقة واستنزاف اقتصاد أهلها هكذا.
إن العرب نجحوا بالفعل في تفكيك النسيج الاجتماعي لقمع الثورات وحركات التمرد. لأن الإقبال على الإسلام في هذا الوقت كان ضعيفاً جداً، خصوصاً أن العرب دخلوا بجيش محارب وبدؤوا فوراً تنظيم الضرائب كما الرومانيين لكنهم زادوا عليها الجزية، ولم يكن العرب يتحدثون لغة المصريين ولم يفكر أحدهم في تعلمها والتواصل مع المجتمع المصري، وكانوا متعاليين على المصريين حتى من أسلموا منهم ظلوا في درجة "الموالي"، فكان في الغالب من يقبلون على الإسلام يكون دافعهم الهروب من الأعباء الاقتصادية، كما كان وضع الصحابة الكبار حول النبي في مكة، إذ كان معظمهم من العبيد الذين استفادوا من سماحة الإسلام وتقنينه لحق تقرير المصير بنظام المكاتبة، والمساواة في الحقوق الإنسانية بين الأسياد والعبيد، هذه المصالح في الأساس هي ما دفعت الصحابة الأوائل إلى اعتناق الدين الإسلامي والإيمان بدعوة النبي. كذلك في مصر كان الوضع في البداية مجرد هروب من الأعباء الاقتصادية لغير القادرين من المسيحيين فيعلنون إسلامهم للتخلص من الجزية ويبقى الخراج فقط. ثم في محاولات تالية لتخفيف الأعباء عليهم حاولوا استقطاب العرب والتودد إليهم، فاستغلهم العرب لقمع ثورات الشعب المصري.
فالعرب شغلهم الدهاء والمكر وألاعيب سياسية رديئة، وكثير جداً من الحكام العرب من قريش في مصر تم تصفيتهم من قبل الخلافة والمناوئين وجميعها اغتيالات سياسية، لكن بطرق ساذجة ووحشية، بذات الطريقة التي قتلوا بها الصحفي جمال خاشقجي في سفارة السعودية بتركيا 2018، حيث كتموا أنفاسه بكيس من البلاستك ثم قاموا بتقطيع أوصاله بمنشار كهربائي وإذابة أشلاء جثته بحمض الكبريتيك.. ثم يأتي رجل الدين للتبرير فيقول " إن الله نجّا الأمير محمد بن سلمان من هذا المأزق لسببين: الأول هو رباطة جأشه، وأما الثاني فهو علاقة بينه وبين الله ! بينما رئيس وزراء كندا يقول له " أنتم عبءٌ على المسلمين "(4) .. لكنهم هكذا يجعلون لكل جريمة غطاءً من الدين، حتى أن عمرو العاص بعد قتل أحدهم في مصر كان يضحك ويقول" إن لله جنوداً من عسل" ! في الواقع لقد أخطأ رئيس الوزراء الكندي وخانه التعبير، لأن الحقيقة أن العرب في العصر الحالي يمثلون قُرحة مزمنة في جسد البشرية، حتى تاريخهم وفتوحاتهم كانت أكبر قُرحة في جسد الإسلام وفي جسد البشرية أيضاً، فبرغم أن الله أوصاهم بحسن الجوار إلا أنهم أشعلوا سيوفهم في كل شعوب الجوار حتى نزفت دماءً غزيرة .
هكذا كان وضع الحكم تحت سلالة قريش السعوديين في مصر، ولم يكن أمام المصريين سوى الاستسلام للأمر الواقع، لأن القوة المادية لصالح العرب، غير أن القوة المادية وحدها ليست حاسمة لأن العرب كانوا يمتازون بالخشونة والوحشية الانتحارية حتى في قتل بعضهم البعض، كانوا من طبيعة جبلية وحشية كما سلالة المماليك، والمماليك هؤلاء جاؤا من جبال البلقان، حيث نشأوا في طبيعة جبلية صخرية وعرة في سفوح جبال البلقان، وكانت طبيعتهم قاسية وخشنة جداً تحمل ملامح البيئة التي نشأوا فيها وتمكنوا من التغلب على ظروفها الصعبة والعيش فيها، ولذلك كانت قدراتهم في القتل وحشية بدرجة خارقة، يستطيع الواحد منهم أن يقتل عشرة بدمٍ بارد، وكانت الجيوش العابرة على جبال البلقان تجمع هؤلاء البشر الجبليين وتأخذهم أسرى تدربهم وتستعين بهم في القتال مقابل أجور أو مأكل ومعيشة أو مرتزقة دائمين، ولذلك كان أغلب الجيش العثماني من هؤلاء وحقق بهم انتصارات كبيرة جداً.
