حجاج سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 1538 - 2006 / 5 / 2 - 12:04
المحور:
ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية
غر ب مدينة الأقصر الأثرية في صعيد مصر وفى أحضان جبل القرنة التاريخي تقع مدينة أطلق عليها قدماء المصريين اسم "مكان الحق" وكان ساكنيها يطلق عليهم اسم "خدام مدينة الحق" وتشتهر في العصر الحالي باسم "دير المدينة" وهي في الجزء الجنوبي من جبانة طيبة ( الاسم القديم لمدينة الأقصر ) .
و تعود أهمية هذه المدينة لوجودها بين واديين شهيرين وهما وادي الملوك الذي كان يضم أجساد ملوك مصر , ووادي الملكات الذي كان يضم أجساد ملكات و أميرات مصر الفرعونية , مما يعني ارتباط المدينة بهذين الواديين .
وبحسب قول عالم الآثار المصري احمد صالح عبد الله فقد تأسست هذه المدينة في بداية عصر الأسرة الثامنة عشرة واستمرت الي نهاية الأسرة 20 مما يعني أن عمرها حوالي 500 سنة , وبعد بداية تأسيسها بقليل تعرضت لحريق هائل ولكن الدولة أعادت بنائها قبيل عهد الملك العظيم تحتمس الثالث (نابليون الشرق الأدنى القديم) وعندما جاء الملك المارق (كما أسموه المصريون القدماء ) إخناتون استعان بأهل هذه المدينة ليساعدوه في تأسيس عاصمته الجديدة بتل العمارنة بمحافظة المنيا, ولكن دير المدينة ازدهرت في عصر الرعامسة (عصر الأسرتين 19 و 20 ) .
و كان سكان المدينة من أمهر حرفيي وعمال مصر في ازهي عصورها , فقد كان يقطن بها الحجارين وقاطعي الأحجار الذين ينقرون اشهر المقابر في مصر كما تضم النقاشين الذين نقشوا أروع المناظر في العالم بالإضافة الي مصممي المقابر وامهر الرسامين في العالم القديم.
و بلغ عدد سكان هذه المدينة في أوج ازدهارها 400 أسرة أي أن معدل السكان كان حوالي خمسة آلاف نسمة ( متضمنة اسر العمال والشيوخ والأطفال ) , وكانوا ينقسمون الي مجموعتي " أهل اليمين " و " أهل اليسار " وربما كان انقسامهم عائد الي طريقة عملهم في المقابر الملكية التي كانوا يعملون بها حيث يقسم العمل الي مجموعتين إحداهما تعمل يمين المقبرة والأخرى علي اليسار.
وكان المسئول عن كل مجموعة سواء في المقبرة او المدينة شخص يحمل لقب "كبير العمال" وكان يعينه الوزير ويقوم بتوزيع العمل علي العمال ويشرف علي توزيع الحصص التموينية " الأجور " ويساعده في عمله "نائب كبير العمال" ثم يأتي في المرتبة الثالثة " كاتب المقبرة " الذي كان يسجل العمل المنفذ في المقبرة الملكية ويسجل المتغيبين عن العمل ويوزع مواد و أدوات البناء من المستودعات الملكية.
تفاصيل مظاهرات عمال دير المدينة :
في الشهر السادس من عام 29 من حكم رمسيس الثالث :
1. في اليوم العاشر مر العمال المتظاهرون علي نقاط حراسة المقبرة ومن أمام أعين الحراس الموجودون وتحركوا ناحية معبد الملك تحتمس الثالث واعتصموا خلف المعبد وحاول مسئولو إدارة جبانة طيبة الغربية إقناع العمال المتظاهرين و إدخالهم داخل المعبد لمناقشة مطالبهم ولكن العمال المتظاهرين رفضوا , ولكنهم عادوا داخل المقبرة التي يعملون بها , ويبدو أن مظاهرة أخري اتجهت نحو الطريق الصاعد لمعبد الملك منتوحتب الثالث.
2. في اليوم الحادي عشر دار العمال المتظاهرين حول السور المحيط بمعبد الرامسيوم ووصلوا الي السور الجنوبي , وجاء لهم الكاتب بنتاورت لكي يسكتهم وأعطاهم خمس وخمسين كعكة.
