|
الاقتصاد المصري ومستقبله في الأجل المتوسط: المتغيرات المحلية في الإطاريْن العربي والدولي
محمد عبد الشفيع عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 6225 - 2019 / 5 / 10 - 01:19
المحور:
الادارة و الاقتصاد
نتناول في هذه الورقة-في قسم أول-بعض معالم الموقف الاقتصادي االراهن على المستوى العربي في إطار بيئة اقتصادية منقسمة ومأزومة ، ونعرج –في قسم ثان- على بعض مكونات الإطار الدولي للتغيرات الاقتصادية، ثم ننتهي-في القسم الثالث-بتحليل التغيرات الاقتصادية المحلية لمصر في الإطار العربي والدولي. وفيما يلي نتناولها تباعا.
القسم الأول بعض معالم الموقف الاقتصادي الراهن على المستوى العربي ( بيئة اقتصادية منقسمة و مأزومة) * أولاً: بيئة اقتصادية منقسمة البيئة الاقتصادية العربية متعددة الأطراف ومنقسمة بين دول نفطية ودول غير نفطية ودول" شبه نفطية" وعدد من الدول الأشد فقرا أو الأقل نموا، وأخرى "ذات ظروف خاصة".. هذه هي السمة الأولي للاقتصاد العربي، إن صح أن يكون اقتصادا مجملا. فالملاحظ قبل كل شيء أن الوطن العربي يحتضن مجموعات من البلدان مختلفة جذرياً من حيث بيئة التطور الاقتصادى، وخاصة من حيث مستوى الدخل القومى ومتوسط نصيب الفرد منه. وللتدليل على ذلك نبدأ بالإشارة إلى أن حجم الناتج المحلى الإجمالى ( بأسعار السوق الجارية ) لمجموع الدول أعضاء "جامعة الدول العربية " في عام 2014 قد بلغ حوالى 2.8 تريليون دولار. و في هذا المقام، تعتبر الدول العربية الستة أعضاء "مجلس التعاون لدول الخليج العربية"-أو "مجلس التعاون الخليجي- هي الأكثر استحقاقاً لوصف " المجموعة النفطية"علي المستوى العربي ( بالإضافة الي ليبيا ) – وقد استحوذت هذه الدول الستة على اكثر من 1.6 تريليون دولار أى أقل قليلاُ من نصف الإجمالى (4/7). ويبلغ مجموع عدد السكان في الدول الستة في نفس السنة – بما فيه العمالة الأجنبية المقيمة – نحو 42.18 مليون نسمة ، لتمثل نحو 9% من مجموع سكان الدول العربية (377.7 مليون نسمة تقريباً ). هذا يعنى – بطريق المقابلة – ان 91% من السكان العرب يحصلون علي أقل من 50% من الدخل العربي الإجمالي. ومن المهم أن نشير هنا الي الوزن الخاص للمملكة العربية السعودية علي صعيد السكان والدخل كليهما داخل مجموعة "مجلس التعاون الخليجي"، إذ يبلغ عدد سكانها 30.7 مليون نسمة أى أكثر من ثلاثة أرباع التعداد الإجمالي للمجموعة، ويبلغ مستوى الناتج المحلى الإجمالى للسعودية -في نفس العام دائماً –نحو 744 مليار دولار أى أقل قليلاً من نصف الدخل الخليجي المجمَع، وأقل قليلاُ من ربع اجمالي الدخل العربي ، بينما تصل نسبة سكانها الي اجمالي السكان العرب نحو 12% . وقد لا يكون بعيداً عن مقتضي السياق أن نشير هنا الي خلل التركيبة السكانية في دول الخليج ، نظراً لعظم ارتفاع نسبة الاجانب إلى لمواطنين بصفة عامة. وغالباً ما كانت الإحصاءات العربية تدرج الجزائر والعراق في عداد " الدول شبه النفطية ". وفي هذا السياق وجدنا ان حجم الناتج المحلى الإجمالي للجزائر- بالأسعار الجارية لعام 2014 –بلغ 220 مليار دولار أى أقل من 10% من الدخل الإجمالي المجمع ، مقابل تعداد سكاني بلغ 38.7 مليون نسمة أى أقل من 10% من السكان العرب .. فهي إذن تمثل حالة توازنية من حيث التساوى التقريبي بين حصتها من الدخل ومن السكان . أما في العراق فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي الي مستوى يلامس 205 مليار دولار ، مقابل تعداد سكاني بلغ 36 مليون نسمة ، مما يعنى توازناً تقريبياً في حصة العراق من الدخل والسكان قياساً علي المستوى العربي العام ، بنسبة تقل عن 10% في الحالتين. فيما يتعلق بالمجموعة غير النفطية ، فإننا نكتفي هنا بأن نمثل لها بحالة جمهورية مصر العربية الي حد معين، حيث بلغ مستوى الناتج 286.7 مليار دولار ، اى نحو 10% من الإجمالى العربي ، مقابل حجم للسكان يلامس سقف 87 مليون نسمة تقريباً في ذات العام- 2014- أى أنها تستأثر بأكثر من 25% من السكان في المجموعة العربية، مما يعنى خللا في التوازن غير خافٍ علي كل حال . تبقي مجموعة رابعة، يطلقون عليها مسمَى الدول الأشد فقراُ أو الأقل نمواً ، او "أقل الأقل نمواً" إن شئت less –least Developed ويمثل لها –في الإحصاءات الصادرة عن جامعة الدول العربية –بكل من جبيوتي والصومال وجزر القمر وموريتانيا واليمن . وقد وجدنا أن أغلبها يتسم بخفة نسبية في عدد السكان، و أكثرها عددا اليمن (26 مليوناً ) و الصومال (11مليوناً ) ، ثم موريتانيا (3.7) فجيبوتي ( مليون واحد فقط ) وأخيراً : القمر (760.000 نسمة ). يبلغ العدد الإجمالي للسكان في هذه الدول الخمسة 42.5 مليون نسمة وهو يزيد قليلاً عن مجمل حجم السكان في دول الخليج مشتملاً في هذه علي العمالة الأجنبية المقيمة، ويمثل نحو 9% من السكان العرب – أما مستوى الناتج المحلى الإجمالي المجمع للدول الأقل نمواً ( باستثناء الصومال حيث تم تتوفر عنها بيانات ) فقد بلغ نحو 40 مليار دولار اى نحو 2.5% من اجمالي الدخل الخليجي ( وقرابة 1.5% من اجمالي الدخل العربي العام). ويبقي انه من الممكن تصنيف مجموعة من البلدان العربية علي أنها ( ظروف ذات خاصة ) إما لأنها تقع تحت الاحتلال الدائم حتى الآن ( فلسطين ) أو وقعت تحت الاحتلال قريباً ( العراق ) أو تعيش حرباً أهلية مزمنة ( الصومال ). وتشاء المقادير في ظروف ما بعد يناير 2011 – وعلي فترات متفاوتة- أن نضيف كلا من سوريا وليبيا واليمن ... ! ونرجو أن تسمح المقادير بآفاق حسنة لهذه البلدان الشقيقة في أقرب وقت . فهذه إذن هي السمة الأولى للبيئة الاقتصادية العربية الراهنة ، كبيئة تتسم بالتجزؤ وبالتفاوت أو عدم التوازن بمعياري الدخل والسكان، بل وذات طابع " انقسامي " واضح ، بمعني ميلها الباطن المستمر الي توليد المزيد من التباينات . ثانياً : السمة الثانية للبيئة الاقتصادية العربية انها بيئة ( مأزومة ) إذ تعيش أو (تتعايش) فيها عدة أزمات جوهرية، بالمدلول الاقتصادى، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة حسب الظروف المختلفة للمجموعات العربية سابقة الذكر . ويتمثل ذلك بصفة أساسية فيما يلي مما يجدر التفصيل الرقمى والتحليلي بشأنه لاحقاً وفي مناسبات أخرى . 1- الاعتماد الزائد في الدول المسماة بالنفطية وشبه النفطية على النفط كقطاع مهيمن بصفة كلية تقريباً على مصادر توليد الناتج المحلى الاجمالي والايرادات الحكومية والنقد الأجنبي. و نظراُ لأن هذه الدول هي الأكثر قدرة – بالاحتمال وكذا بالفعل الي حد ما- على تحريك عجلات النمو في سائر البلدان العربية، فيمكن القول إن النمو الاقتصادى العربي علي الإجمال محكوم بمتغير عالي وسريع التذبذب، وخاضع كلياً للظروف الخارجية . 2- الضعف النسبي للقطاعات الأعلي قدرة على رفع مستوى الناتج والانتاجية في المدى الطويل ، وهما علي وجه التحديد : أ- الصناعة التحويلية Manufacturing والتى نفرق تفرقة حاسمة فيما بينها وبين صناعات الاستخراج التعديني والطاقوى كالنفط والغاز extractive . و لاتزيد مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الاجمالي للدول العربية عموما ( عام 2014) عن 9.8% وتتراوح في أعلاها بين 14.5% و 16.7% ( مصر والأردن وتونس والمغرب ) ولا تتجاوز 10.8% في السعودية – رغم أن التجارب التاريخية وخاصة في شرق آسيا تدل على أهمية تجاوز تلك النسبة في مراحل التنمية الأولى إلى 25% وأكثر. ب- الزراعة ج- الخدمات ذات الطابع العلمي والتكنولوجي المتطور . 3- توفر المؤشرات الدالة على اختلالات التوازن الحسابي علي المستوى العربي بصور متابنية ومن أهمها : أ- ارتفاع مستويات الدين العام الخارجى القائم في ذمة 14 دولة عربية هي ما تسمى في عرف الإحصاء الرسمى العربي بالدول العربية المقترضة ، وفي أعلاها السودان (43.6 مليار دولار ) ثم جمهورية مصر العربية (41.3) فلبنان (33 تقريباً ) ثم المغرب (30.7) وأخيراُ قوتى ( 29 تقربياً ) . ب- ارتفاع نسبة خدمة الدين العام الخارجى ( الأقساط + الفوائد ) الي دخل الصادرات من السلع والخدمات. إذ تستنفد خدمة الدين نحو 35% من عائد الصادرات في لبنان، مقابل 12% في مصر ونحو 8% في كل من الأردن و تونس (و جيبوتي)، ثم أقل من ذلك في البلدان الأخرى. 3-الفائض والعجز في الموازنات العامة. ويمكن أن يقاس هذا المؤشر بنسبة الفائض أو العجز الي الناتج المحلى الإجمالي (%) . ويلاحظ هنا وجود ثلاثة دول من بين الأعضاء الستة في (مجلس التعاون الخليجي) ضمن قائمة البلدان التى تعاني من العجز بنسب مختلفة، وهي: السعودية (بنسبة عجز 11.8%) والبحرين (3.6%) وعمان (1.1%) . أما أعلي الدول العربية من حيث معدل العجز خلال سنة العرض (2014) فهي ليبيا حيث بلغت النسبة 72.6%. ومن بين الدول ذات العجز المرتفع مصر وموريتانيا بنسبة 12% تقريباً لكلٍ، بينما تعاني من عجز مقبول كل من الجزائر(6.3 %) واليمن -قبل الأحداث الأخيرة- (6.3% أيضا ) ولبنان (6.1%) والمغرب (5%) وتونس (3.5%). وتظل كل من الأردن (2.3%) والسودان (1.1%) عند مستوى منخفض نسبياً . 4-ضعف وتآكل الاحتياطيات السيادية من العملات الأجنبية. وقد بلغت الاحتياطيات الرسمية بالعملات الأجنبية للدول العربية – عام 2014 – نحو 1.352 تريليون دولار ( مقابل 3.8 تريليون دولار تقريباً للصين وحدها ). ومن بين المبلغ المجمع للاحتياطيات الرسمية الخارجية سابقة الذكر للدول العربية فإن السعودية تستأثر بحوالى 732 مليار دولار أي نحو أكثر من النصف .. تليها بفارق كبير الجزائر (187.2 ملياراً ) . وتجدر الإشارة الي انخفاض إجمالي الاحتياطيات العربية من 1.370 تريليون دولار عام 2013 الي 1.352 تريليون دولار عام 2014 ( كتقدير أولى). وقد يدل هذا على اتجاه تاريخي نحو تآكل الاحتياطيات وخاصة مع استمرار ضعف أسعار النفط وتذبذبها خلال العامين 2015 و 2016 .