وكذلك كان العرب متوحشين مقارنة بالمصريين، كانوا مثل الوحوش الضارية التي تقتل وتنهب بغير إنسانية، ولم يحملوا من أخلاق نبيهم أي ميزة، إذ أننا لا نجد أي أثر لهذه الوحشية في النبي عليه السلام، حتى أنه رغم خوضه سبع معارك حربية لم يقتل إنساناً في حياته قط، حتى إذا ذهب إليه أحد المشركين لقتله في معركة أُحد مد النبي سيفه من بعيد فجرحه جرحاً طفيفاً عاد على أثره، ولم يتتبعه النبي ولم يقتله ولم يؤذه، لكن العرب لم يحملوا في قلوبهم الجبلية القاسية أي ريحة من ملامح النبي وأخلاقه الطيبة وسماحته وهدؤوه ورحمته بالناس.. كانت طبيعة العربي جبلية وحشية كما وصفه ابن خلدون بدقة، حتى خلافاتهم السياسية عادة ما يتم تصفيتها بأبشع طرق القتل، ولم يتورعوا حتى من التمثيل بجثث أصدقاء النبي المقربين منه، حتى أن عمرو العاص كي يتولى حكم مصر بإيعاز من معاوية وبالتواطؤ ضد على أبن أبي طالب، اتفقوا على قتل الصحابي الجليل محمد ابن أبي بكر الصديق وكان حاكماً لمصر وقتها، وقاموا بربطه من ساقيه وجره في الشوارع ليكون عبرة لجميع العرب، ثم قاموا بدفنه في جيفة حمار وقاموا بحرقها وأخذوا قميصه لترقص به النساء في مكة والمدينة.. كانوا يتصرفون مع بعضهم كما الهكسوس...
بينما المصريين ليس من طبيعتهم أن يتصرفوا هكذا، ولم نجد واقعة في التاريخ المصري تثبت أنه تم التمثيل بجثة ملك من الملوك أبداً ولا حتى من عامة الناس، إذ أننا نجد الملك الفرعوني سقنن رع في حروبه ضد الهكسوس وقع في إحدى المعارك بيد الهكسوس وقتلوه ومثلوا بجثته كعادة العرب، لكن المصريين تمكنوا من سحب جثته من تحت أقدامهم وقاموا بتحنيطها ووضعها في المقبرة المجهزة له. غير أن المصريين على مدار تاريخهم تولى الحكم فيهم أكثر من ثلاثين عائلة على مدار خمسة آلاف عامٍ لم تقتل عائلة أخرى من أجل السلطة، ولم يقتل ملكُ غيره من أجل السلطة، ولم تحدث أي صراعات سياسية أو عسكرية أو فتنة أهلية من أي نوع على مدار تاريخ الحضارة المصرية كاملاً، بل إن الملك الوحيد الذي يرجح المؤرخون أنه توفى في ظروف غامضة هو إخناتون الذي قاد ثورة دينية لتوحيد العبادة في مصر ، وانتهى حكمه في ظرفٍ غامض، ما قد يعني اغتياله، ومع ذلك لم يمثل المصريين بجثته كما فعل العرب بجثة الصحابي الجليل محمد ابن أبي بكر الصديق، بل إنهم دفنوه في مقبرته الملكية مثل غيره من الحكام في وادي الملوك والملكات، فقط كل الاختلاف أنه ربما امتنع الكهنة عن التحنيط، ولهذا وجدنا جثته في المقبرة عبارة عن هيكل عظمي ممددة إلى جوار التحف والآثار والمجوهرات الملكية ولم يتم حرقه في جيفة حمار.