3. وفي اليوم الثاني عشر جاء العمال المتظاهرون الي معبد الرامسيوم ثانية واعتصموا بعد جدالهم مع كهنة المعبد , ودخلوا داخل فناء المعبد فجاء الي المعبد الكاتب بنتاورت ورئيس الشرطة منتومس وبعض مسئولي الإدارة , و أثناء إقناعهم ذهب بنتاورت الي عمدة طيبة لعرض مطالب المتظاهرين ولكنه عاد دون حلول , واستمر العمال المتظاهرون يعرضون مطالبهم في توفير المأكل والمشرب والملبس وطالبوا بعرضها علي فرعون مصر رمسيس الثالث او وزيره" تو" , لا سيما وان هذه مطالب متأخرة عن الشهر الماضي.
4. وفي اليوم الثالث عشر حدث أمر عجيب وهو أن رئيس الشرطة منتومس (ربما تعاطف مع العمال لعدم توفير الإدارة حلولا لمشكلتهم ) طلب من العمال المتظاهرين التجمع من اجل قيادتهم للاعتصام في معبد سيتي الأول بالقرنة.
5. في اليوم الخامس عشر حاولت الإدارة إيجاد حلول مؤقتة فقررت صرف نصف زكيبة قمح لكل واحد من العمال المتظاهرين كما أعطت لهم خمسين إناء بيرة , ولكن هذا لم يفي بحاجة العمال فلجئوا الي طريقة جديدة وهي المظاهرة والاعتصام في الليل باستخدام أسلوب جديد تعبيرا عن التظاهر والاحتجاج وهو حمل المشاعل .
6. في اليوم السابع عشر
7. في اليوم الثامن والعشرون كان الوزير " تو" عائدا من مهمة جمع تماثيل الآلهة من المعابد المحلية جنوب الأقصر من اجل عيد تتويج الملك الذي سيقام في منف (العاصمة القديمة لمصر ) وحاول رئيس الشرطة الجديد نب سمن مقابلته أثناء مروره بالأقصر من اجل عرض مطالب العمال المتظاهرين ولم يستطع الوزير سوي إيجاد حل مؤقت وهو صرف نصف اجر من المتأخر وطلب من الكاتب حوري توزيعه عليهم.
الشهر التاسع من عام 29 من عهد رمسيس الثالث :
• في اليوم الثالث عشر قام العمال المتظاهرون بالاعتصام بمعبد الملك مرنبتاح وعندما حاول عمدة طيبة مناقشتهم صرخوا فيه مما جعله يهرب ويرسل لهم الجنايني منيوفر ومعه خمسين زكيبة قمح ليوزعها عليهم حتى يقرر الفرعون رمسيس الثالث الصرف لهم.
• في اليوم السادس عشر قام زعيم العمال بن انوكي بعرض مطالب العمال والمشاكل التي تحدث في الجبانة من وراء الفرعون ووجه اتهامات خطيرة لاثنين من المسئولين المهمين وهما وسرحات و بنتاورت وهي سرقة أحجار من مقبرة الملك العظيم رمسيس الثاني وثور مرقط وعليه علامة معبد الرامسيوم ومجامعة ثلاث سيدات متزوجات , كما لمح بتستر الوزير حوري علي هذه الجرائم وطالب العامل بعرض المطالب والاتهامات علي رمسيس الثالث او وزيره تو .
وقد تركزت مطالب العمال في ثلاث مطالب :
1. صرف الأجور المتأخرة
2. محاربة الفساد الذي تفشي بين رؤسائهم (سرقة –فساد خلقي واجتماعي )
3. إيصال صوتهم الي فرعون مصر ووزيره
وتضمنت وسائلهم في التعبير عن مطالبهم في :
• التجمع والتظاهر في أماكن العمل (المقبرة) والأماكن الدينية ( معابد تحتمس الثالث –الطريق الصاعد لمعبد منتوحتب الثالث- معبد سيتي الأول – معبد الرامسيوم – معبد مرنبتاح ) في أوقات النهار.
• الإضراب والتوقف عن العمل.
• الاعتصام نهارا بالإقامة في أماكن العمل او المعابد والاعتصام ليلا بالمبيت في الأماكن المذكورة او حمل المشاعل كوسيلة للتعبير عن الاحتجاج .
• عرض المطالب في إفادة مكتوبة او شفاهة.