القسم الثاني بعض مكونات الإطار الدولى للتغيرات الاقتصادية
يشهد العالم عدداً من التطورات الاقتصادية التي تمثل إطاراً محدداً للتغير على الصعيدين المحلى والعربي والاقليمى . ومن أهم هذه التطورات ما يتعلق بالقضايا الثلاثة الآتية : أولاً : تدخل الدولة ، كضرورة لا مهرب منها، في مختلف المجموعات الدولية. ففي العالم الصناعي يعتبر التدخل بالسياسات المالية والنقدية والتنظيمية أمرا مهماً للحد من أثر الأزمات المالية الواسعة كأزمة 2008-2009 . وقد كان تدخل الحكومة الأمريكية فى 2009 عاملاً حاسماً لمواجهة ما سمي بأزمة ( الرهن العقاري ) من خلال سياسات ( التيسير الكمي ) Quantitative easing بدءً من الدعم المالي للبنوك وشركات التأمين العملاقة ، وانتهاءً بتملك مؤقت لحصّة من الأسهم لحين انقشاع غيوم الأزمة على المؤسسات المعنية . وفي الحالات التي لم يلحظ فيها تدخل إيجابي لجهاز الدولة من أجل الإنقاذ – منطقة اليورو كمثال واضح – أخذت تستفحل مظاهر الأزمة ، وتأخذ وقتاً أطول من أجل التعافي ، كما في فرنسا وألمانيا ، وبصورة أشد في اسبانيا والبرتغال وأيرلندا . وفي الأزمة المالية الآسيوية ، في وقت أسبق ، 1996- 97 ، كان تدخل جهاز الدولة أمراً ضرورياً لحفز السياسات المتعلقة بالأسواق المالية وحركة رؤوس الأموال من وإلى الدولة و التتغير في قيمة العملة المحلية والمتصلة كذلك بالإنفاق الاستثمارى والاستهلاكي، و معدل الادخار من اجل مواجهة الأزمات . و قبل أجواء تلك الأزمة ، كانت الدول الشرق – آسيوية مسرحاً لممارسة وظيفة تنموية للدولة من خلال ممارسة دور توجيهي – إشرافي حاسم لوضع الخطوط الرئيسية للمستقبل الاقتصادي، وخاصة من حيث حفز التصنيع والتطور التكنولوجي وما يسمي بالتحول الهيكلى، ثم اتخاذ السياسات اللازمة لتوجيه مصادر التمويل بصورة انتقائية selective أو تفاضلية Differentiative من أجل تشجيع التوسع في القطاعات ذات الأولوية ، والعكس . وقد أطلق على هذه التجربة الآسيوية ( الدولة التنموية ) .
وفي التاريخ الاقتصادى المعاصر للدول الصناعية المتقدمة ، كان دور الدولة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية مثلا و حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين ، أمراً حاسماً في إطار ما سمي بسياسات " دولة الرفاهة " من خلال ضمان حدود دنيا مقبولة لمستوى المعيشة ، وبناء نظم تأمينية فعالة ومنظومات للحماية الاجتماعية ، وخاصة في مجال تأمينات البطالة والتأمين الصحى ، بل و دعم المزارعين ، كما حدث في شمال أوروبا (إسكندنافيا) وفي غربها ( فرنسا وألمانيا بالذات ) . وفي مختلف دول العالم اعتبر التدخل بصورة عامة عاملاً ضروريا للتغلب على نواقص ما سمي بالاقتصاد الحر ، حيث أن ترك أمر تسيير الحياة الاقتصادية لقوى السوق وحدها يمكن أن يؤدى إلي نتائج ذات طابع " كارثي " . ثانياً : التكتلات والتجمعات الاقتصادية : حيث نلاحظ بروز التجمع أو " التكتل " كسمة حاكمة للتفاعلات الاقتصادية علي المستوى العالمي ، سواء في الدول الصناعية أو في الدول النامية أو في الحالات التى تجمع دولاً من هذه وتلك . ومن أبرز الأمثلة على ذلك : الاتحاد الأوروبي. وبهذه المناسبة نرى أن "الخروج البريطاني" ليس دليلاً على تناقص أهمية المشروع الأوروبي الاندماجي بالضرورة ، بل قد يكون دافعاً في الاتجاه الآخر، أى الى مزيد من تقوية المشروع الأوروبي، ولو نسبياً ، في ضوء الترابط ( غير الحميد ) أو ( غير المتكافئ ) مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر الاطلنطى . نشير أيضا إلي ( منتدى التعاون الاقتصادي الآسيوى – الباسيفيكى ) والذي يضم الدول المطلة علي المحيط الهادى بما فيها الولايات المتحدة والصين واليابان. وهناك تجمع (الآسيان ) – رابطة دول جنوب شرق آسيا ، و( منظمة شنغهاى ) و(تجمع الدول المطلة على بحر قزوين ) . أما في المنطقة العربية والإفريقية ، فهناك تجربة تاريخية ممتدة للعمل الاقتصادى العربي المشترك ، والذي وصل الي حد إقامة ( منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى)، اعتباراً من يناير 2005 ، وإن لم تتكافأ ثمرات العمل المذكورمع الآمال المعقودة عليه، لأسباب متعددة . وتتمثل إحدى وأكبر الخطوات الإفريقية في هذا المجال في إقامة ( منطقة التجارة الحرة الثلاثية ) التى تجمع كلاً من (كوميسا) و( سادك ) وتجمع شرق إفريقيا الاقتصادى، وقد تم توقيع الاتفاقية المنشئة للمنطقة الثلاثية في شرم الشيخ العام 2015. ويلزم العمل علي تفعيل منطقتى التجارة الحرة العربية والإفريقية من خلال إتباع الخط الماثل في التجارب الدولية الأكثر نجاحاً أى دمج جهود وتحرير التجارة مع تعميق التعاون والتوجه التكاملى علي صعيد الاستثمارات والتنسيق الإنتاجي – الصناعي ، وسياسات انتقال الأشخاص ، وفي المجالات المالية والنقدية ، بل والاجتماعية كلما أمكن ذلك . ومن أبرز أمثلة النجاح الإقليمي في الفترة الأخيرة إنشاء "البنك الآسيوي للبنية التحتية" ، الذي رعته الصين بهدف تمويل عمليات البنية الأساسية في القارة الآسيوية، في إطار نشاطها الجمً مع سائر أعضاء تجمع ( البريكس ) BRICS الذي يجمع روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا، وقد أسهمت مصر فيه . و نأمل أن تعمل مصر على الاقتراب من التجمع الأخير، علماً بأن مصر قطعت خطوة مهمة في الاقتراب من ( مجموعة العشرين ) وتمت دعوتها لحضور اجتماع القمة القادم في العاصمة الصينية بكين كمراقب ، وحضرت الاجتماعات التمهيدية بهذه الصفة في الفترة الأخيرة .