لكن المصريين بعدما دخل العرب مصر وتربعوا على عرشها عصوراً طويلة كما الضيف الثقيل.. فتوقف الفراعنة عن تحنيط ملوكهم، ونسوا أخلاقهم وقيمهم ومبادئهم السمحة، وثقافتهم وعلومهم ومعارفهم بعدما أجبرهم العرب على ترك لغتهم الفرعونية والتحدث بالعربية، واستجاب المصريون على أمل أن يتعرفوا على الإسلام.. لكنهم للأسف لم يعرفوا الإسلام على حقيقته، بل تقمصوا العقلية العربية وشربوا الثقافة العربية الأدبية، وتقمصوا القومية العربية التي جاء الإسلام لعلاجها من الأساس، واندمج المصريون في النسيج العربي وأصبحوا عرباً مثل العرب وجزءاً من القومية العربية...
نزل المصريون بإرادتهم من الطابق العلوي لمنارة الإسكندرية وهجروا المرايا وأطفأوا المشاعل كي يتعايشوا مع العرب في خيام الصحراء المتواضعة وينهلون من ثقافتهم وعاداتهم ويتعلمون تاريخهم القرشي بعدما افترش العرب صحراء المعادي بجوار حصن بابليون كما ورد بخطط المقريزي، (وخططوا عدة حارات(خطة = حارة أي شارع بلغة المصريين) واختصت كل قبيلة بخطة أو حارة) في منتجع قريش الذي عُرف وقتها بالفسطاط.. ومن هذا التاريخ هجر المصريون المنارات والأهرامات وسكنوا الفسطاط مع العرب... وبرغم أن الشاب الإغريقي الإسكندر دخل مصر من الشمال كما دخل عمرو من الشرق، لكن الإسكندر خطط مدينة الإسكندرية ووضع حدودها ومعالمها وأمر مهندسيه بالعمل على إنجازها حتى صارت تحفة معمارية ومنارة للعالم إلى يومنا هذا.. بينما منتجع قريش الذي بناه عمرو العاص بعد الإسكندر بألف عامٍ أصبح خرابة وذابت معالمه مع عوامل التعرية لأنها قامت بأسلوب البناء الصحراوي لا الحضاري.. للأسف تواضع المصريون لمستوى ثقافة العرب كي يتعرفوا على ثقافة النبي محمد، مع أن النبي محمد ما كان بحاجة إلى ذلك، بل كان بإمكانه التعايش مع المصريين حتى في الطابق العلوي لمنارة الإسكندرية دون اشتراط الهبوط إلى مُخيّم الفسطاط. ... (انتهى المقال الرابع بتصرف من كتابنا : غبار الاحتلال العربي)
- مقال للأستاذ فاروق عطية: بعنوان: ثورات المصريين ضد الغزاة العرب " منشور بتاريخ/ 2011 / 2 / 21على موقع الحوار المتمدن، رابط : http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=247167&r=0 2- مقال عن الغزو العربي منشور على موقع ساسة بوست على الرباط التالي: https://www.sasapost.com/was-islamic-invasions-colonial-wars/ 3- الأستاذ فاروق عطية- المصدر السابق 4 - خبر منشور على موقع "الصحافة الحرة " بتاريخ ديسمبر 18, 2018م على رابط: : https://sahafahurra.com/world-news
#محمد_مبروك_أبو_زيد (هاشتاغ)
Mohamed_Mabrouk_Abozaid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف حكمت سلالة قريش أرض الفراعنة (1)
-
غبار الاحتلال العربي (7)
-
غبار الاحتلال العربي (6)
-
غبار الاحتلال العربي (5)
-
غبار الاحتلال العربي (4)
-
غبار الاحتلال العربي (3)
-
غبار الاحتلال العربي (2)
-
غبار الاحتلال العربي (1)
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|