|
أجل، نحن لا نستسيغ النقد
عبد الرحمن جاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1539 - 2006 / 5 / 3 - 06:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نعم أحبتي أعترف عني، وعن من هم مثلي، بأننا لا نستسيغ النقد، ولا نحبه، ولا نحبذه، حتى أننا –يا أحبتي- نحاول عبثاً التعامل معه على أساس أنه غير موجود البتة! وفي ذلك قد أتعرض/نتعرض للومٍ شديد، وتقريع، ونقد! ولكن مع هذا لا أخفي سراً أننا أنا/نحن لا نستسيغ النقد أبداً. نحن لا نستسيغ النقد ليس لأنه كلامٌ موجه ضدنا، أو لأنه تقييم لعملنا ونحن لا نحبه، نحن لا نستسيغه لعدة أسباب مهمة سأحاول إيرادها تباعاً، وبطريقة منطقية، مبتعدة عن العواطف والمشاعر، لأن الأسباب عقلية بحتة. أولاً: يا أحبتي، ليس هناك من خطوطٍ محددة للنقد، ولا من قوانين ثابتة، أو ضوابط أكيدة، يعني مثلاً حينما يأخذ أحدهم بانتقاد قصيدةٍ لك، نص أدبي، لوحة، معزوفة، منحوتة، (أي عمل فني باختصار)، فما هي القوانين والضوابط التي يستند عليها؟ القوانين العامة؟ والمعروف أن فن الجمال (فن الجمال هو عبارة عن نوعٌ من التصنيف الحديث للفنون كافة، ويحدد الشيء تبعاً لقربه من البعد الإنساني أو ابتعاده عنه، وهذا الفن من الفنون الحديثة للغاية، وهو من فنون القرن العشرين) عموماً، والذي يمكن ادراج هذا التصنيف تحته، فهل الشعر الحديث مثلاً له قوانين محددة، أو المسرح التركيبي؟ أو غيرها من الفنون؟ أنا لا أقترف خطأً حينما اقول بأن بعض الأمور تنتقد لأنها منطقية، (كمثل الأخطاء اللغوية الكثيرة، أو عدم مراعاة قوانين وقواعد اللغة أو علامات الوقف، وهو أمر خالفته الكاتبة النمساوية الحائزة على جائزة نوبل إلفريد جيلينيك، حينما أصدرت كتاباً بأكمله دونما أي علامة وقف). بالعودة للنقطة الأساسية، لا توجد خطوط واضحة للنقد، حيث إن المبدع لا حدود لإبداعه، ولنأخذ النص المسرحي مثالاً، فنص بريشت (برتهولد بريشت كاتب ومسرحي ألماني شهير)، المسرحي، يختلف كلياً عن مسرح شكسبير(وليم شكسبير، مؤلف وكاتب ومسرحي انكليزي)، ومسرح رايش (فيلهلم رايش، عالم نفس وفيلسوف ألماني وكاتب لديه عدد من المسرحيات وتوجه خاص في عالم المسرح) يختلف كلياً عن مسرح ماكس مور (مسرحي أميركي من العصر الحديث). وإذا قارنا بين النصوص المختلفة لهؤلاء نجد الأفق واسعاً للغاية، مع أن كلهم (عدا شكسبير طبعاً) هم من رواد المسرح الحديث، لذا كيف يصح النقد هنا؟ طبعاً هذه النقطة قد يعتقد البعض أنها تنحصر تماماً في الإبداع الأدبي أو الفني، ولكنها من الممكن أن تنسج كذلك على الأمور العادية والعلاقات الإنسانية البسيطة، فيستطيع أي شخصٍ انتقاد عملنا العادية أو تصرفنا البسيط في أي موقف إنساني جاهلاً أن المواقف الإنسانية والتجارب الإنسانية هي تجارب شخصية بحتة، كما يقول كارل يونغ(عالم نفس سويدي، يعتبر من تلامذة فرويد وزملائه، لكنه اختلف معه وعنه كثيراً). مثلاً قد ينتقدك أحدهم وكثيراً على موقفك الجبان تجاه أمرٍ ما، وكيف أن تصرفك ضعيف، مع أنك تعرف بأنكما لو تبادلتما الأماكن لفعل ما فعلته أنت، ولربما أسوأ. النقطة المهمة هي أنه ليس هناك من قواعد محددة، ولا خطوط محددة للنقد. ثانياً: يا أحبتي، النقد في بلادنا، يأخذ شكلاً شخصياً، أي أن الناقد يأخذ شخصية الكاتب/المؤلف/المبدع مثالاً ويبدأ بالتعامل مع النص على أساسها، وعلى أساس علاقته الشخصية بالشخص نفسه. وهو أمرٌ يفتقد للموضوعية، ويتجه بعنف صوب الخصوصية والشخصانية. فالناقد –يا أحبتي- يتحول فجأة إلى "صيادٍ" همه الوحيد هو أن يتصيد صفات المبدع لا ابداعه. وتتحول شخصية المبدع إلى مشكلة، ولكن هذا الأمر مخيف إلى حدٍ كبير، فشخصيات المبدعين تختلف تماماً عن ابداعهم، فنيتشه (فريدريك نيتشه، فيلسوف ألماني من القرن الماضي، يعتبر من أوائل الفلاسفة الذين بشروا بفلسفة القوة) مثلاً كان شخصاً غير لطيف، وشديد القسوة، وعلى هذا نفترض أنه لو سكن بلادنا، لكان تعرض للنقد الشديد والعنيف من أشخاص عاملهم نيتشه ذات مرة بقسوة، وقس على ذلك. أما بالنسبة للحياة العادية، فإذا كنت أكره فلاناً، تصبح كل تصرفاته عرضة للنقد، ذلك أنه ليس هناك من شيء يقوم به شخصٌ "مكروه" لا يمكن أن يحوّل إلى تصرفٍ سيء، إن النقد يستعمل هنا لشتم الشخص أو للتجريح به تبعاً لقرب الشخص الناقد من الشخص المنقود أو بعده عنه! ثالثاً: يأتي النقد أحياناً من اشخاصٍ يهدفون إلى تحطيم المبدع، وإغراقه، لربما لغيرةٍ، لربما لشعورٍ بالإمتعاض مما حققه هذا المبدع. فتصبح هذه الكلمات الموشاة ببعض اللطف، كأن يمرر مديحاً واحداً، وعشر شتائم ضمن المقال النقدي، أو التعليق النقدي على سبيل المثال. وهذا النقد ذو الأسباب الغريبة/الخفية يكثر في عالمنا العربي، حيث إن الناقد تراه يبحث عن ثغرات داخل الإبداع نفسه لكي يبدأ بنصب سلمه والصعود على جثة الشخص "المنقود". وتحطيم المبدع هو عملية تكثر في بلادنا، انتهجها كثيرون، وتبدو عدة تجارب ماثلة للعيان أمامنا، بدءاً من تجربة أحلام مستغانمي الكاتبة الجزائرية، التي تحدث كثيرون وكثيرون عن أن كتابها الأشهر "ذاكرة الجسد" هو ليس من تأليفها، بل من تأليف كذا وكذا. أما بالنسبة للحياة العادية –التي أعود إليها كثيراً في هذا المقال- كما قلت في النقطة السابقة العلاقة الإنسانية هي التي تحدد مدى تكسير/تهشيم هؤلاء الأشخاص لنا أو عدمه، ولكن في هذه النقطة تحديداً وخصوصاً في العلاقات الإنسانية، تظهر نقاطٌ جديد، فقد تحاول أم/أخت/حبيبة توجيه شخص بإتجاه معين، لتصرفٍ معين، معتقدين أن ما يقومون به صحيح، ومنطقي، وأن ما يقوم به هذا الشخص خاطئ، فيبدأون بتوجيه الانتقادات تباعاً، هنا يمكننا أن نلاحظ، أنهم لا يكرهون الشخص المقصود نفسه، بل بالعكس قد يكونون محبين وللغاية، ولكنهم يكرهون شيئاً آخر، لا يعترفون بكراهيتهم له، إنما بدلاً من ذلك فإنهم يعوضون الأمر بانتقاد تصرف، أو فعل قام بهم هذا الشخص. أي أن نقدهم لشيء معين يخبأ خلفه نقداً لشيءٍ آخر. لذا فإن النقد ههنا كذلك يستعمل في غير موضعه. رابعاً: يكون موجه النقد شخصاً لا يعرف عن الأمر شيئاً، فالكثير من المثقفين في بعض الأمور، لا يعرفون شيئاً في أمور كثيرة، فالعلم هائل الحجم ومتشعب كثيراً، يعني قد تكون بروفسوراً في الطب البيطري، ولكنك لا تعرف شيئاً عن الهندسة الجينية مثلاً، أو تكون لديك دكتوراة في فلسفة الأدب الحديث، ومع هذا لا تعرف عن مسرح النو (مسرح ياباني قديم، يرتدي الممثلون فيه أقنعة، كما أن كل الممثلين هم من الذكور). فالناقد الذي لا يعرف شيئاً عن طبيعة النص، قد يكون كما قلنا شخصٌ مميز في مجالٍ معين، كما يحصل كثيراً في عالمنا العربي، فيأتي مختصٌ بالقصة مثلاً، فيبدأ بالتعليق أو انتقاد نص شعري مثلاً، مع علمه بأنه لا يعرف شيئاً عن الأمر، ولكن لأن الساحة فارغة، فلم لا يقحم نفسه؟ إذا يا أحبتي نشاهد الكثيرين يلبسون ثياباً ليست لهم، ويحملون سلاح النقد بهذه الطريقة المحزنة. خامساً: يكون النقد أحياناً مبنياً على خلفيات سياسية/ثقافية/اجتماعية، فتتداخل الثقافات وصراعاتها في نقد النص، فالأميركي الأبيض في الستينات، مثلاً، كان ينظر لإبداع المبدع "الأميركي الأفريقي" على أساس أنه نص سخيف أو غير مناسب أو حتى بلا قيمة. فتعرض إبداع العديد من الكتّاب ذوو الأصول الأفريقية إلى النقد العنيف، لا لسبب إلا لأنها من تلك الخلفية. وفي بعض البلاد الأخرى، يأخذ الطابع الديني (أو الطائفي) نفس الصبغة. أي أن كاتب من طائفة معينة، يتعرض للإنتقاد فقط لأنه من هذه الطائفة أو من تلك، وبالطبع يمكن القياس على هذا الأمر. سادساً: يؤدي رفض النقد إلى خلق موجة نقد جديدة لدى الشخص الرافض لهذا النقد. أي أن "المنقود" ليس له حق رفض هذا النقض أو الانتقاص منه، وإلا أصبح شخصاً "رافضاً للمشورة" "وغير قابلٍ للنصيحة" (وفي العلاقات الإنسانية، قد يصبح ابناً عاقاً). وهو أمرٌ نجده مدهشاً وللغاية، إذا ما عرفنا أن هؤلاء الأشخاص (النقاد) يحضرون الأمر قبل حصوله، أي أنهم يعرفون بأن "المنقود" لن يتحمل نقدهم، لذلك فإنهم لحظة حصول الرفض، فإنهم يظهرون "سماحتهم" المزيفة، ولطفهم الزائف، وكيف أن "المنقود" لا يحتمل أن توجه له ملاحظات. وهكذا، ولهذه الأسباب مجتمعة (كما يقول المحامون في مرافعاتهم القضائية)، أقول أننا لا نستسيغ النقد والإنتقاد ونرفضه، فللنقد شروطه وقوانينه وضوابطه، ولسنا في الغابة، وليس الأمر تطبيقٌ لشريعة الغاب، حيث يسود الأقوى، ولا يحق لأي كان توجيه الإنتقاد لأي أحد فقط لأنه لم يعجبه شكله أو لونه أو جنسه أو حتى تصرفاته. النقد هو فنٌ راقي، يستعمل من أجل تحسين الحال والأحوال، ولكن أن يتحول إلى سيفٍ مسلط على رؤوس المبدعين والناس كسيف ديموقليس (قصة اسطورية قديمة تحكي عن رجل أراد أن يكون ملكاً، فحوله أحد الملوك إلى ملك، ولكن بأن وضع فوق رأسه سيفاً معلقاً بخيط) فهذا أمر مخيف وله تأثير سلبي للغاية. فالنقد هو السم في الدسم، أو قد يكون السكين التي تختفي خلف ظهر الشخص نفسه، لذا فحذارِ من النقد، وكثيراً.
#عبد_الرحمن_جاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منغانا الحاج في ديوانها -عمر الماء-:: تجربةٌ تستحق أن تقرأ
-
فلسفة الأمر البسيط
-
نرى ما نريد!
-
القسر لا يدوم - 2-
-
في بلادنا...
-
عارياً
-
القسر لا يدوم! -1-
-
رقص
-
أنا وسحر وسحر
-
الإرادة الأخيرة: نيتشه ونحن!
-
حدثتني نهلة
-
لنا عد الرحمن في عملها الجديد: -الموتى لا يكذبون-، عالم جديد
...
-
كم يحتاج واحدنا إلى -غالا-
-
لا تخاف أحداً؟ معذرةً؛ أنت كاذب
-
لا تنزعج فأنت لا قيمة لك!
-
حوار مع الفنانة العراقية سحر طه
-
كم أتمنى أن أموت
-
يومٌ عادي
-
رحلة!
-
كن صريحاً
المزيد.....
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|