ثالثاً : تجنب سياسات " التقشف " Austerity . علي إثر سياسات " دولة الرفاهة" التى سادت العالم الصناعي والنامى في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينات ، كما أشرنا ، والتى ارتبطت بما يسمى الاتجاه الكينزى ( نسبةً الي المفكر الاقتصادى البريطاني الأشهر جون ماينارد كينز) - تحولت الدول الغربية نحو إتباع سياسات نقيضة ، قائمة علي ( التحول الى القطاع الخاص) ، و( إطلاق قوى السوق ) سعياً الي مواجهة تبعات " أزمة التضخم الركودى " التى أعقبت ارتفاع أسعار البترول بعد حرب أكتوبر 1973. وكان المدخل الذي اتبعه الغرب منذ مطلع الثمانينيات خاصة على خطى مارجريت تاتشر في بريطانيا ثم رونالد ريحان في الولايات المتحدة فيما سمى بالتاتشرية والاقتصاديات الريجانية Reaganomics - قائماً علي ما أطلق عليه نهج " الليبراليين الجدد" New - Liberals القائم على تحويل عبء الأزمة المالية الي الفئات الاجتماعية محدودة الدخل. وأطلق عليه البعض مسمى "اقتصاديات العرض" Supply-Side Economics دلالة على تشجيع رجال الأعمال الكبار بدلاً من سياسات حفز الطلب المجتمعي الفعال. وقد تمّ ذلك عن طريق سياسات " التقشف " الهادفة الي تقليص الإنفاق الاجتماعي الموجه إلى الفئات الفقيرة ، باعتباره – وليس الإنفاق على التسليح مثلاً – هو السبب الداعي الي اتساع فجوة العجز في الموازنات العامة ، واللجوء من ثم الي " التمويل التضخمى " الذي يغذي الركود وارتفاع الأسعار. وكان الوجه الآخر لسياسات التقشف تجاه الفئات الاجتماعية الأدنى علي سلم الدخل ، تقديم اعفاءات ضريبية ومزايا متنوعة لقطاع الشركات ولكبار رجال الأعمال والمال والصناعة .
ولما كانت الدول النامية منذ مطلع الثمانينات بالذات ، قد أثقلت كاهلها الديون العامة الخارجية والداخلية ، مما دفع بعضها إلى شفا الإفلاس أو "عدم القدرة على الدفع" كما حدث فى حالة المكسيك عام 1985، فقد تقدمت الدول الصناعية الغنية و أوْكلت إلى "صندوق النقد الدولى" مهمة جمع حزم مالية مرتبطة بصفقات "تقشفية" تحت مسمى سياسات الاستقرار أو "التثبيت" Stabilization و كان العنوان الرئيسى لهذه السياسات وضع برامج لما سمى بالإصلاح الاقتصادى- أو التكيف الهيكلي-مع الدول النامية المدينة ، يتمثل قلبها الأساسي فى العمل على استعادة توازنات الموازنات المالية والنقدية الأساسية وفى مقدمتها الموازنة العامة ، عبر خفض النفقات الاجتماعية وخاصة منها تلك الموجهة إلى الدعم الحكومى السلعى والخدمى ، كما فى دعم الطاقة والغذاء والتعليم والصحة . وقد ثبت أن الاتَباع عبر المتبصَر للبرامج الموصى بها من صندوق النقد الدولى، في غيبة سياسات موجهة لخفض الفقر وحفز التنمية الزراعية والصناعية والعلمية والتكنولوجية –يؤدى إلى نتائج عكسية ذات طابع سلبى بصفة أساسية، فى عموم البلاد النامية المعنية. كما كان اتباع وصفة سياسات التقشف لمواجهة أزمة ديون اليونان – ضمن منطقة اليورو- خلال السنوات الأخيرة ، بل فى الدول الأوروبية الرئيسية – عكس السياسة "التوسعية" للولايات المتحدة بمقتضى "التيسير الكمى)- ذا أثر سلبى عميق من حيث إطالة المدى الزمنى والموضوعى للأزمة المالية. ويفسر ذلك فى جانب منه – تأخر “التعافى” فى أوروبا ومنطقة اليورو، بالمقارنة مع الاقتصاد الأمريكى بالذات. ويرى بعض الاقتصاديين فى هذا المجال أن سياسات التقشف (تجلب تحيزات طبقية وأعمالشغب وعدم استقرار سياسي، وديوناً أكثر وليس أقل ، واغتيالات وحروباً ...) (*) . ولذا يلزم أخذ الحيطة والحذر فى مصر عند التعامل مع الأزمات الاقتصادية فى المراحل الانتقالية ، عن طريق اتباع حزمة سياسات اقتصادية واجتماعية متوازنة ، لضمان عبور هذه الأزمات و"أعناق الزجاجات" في مراحل الانتقال بأمان نسبي معقول.
القسم الثالث المتغيرات الاقتصادية المحلية لمصر في الإطار العربي و الدولي
المحدد الرئيسى للتطور الاقتصادى فى المحيط العربى – الاقليمى لمصر فى الأجل المتوسط (3-5 سنوات) هو متغير النفط والغاز، إنتاجاً وتجارةً وسعراً . خلال الفترة الأخيرة (3-5 سنوات الماضية) مالت أسعار البترول إلى الانخفاض ، مع تذبذب طفيف ، حول 50 دولاراً تقريباً للبرميل ، نزولاً عن المستوى السابق الذى كان يلامس قرابة 150 دولاراً . هذا من جهة . ومن جهة ثانية، فقد حدث تغير ملموس فى هيكل الطلب والعرض، إذْ اتجه الطلب الكلى إلى الانخفاض ، كأثر لموجة انكماشية فى الاقتصاد العالمى ومركزه الأوروبى – الأمريكى ، وخاصة من جانب الصين والهند وكوريا الجنوبية كدول مستوردة كبيرة للنفط فى العالم. فى نفس الوقت تغيرت هيكلية العرض بفعل موجة الخروج والدخول للمنتجين وأوزانهم النسبية فى الأسواق الدولية للنفط والغاز . فقد حدث خروج نسبى لإيران بفعل العقوبات الدولية والغربية المفروضة عليها فى إطار التعامل مع برنامجها النووى، وأدت الاضطرابات السياسية المتوالية فى العراق إلى انخفاض مستوى الإنتاج، تبعه خروج شبه كلى لليبيا من سوق الصادرات البترولية وخاصة خلال 2014-2015 على إثر توقف العمل فى الموانىء الرئيسية ومصافى التكرير، بعد أن قام ما يسمى(حرس المنشآت