• وجود زعيم يقود المظاهرة مثل بن انوكي الذي عرض مطالب العمال واتهاماته للإدارة الفاسدة.
• استغلال زيارة المسئولين لعرض المطالب مثل تواجد الوزير في مهمة فتم عرض مشكلة العمال عليه.
استجابة الحكومة لحركة العمال:
• محاولة إيجاد حلول مؤقتة ومسكنة للعمال كصرف جزء من الأجور وذلك بسبب نفاذ مخزون الحبوب من الصوامع بعد أن وجهت الدولة كل جهودها ناحية المنشاءات العامة والحروب الخارجية والاحتفالات المكلفة كحفل تتويج الملك رمسيس الثالث .
• استخدام وسيلة الإقناع لإيقاف التظاهر او الإضراب والاعتصام
• استخدام وسيلة تهديد العمال بمحاكمتهم
• تعاطف المسئولين مع الحركة العمالية مثل رئيس الشرطة منتومس والذي يبدو انه أقيل من منصبه بعد ايام قليلة من إبداء التعاطف.
• إلقاء المسئولية من صغار الموظفين علي كبار الموظفين
نظام العمل:
كان الشهر مقسما الي ثلاثة أسابيع كل أسبوع حوالي عشرة ايام وقامت الحكومة بتشغيل العمال ثمانية ايام في كل أسبوع و منحتهم راحة يومين مما يعني أن الراحات الأسبوعية في الشهر هي ستة ايام وهي 9 و 10 و 19و 20 و29 و 30 من كل شهر.
و أثناء العمل كان العمال يتجمعون في معسكرات (أكواخ او خيام ) وبجوار منطقة العمل أي بجوار المعبد او المقبرة المراد تشييدها ولا يسمح لهم بالاتصال بذويهم إلا بعد انتهاء ايام العمل للحفاظ علي سرية المبني الذين يقومون بتشييده.
مرتبات عمال دير المدينة:
لم تكن العملة معروفة عند قدماء المصريين لذا فان عمال دير المدينة كانوا يحصلون علي أجورهم علي هيئة "حصص تموينية" ولكن المسئولين عن المدينة كانوا يحصلون علي اعلي الأجور , وكان الأجر الأساسي للعامل يضم حصة تموينية شهرية بها القمح لعمل دقيق الخبز (وكان العامل يحصل علي اجر شهري يبلغ خمس زكائب ونصف من القمح شهريا والتي تعني أن نصيبه اليومي حوالي 10.6 كيلوجرام يوميا ) والشعير لتصنيع البيرة وسمك وخضراوات وماء (بسبب بعد مياه النيل عن المدينة بحوالي كيلومترين) وحطب للنار و آواني فخارية.
وكان هناك ما يسمي ب "الأجر المتغير " او الحافز نتيجة جهد زائد للعاملين وضم هذا الأجر المتغير البلح والكعك والبيرة الجاهزة, كما انه كانت هناك مكافئات وعلاوات لتشجيع العمل وتضم زيت السمسم وكتل ملح النطرون واللحم.
وكان نظام الأجور كالتالي :
رئيس عمال 585 قرش (قمح)
كاتب 585 قرش (قمح)
عامل 429 قرش
حارس بوابة (غفير) 117 قرش
طبيب 117 قرش
صعوبة الحياة في دير المدينة:
الأسعار: (طبقا لمعدلات الأسعار الحالية )
كيلة او زكيبة القمح ترواح سعرها بين 39 قرش و 78 قرش
كيلة الشعير او زكيبة الشعير 78 قرش
لتر الزيت 39 قرش
رغيف الخبز 2.3 قرش
لتر الخمر 39 قرش
ال 50 سمكة 78 قرش (السمكة الواحدة بأكثر من قرش ونصف)
القميص 97.5 قرش
موس الحلاقة 78 قرش
المرآة 234 قرش
فرخة 9.75 قرش
المعزة 97.5 قرش
الثور 1950 قرش
كتاب الموتى 3900 قرش (اغلي شيء في حياة عامل دير المدينة )
كانت هذه المنتجات تسعر بما يسمي الدبن النحاسي الذي يساوي (91 جرام ) وهذا الدبن يسعر في عصرنا الحالي بحوالي 39 قرش بأسعار اليوم.
#حجاج_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