النفطية) بدور رئيسي فى ذلك . تم تعويض النقص فى العرض العالمى، عن طريق زيادة ثم ثبات مستوى الإنتاج عند السقف المرتفع ، من قبل المملكة العربية السعودية التى دأبت على لعب دور "المورَد المكمل" فى سوق البترول العالمى ، عن طريق رفع السقف تعويضاً للنقص إن وقع، وخفض الناتج إن لزم الأمر، فى حال تشبّع السوق . أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد رفعت مستوى الإنتاج من حقول النفط الصخرى إلى درجة غير مسبوقة، حتى زاد إنتاجها من النفط الخام بوتيرة عالية مستمرة تقريبا ، وخاصة منذ عام 2010 ، ليرتفع من 5,5 مليون برميل يومياً تقريباً فى ذلك العام إلى 6,5 مليون ب/ى فى عام 2012 ، ثم 7,4 مليون ب/ى فى عام 2013 ، ويقدر وصوله إلى 8,5 ب/ى فى عام 2014 ، لتحتل بذلك المركز الثالث على الصعيد العالمى خلال العام الأخير بعد كل من روسيا (ذات المركز الأول بإنتاج بلغ 10 مليون ب/ى) ثم السعودية (9,7 مليون ب/ى). و بينما كان مستوى الإنتاج لروسيا ثابتاً تقريباً خلال الفترة (2010-2014) فقد ارتفع الإنتاج السعودى من (8,2 مليون ب/ى) تقريبا عام 2010 إلى 9,7 مليون ب/ي في 2014ليواكب التغير المتوقع (وربما المتعمَد) فى الأسواق الدولية(*) . وقد أدى تزايد مستوى الناتج فى كل من الولايات المتحدة والسعودية بالذات، على النحو السابق، بافضافة إلى ارتفاع مستوى المخزون في الدول المستهلكة الأساسية وخاصة في أوربا، وذلك مقابل تقلص الطلب الكلى، لاسيما من طرف الصين وسائر الآسيوية الرائدة، إلى انخفاض سعر النفط كما هو معلوم . ما هو الاتجاه المتوقع فى الفترة القادمة للأسعار ؟ تدل المؤشرات المتوفرة إلى ارتفاع سقوف الإنتاج بفعل دخول إيران بقوة ، لترفع مستوى العرض العالمى نسبياً ، بعد رفع العقوبات ، إثر الصفقة النووية فى إطار مجموعة (5+1) – بالإضافة إلى ارتفاع حجم الإنتاج من العراق من (2,3 مليون ب/ى) عام 2010 إلى (3 مليون ب/ى) تقريباً عام 2014 . وكذلك الحال مع ليبيا حيث يشار إلى توافق بين (حرس المنشآت النفطية) والسلطة الفعلية القائمة فى طرابلس العاصمة ، من أجل فتح موانىء التصدير ومصافى التكرير. ودع عنك (السوق السوداء) للنفط من خلال مبيعات النفط من الحقول السورية باتجاه تركيا، بواسطة تنظيم (داعش) الإرهابى خلال العامين الأخيرين . إن ذلك يدفع- وقد دفع- باتجاه انخفاض الأسعار نظراً للوفرة أو تخمة العرض الكلى على المستوى العالمى. ولكن مقابل هذا الاتجاه النزولى إلى الأسفل ـتتوفر مؤشرات على احتمالات الصعود لأعلى من جانبين : أولهما ارتفاع متوقع فى مستويات الطلب، وخاصة بفعل استقرار معدل النمو الاقتصادى فى الصين عند 7,4% تقريباً ، مع مؤشرات على التعافى النسبى فى الدول المتضررة ضمن منطقة اليورو، وخاصة أسبانيا والبرتغال، علماً باستمرار أجواء الأزمة فى اليابان ، وتوقعات بانخفاض معدل النمو الاجمالى فى بريطانيا فى إطار مسيرة (الخروج من الاتحاد الأوروبى).
أما الجانب الثانى فهو انخفاض الإمدادات من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات ، نظراً لأن الاتجاه النزولى للأسعار يدفع بتناقص الاستثمارات فى صيانة وتطوير حقول النفط الصخرى ، وخروج العديد المتزايد من آلات الحفر العملاقة من دورة الإنتاج. ويؤدى ذلك الاتجاه النزولى عبر الزمن إلى خفض مستويات الإنتاج الأمريكى، مما يدفع إلى ضرورة العمل على توازن الأسواق - بارتفاع فى الأسعار، من أجل الاستمرار فى حفز الاستثمارات النفطية . من أجل ذلك تتوقع بعض المصادر (مثل بنك باركليز) ارتفاع الأسعار فى المدى المتوسط إلى نحو 85 دولاراً للبرميل عام 2019 لتنخفض إلى نحو 78 دولاراً فى عام 2021 (*) . هكذا إذن تميل مؤشرات عديدة إلى عودة التوازن إلى سوق النفط خلال نهاية فترة التوقع (3-5 سنوات قادمة) مما يدفع إلى التساؤل عن الأثر على الاقتصاد المصرى من جراء ذلك . هناك أثر مباشر، وأثر غير مباشر . أما الأثر المباشر فيتعلق بانخفاض سعر النفط الخام فى الأسواق العالمية ، ونلاحظ هنا – على خلاف الشائع – أن مصر ليست مستورداً صافياً للبترول الخام، وإنما هى مصدر ومستورد فى نفس الوقت، وقد تتفوق صادراتها بفارق طفيف على الواردات . ولذلك فهى لم تستفد حتى الآن بصورة ملموسة كثيرا من انخفاض سعر النفط . ولكن الموقف من النفط الخام يختلف تماماً عن الموقف من المنتجات البترولية المكررة وشحنات الغاز المسال، حيث تعتمد مصر على الواردات بنسب متفاوتة ، وخاصة من الغاز الطبيعي (حيث توفر واردات الغاز نحو 30% من الحتياجات محطات الطاقة) والغاز المنزلى (البوتاجاز) . وتسلك أسعار المنتجات البترولية المكررة والغاز المسال سلوكاً مختلفاً عن النفط الخام ، على منحنى خلق "القيمة المضافة" كما هو متداول فى البحث الاقتصادى، مما يرفع من تكلفة الواردات من المواد الخام والوقود ومستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة ، والتى تشكل الشطر الأكبر من تكلفة الواردات المصرية على وجه الإجمال . ومقابل الأثر الذى يشكله انخفاض أسعار النفط الخام على مصر، أو فلنقل – مع التحفظ – ضآلة التأثير الإيجابى فى حالة المنتجات البترولية، فإن هناك علاقة إيجابية مبشرة بالنسبة للاقتصاد المصرى فى المدى المتوسط محل البحث، بفعل تعاظم اكتشافات الغاز الطبيعى من حقول البحر المتوسط الشمالية (شروق وظهر ، والتى تتولاهابصفة أساسية كل من شركة إينى الإيطالية و ب.ب البريطانية وتنمية ما هو مكتشف من الحقول . ذلك سوف يؤدى إلى تزايد الإنتاج المصرى من الغاز الطبيعى لتتحول فى نهاية الفترة (بعد 5 سنوات تقريباً) إلى منتج إقليم رئيسى للغاز يحقق الاكتفاء الذاتى ويمثل شريكاً وقادماً جديداً New Comer فى مجال الغاز المسوق عالمياً، من خلال آفاق التصدير لاسيما إلى الأسواق الأوروبية . ارتفاع الناتج والصادرات الغازية سوف يؤدى إلى تغير جوهرى فى الميزان التجارى المصرى للطاقة، مما يمكن أن يدفع باتجاه التفاؤل بتحسن جذرى فى موقف العجز فى ميزان التجارة السلعية ، ومن يدرى ، ربما تحوله إلى فائض فى المدى الزمنى الأبعد (7-10سنوات) وخاصة فى حال إحداث زيادة ملموسة فى الإنتاج من قطاع الصناعة التحويلية ، والصادرات من السلع المصنعة ، بما فيها السلع متوسطة وعالية التكنولوجيا. هذا كله عن الأثر المباشر للتغير فى أسواق وأسعار النفط والغاز . أما عن الأثر غير المباشر فينحصر فى احتمالات تذبذب العون الإنمائى المقدم من بلدان الخليج (السعودية والإمارات والكويت) . ومن المهم أن نلاحظ أنه حتى يحدث الارتفاع النسبى المتوقع – إلى حد معين – فى أسعار النفط عام2019 تقريبا، أى حتى نهاية فترة التوقع تقريباً (3-5سنوات)، فإن المملكة العربية السعودية بالذات ، تليها الإمارات ، ومن بعدها الكويت ، ربما لن تكون قادرة على الوفاء بتعهداتها إزاء الدعم المالى والاستثمارى للاقتصاد المصرى ، حتى فى حال إتمام عملية (ترسيم الحدود البحرية) بطريقة مرضية للطرف السعودى. لذلك يجىء القرض الأخير من صندوق النقد الدولى عبر السنوات الثلاثة القادمة (بقيمة12 مليار دولار) كطوق إنقاذي لتعويض الانخفاض المتوقع فى العون الخليجى سواء في صورة منح نقدية لا ترد أو ودائع لدى البنك المركزى أو تسهيلات بترولية وغير ذلك .. وربما من هنا ترتفع عقيرة البعض لتوجيه سهام الاعتراض على الصفقة الإقراضية مع "الصندوق" لأسباب اجتماعية وجيهة على كل حال , ومن المهم أن نشير هنا إلى ضرورة تخفيف الأثر النهائى لبرنامج (التثبيت) الاقتصادى على الفئات الاجتماعية محدودة الدخول، وهى كثيرة وكبيرة ، والتى تحاصرها موجات التضخم السعرى، المنفلت فيما يبدو حتى الآن، فى غياب تدخل مؤثر من الجهاز الحكومى والتنفيذى ، لعجز في القدرات و لنقص فى الإدراك.
ـــــــــــــــــــــــــــ ...
إن الاعتماد على "قرض الصندوق" فى الأجل القصير والمتوسط ، وعلى تنمية حقول الغاز الطبيعى فى المدى الأبعد، كل ذلك ليس كافياً لإحداث دفعة تنموية حقيقية للاقتصاد المصرى، وتحقيق "نقلة" نوعية على سلم التراتب الاقليمى والعالمى للدول المؤثرة أو ما يسمى بالدول النامية الكبيرة، ومن بينها مصر كما يجب أن يفترض. مع ملاحظة وجود عدد من النقاط أو النواقص التى يحسن الإشارة إليها على سبيل الأهمية والضرورة، كما يأتي : (1) تعثر المفاوضات مع الجانب الأثيوبى فى ملف سدّ النهضة ، بما يحمله بناء السد من مخاطر محتملة على الطرف المصرى ، وخاصة فى فترات الجفاف ، من حيث نقص محتمل فى إمدادات المياه ، وتضاؤل مركز السد العالى التخزينى على النهر ، واحتمال زيادة تملح التربة ، إلى غير ذلك مما هو متداول . (2) تعثر فى مسار تنمية محور قناة السويس خصوصاً ، وفى المشروعات التى جرى توقيع مذكرات تفاهم مبدئية بشأنها فى مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى . وفى رأينا أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب : أ - عجز البيروقراطية المصرية عن مواكبة التغير المنتظر، سواء بالتثاقل التاريخى أو بإرث الفساد المتجذَر فى الدولاب الحكومى التقليدى . وأدى ذلك مثلا إلى تراجع فى مركز مصر على ترتيب الدول من حيث مؤشر "أداء الأعمال" Doing Business وإن كنا لا نظن أن كل ما تدبجه وتذيعه الجهات القائمة على إعداد مثل تلك المؤشرات مطابق للحقيقة في جميع الأحوال. ب- الصورة النمطية حول مصر بعد الثلاثين من يونيو، من حيث الأمن والأمان ، و حقوق الإنسان ، و أوجه العجز في التجربة الديمقراطية الحزبية والبرلمانية ، ومساوىء المنظومة الإعلامية . ج- تردد الدول الغربية الرئيسية فى منح "الإشارة الخضراء" لشركاتها الكبرى متعددة الجنسيات وعابرة الأوطان للدخول بقوة في سوق الاستثمار المصرى، على غرار ما حدث مع الصين منذ أوائل الثمانينات حتى الآن . ويرتبط ذلك بحسابات سياسية ذات شأن لدى بعض الأطراف والتحالفات الدولية . (3) أما وجه النقص الثالث فهو عجز الجهاز الحكومي والتنفيذي، وخاصة منه المشتغل في الحقل الاقتصادي. ونشير بصفة خاصة إلي عدم قدرة الطاقم الاقتصادي على تحقيق التجانس والانسجام في منظومة السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية ، بالتعاون مع البنك المركزي ، من أجل تجاوز أعراض الركود من جهة أولى، ومحاصرة التضخم السعرى بصورة فعّالة، من جهة أخرى .
وإننا لنعرف أن الخيارات جد محدودة لإحداث تغير جذرى أو جوهرى في بنية وسلوك جهاز الإدارة العامة المدنية، نظراً للإرث التاريخي المشهود، وتآكل النخب السياسية، وتدهور مستوى البيروقراطية – التكنوقراطية عقب التغيرات العاصفة منذ 2011، بفعل (الخروج ) السياسي لأطراف منها، و "الخروج" الفيزيقي" أو البيولوجي بحكم عامل السن ، نظراً للتقاعد أو الوفاة أو العجز الصحي . لذلك لا نجد نتيجة ترتجي بصورة واضحة من دعوة إلي " هز " الجهاز الحكومي بصورة قوية، من أعلي أو من الوسط. .... لا نعوّل كثيراً إذن على "قرض الصندوق" في الأجل القصير والمتوسط ، وعلي الاكتشافات الغازية في المدى الأبعد، وإنما نعوّل على العمل في "الاقتصاد المصري القديم" - إذا صح التعبير ، وعلي وجه التحديد في القطاع الصناعي، وهو مانعالجه فيما يأتي .
....
يتحدد التقدم الاقتصادي في العالم المعاصر بإحداث تطور جوهري في القطاع الصناعي التحويلى Manufacturing industry من حيث رفع نسبة مساهمته في توليد الناتج المحلى الإجمالي، والتحسين التدريجي الملموس في التكنولوجيا المستخدمة بما يتناسب مع ظروف الاقتصاد والآفاق العلمية الديناميكية في المجال . لا بل شرعت الدول المتقدمة اقتصاديا في الانتقال من العصر الصناعي إلي ما يسمى بالعصر ما بعد الصناعي Post- industrial وهو ما يترجم بالانتقال من الاقتصاد الصناعي إلي الاقتصاد الخدمي . وبعبارة أخرى : نقل الاقتصاد من مرحلة الاعتماد على الصناعة كقطاع قائد أو رائد Leading Sector إلي الاعتماد علي قطاع الخدمات العلمية والتكنولوجية ، أو الخدمات القائمة علي العلم والتكنولوجيا كمصدر لتوليد القيمة المضافة ، وتعظيم صادراتها غير الملموسة إلي العالم الخارجي . هذه هي سنّة التطور الاقتصادي العالمي الآن ، ومن بين الدول التى فهمت ذلك في الفترة الأخيرة مثلا: إيران ، رغم الحصار والعقوبات ، وكذا محاولات مختلفة في كل من السعودية وتركيا ، ودع عنك إسرائيل التي تعتبر نظيماً فرعياً Subsystem داخل المنظومة التكنولوجية الأمريكية والغريبة عموماً ، إضافة إلي أخذها قوة "جاهزة " من القدرة البشرية عالية العلم والخبرة التكنولوجية من ( المهاجرين السوفيت) سابقاً، لتصبح من جراء ذلك من بين البلدان ذات المعدل المرتفع للعلميين الي إجمالي السكان في العالم .
لذلك ندعو القوى الوطنية، وفي قلبها قوى اليسار إلي الدعوة إلى مبادرة وطنية كبرى هدفها إحداث ما يشبه ثورة تصنيعية – تكنولوجية من خلال تصنيع بدائل مماثلة لواردات السلع المصنعة- بدءً بالمكونات والأجزاء التي يكون من المجدي اقتصادياً تصنيعها محلياً - وخاصة في المجالات الأتية : أ- الآلات والمعدات الإنتاجية منالأجهزة الكهربائية والإلكترونية ومعدات الاتصالات والحاسبات . ب- معدات ووسائل النقل وسيارات الركوب وعربات السكك الحديدية والقاطرات، والميكنة الزراعية . ج- معدات الطاقة الجديدة والمتجددة ، وخاصة من الشمس والرياح والطاقة البيولوجية أو "الغاز الحيوى" . د- تصنيع الأدوية والكيماويات الأساسية برخص دولية للمعرفة Know-how أو بمقتضي براءات الاختراعات الأجنبية التى دخلت حيز "الدومين العام" Public Doman . هـ- مستلزمات الإنتاج الوسيطة في مجالات بعينها مثل الدهانات والكيماويات الوسيطة .
إن التركيز على تصنيع المكونات السابقة التى يجرى استيرادها حاليا سوف تكون له ميزة خفض تكلفة الاستيراد، ومن ثم تقليص فجوة العجز في ميزان التجارة السلعية، وتقليل ضغط الطلب على الدولار ، مما يحسن من موقف العملة المحلية ويحول دون التخفيض المتواصل لقيمتها كآلية للتعامل مع "سياسة الأمر الواقع" (*) .
...
أما الأدوات التى نأمل استخدامها لتحقيق (الثورة التصنيعية) فهي تتمثل بالوسائل المتاحة التالية : 1- الاعتماد علي الطاقات الصناعية المتاحة لكبرى شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، وهي كثيرة، عن طريق إطلاق عملية الإحلال والتجديد ، بل والتوسعات والصيانة ، واستخدام أو تشغيل " الطاقة العاطلة" ، على غرار ما تم في " الترسانة البحرية " بالإسكندرية بمبادرة من القوات المسلحة . ونشير هنا إلي ضرورة مراجعة فكرة طرح نسبة من الأسهم لعدد من شركات القطاع العام في سوق الأوراق المالية، حتى لا يمثل عودة الي سياسة " الخصخصة " الكريهة مرة أخرى.
2- حفز قطاع الأعمال الخاص من " الرأسمالية الوطنية غير المستغلة" علي المساهمة في المشروعات الصناعية التي ينبغي تحديدها وفق سلّم اولويات تنموية مخططة ، مع توقع بتحول شطر من رجال الأعمال والمال الي " رجال للصناعة " كما حدث في التجربة التركية المعاصرة مثلاً خلال فترة 2003-2010 بالذات . ويتطلب ذلك وضع وتفعيل منظومة حوافز إيجايبة وسلبية، مرافقة لمنظمة واضحة للأولويات التصنيعية للدولة وفق خطة دقيقة مزمَنة. 3- تفعيل التمويل المصرفي الميسر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة بإتاحة ائتمان ميسر لرواد الأعمال بسعر فائدة منخفض، وخاصة في ضوء ارتفاع تكلفة الإقراض الفعلية الي ما هو أعلي من المعلن بكثير .
إن إطلاق مبادرة وطنية –من قبل اليسار المصري مدعوما من اليسار العربي العريض-لتطوير الصناعة والتكنولوجيا ، أصبح امرأ ملحاً ، ولتكن مبادرة فرعية، في إطار ما سبق، تقوم على "تصنيع الآلات والمعدات الإنتاجية" بالاعتماد على القدرات المتوفرة في شركات "الهيئة القومية للإنتاج الحربي" التابعة لوزارة الدولة للإنتاج الحلربي، والشركات التابعة للهيئة العربية للتصنيع. ولن يقتصر الأمر علي إنهاض الاقتصاد المصرى وإقالته من عثرته المزمنة طوال أربعين عاماً وزيادة، بواسطة الصناعة، وإنما سيرتب عليها تغيير نوعي في مرتبة الاقتصاد المصري، كاقتصاد صناعي حينئذ ، ثم " اقتصاد خدمي " من بعد ، علي المستويين العالمي والإقليمي . ونشير هنا الي الطاقات المتوفرة لمصر بالفعل في سياق مبادرتها التصنيعية المرجوة ، علي الصعيد المقارن . فحسب بيانات 2014 فإن القيمة المضافة - بالأسعار الجارية - لقطاع الصناعة التحويلية في الدول العربية الرئيسية بلغت أعلى مستوياتها في دول الخليج في مجال الصناعات المعتمدة علي البترول والغاز الطبيعي ، وخاصة في السعودية (81 مليار دولار) والإمارات (39,7 مليار دولار ) وقطر (21,2 ملياراً ) والكويت (9,6 ملياراُ ) ثم الجزائر (9 مليارات تقريباً ) أما في مصر – التى تعتمد علي مواردها الذاتية خارج النفط والغاز إلي حد كبير – فقد بلغت القيمة المضافة 45 مليار – دولار ، تتلوها بين الدول غير النفطية بفارق كبيرة : المغرب (15,6 مليار ) (*) . تمتلك مصر إذن إمكانية كبيرة للانطلاقة الصناعية المرجوة والتي نعول عليها في إحداث النقلة التنموية النوعية ، والمرتبة التدريجية بين دول الإقليم والعالم . بهذا المعنى ، تتكفل الصناعة بإحداث تغير نوعي ملحوظ في مكونات هيكل الناتج المحلي ، من خلال التشابكات القطاعية المسماة بالأمامية والخلفية ، مع القطاعات الأخرى ، وخاصة الزراعة والتشييد ، والخدمات الإنتاجية . فالصناعة المتطورة تكنولوجيا هي بمثابة القاطرة القائدة للاقتصاد القومي بمجمله، مما يمكنه من الدخول في مجالات مستحدثة بقوة ذاتية دافعة، مثل ما ينتظر من عمليات محتملة (متعثرة) لإعادة الإعمار، كما في حالة العراق وليبيا وغيرهما، وإن كانت التجربة تحملنا على التشكك في آفاق مثل هذه العملية، من حيث عدم وفاء الدول المانحة بتعهداتها المالية، كما جرى بالفعل في حالتيْ العراق وأفغانستان. ولسوف تمثل الآفاق التنموية التصنيعية بيئة حاضنة لعملية التحديث المتوافقة مع ظروف المجتمع العربي، بما ينتج عن ذلك من توفر فرص التعليم و التشغيل لأجيال الشباب، ومن ثم خفض معدلات الزيادة الطبيعية للسكان، والتي ارتفعت بصورة مفزعة خلال العقد الزمني الأخير، وشكلت قوة دافعة لانفجار معدل النمو السكاني إلى ما يقدر ب2.58 خلال 2013-2014 ، لايسبقها من الدول العربية سوى السودان (3.11) –باستثناء دول الخليج التي يخضع معدل النمو السكاني فيها لأثر الهجرة. كما أن بناء قواعد إنتاجية مستقرة سوف يعوض مصر عن الهزات الناجمة عن أثر الصدمات الخارجية على قطاعيْ النفط الخام والسياحة الأجنبية بصفة خاصة.
#محمد_عبد_الشفيع_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحن و صندوق النقد الدولي: وصفة العلاج إلى أين..؟
-
الثورة الصناعية الرابعة وقوة العمل، وماذا عن البلاد العربية.
...
-
-نظرة طائر محلق- على الانتفاضات العربية الراهنة : -من غير عن
...
-
سلاسل القيمة المضافة العالمية
-
عن أعراس الوطن العربي الطارئة وأوجاعه المزمنة (الجزائر نموذج
...
-
أنهار العسل والحليب لا تتدفق دائما مع الاستثمار الأجنبي..!
-
تأملات فكرية وملاحظات تطبيقية حول -التنمية البشرية- و الفقر
-
المحرومون من جنّة الاقتصاد العالمي.. وما العمل؟
-
اقتصاديات ترامب الدولية، و..أمريكا التي لا تزال قوية!
-
العولمة في الفكر العربي التقدمي المعاصر: سمير أمين نموذجا
-
حول الاختراق الأجنبي للوطن العربي: مقارنة مع شرق آسيا، وما ا
...
-
أين موقع مصر الآن من الجغرافيا السياسية لمناطق النفوذ الإقلي
...
-
البيانات-المعلومات-المعرفة : خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الخ
...
-
شذراتٌ عن الهُويّة: سؤال -من نحن؟- وإجاباته المُراوِغة
-
المسار اللولبي (الحلزوني) للإمبريالية الأمريكية: دورةٌ للتهد
...
-
حول التكامل العربي: الاقتصاد ضحية السياسة، ولكن السياسة هي ا
...
-
الثورة الصناعية الرابعة في بلدان غير صناعية: الوطن العربي في
...
-
و نحن نتذكر وعد بلفور : ماذا نفعل بقناة السويس..؟
-
أفكار اقتصادية من أجل اليسار، ودعوة إلى الحوار
-
منظمة التجارة العالمية: مخاطر محدقة وطريق وحيد
المزيد.....
-
“لحظة بلحظة الآن”.. انخفاض سعر الذهب اليوم في مصر الجمعة 22
...
-
-البتكوين- تسجل رقما قياسيا جديدا
-
بمواصفات منافسة.. Oppo تطلق حاسبها الجديد
-
كم سعره اليوم؟.. أسعار عيارات الذهب اليوم في العراق الجمعة 2
...
-
بعد اجتماع البنك المركزي بتثبيت سعر الفائدة .. سعر الدولار ا
...
-
بسعر المصنعية .. سعر الذهب اليوم بتاريخ 22 من نوفمبر 2024 “ت
...
-
بعد اجتماع البنك المركزي بتثبيت سعر الفائدة .. سعر الدولار ا
...
-
بسعر المصنعية .. سعر الذهب اليوم بتاريخ 22 من نوفمبر 2024 “ت
...
-
سؤال يؤرق واشنطن.. صنع في المكسيك أم الصين؟
-
-كورونا وميسي-.. ليفاندوفسكي حرم من الكرة الذهبية في مناسبتي
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|