صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1538 - 2006 / 5 / 2 - 11:44
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في زيارتي لبغداد في نيسان 2004, اجتمع في بيتنا عدد من الأقارب والأصدقاء وكالعادة دار الحديث حول السياسة. وكان البعض يرنو الى فكرة "أن صدام لم يكن سيئاً جداً". احد الجالسين, وهو سياسي قديم أكن له الإحترام واشهد له بالجرأة والنزاهة, حاول ان يثبت ان "العراقيين هم السيئون" بمثال شرح فيه كيف ان حاشية صدام كانت تتملقه وتدفع به الى الدكتاتورية, وانهى قصته قائلاً : "هؤلاء هم العراقيون, يستحقون أكثر مما عاملهم صدام به!" فأجبته: "بل هؤلاء هم من اختاره صدام من العراقيين!"
ثم عدت احدثه عن مثال اخر للعراقيين "اخ لصديقي, كان عمره 17 سنة فقط, فضل الموت تحت التعذيب على ان يخون مبدأه ورفاقه, وامثاله الاف والاف قتلوا تحت ايدي من اختارهم صدام من الساديين والمتخلفين, ولا يخلو شعب منهم.....اليس حرياً بنا ان نعتبر ان امثال هذا الشاب هم من يمثل العراقيين؟"
تذكرت هذا الحوار وأنا أقرأ المقالة التي كتبها الصحفي علي الصراف: " رسالة إعتذار الى ديكتاتور رائع"(انظر*), والتي انتشرت على صفحات الإنترنيت إنتشاراً واسعاً لأنها كتبت بتعابير جميلة تضرب على اوتار حساسة عند نسبة (لا بأس بها على ما يبدو) من العراقيين والعرب. أما من ناحية الفكرة, فأنا اقول عنها بلا تردد انها من اكثر المقالات التي قرأتها وضاعة في الأخلاق وتناقضاً في المنطق!.
يقول الكاتب أنه كان يكره صداماً ويحتقر اساليبه, لكنه بعد ما حدث للعراق, صحا ضميره و أدرك خطأه وندم على موقفه. فلقد رأى ان العراقيين شعب منحط تتقمصه "وحشية خالصة" وان لا ذنب لك يا صدام فيما قمت به لأن العراقيين بـ "أخلاقياتهم وقيمهم المزيفة ربما كانت هي نفسها السبب في ان تجعلك ديكتاتورا." إنهم "مثل الذئاب ينهشون لحم بعضهم بعضا. ورغم أن " ما من طبع من "طبائع الاستبداد" إلا وكان ظاهراً في ظل سلطتك", لكن الخطأ في فهمنا, ولذا فـ"ربما كنا نستحق كل ما كنت تفعل."
قال صديقي جعفر يوماً وهو يزفر قهراً: "آآآه.. كم يتوجب على العراقي ان يتحمل!"
ولاشك ان هذا العراقي كان ينتظر من العالم تفهماً ودعماً. وينتظر قبل ذلك من أبناءه المثقفين أن يكونوا له القلب المحب المتعاطف المطمئِن له على قيمته, والعين المفتوحة المرشدة الى ما هو حقيقة وما هو سراب, حين تعجز عينه عن رؤية الترابطات من خلال دخان الحريق الكثيف الذي يحيط به واصوات الإنفجارات تصم اذنه. ينتظر ذلك كما انتظرت بقية الشعوب من ابنائها في محنها, لكي تتحمل ويصمد فيها حسها الإنساني بكرامتها..
ثم يأتي من هو مثل علي الصراف ليصب الملح على الجروح ويزيد الألم الاماً والحريق اشتعالاً والدخان كثافة. يأتي ليقول لشعبه أن صدام كان محقاً في جلدك, وكان عليك ان تتحمل دون شكوى. الا تر انه قدرك, فإن لم يكن صداماً كان غيره. فالدكتاتور "كان يعمّر شاهقاً" وكانت لديه " رؤية خارقة لما يجب ان يكون عليه عراق المستقبل", اما انتم وعراقكم, فلستم إلا خراء في "سبتتنك (بالوعة)" يخرج منها ساستكم الجدد.
إن كانت اهانة انسان علناً تجيز المحاكمة, فأن امثال علي الصراف يستحقون المحاكمة بتهمة اهانة شعبهم كله. ولكن من اين سيتاح للعراقيين محاكمة مرهبيهم ومعذبيهم وقتلتهم ليطمحوا بمحاكمة مهينيهم ايضاً؟ لقد كثر الضاربون وتكاثروا وتنوعوا فضاع دم كرامة العراقيين مهدوراً "بين القبائل".
اكتب كلمات وامسحها. فمن الصعب الكتابة بهدؤ وموضوعية للرد على الصفعات المهينة. التخبط في مقالة علي الصراف يقفز امامك فلا تعود تعرف ان كان امتداحه مقصوداً فعلا ام هو تورية ساخرة وهو ينتقل بين التبجيل الوقح والعتاب المحب اللطيف والنقد على اخطاء طفيفة, وهاهو يلومه بلطف قائلا: "إذ جعلت الفاصل بين العراق وبينك صعباً" كذلك فأن الذنب ليس ذنبك بل هو ذنب "الحشد الهائل من أنصاف الأميين الذين كانوا يلتفون حولك" هؤلاء هم منعوا علي الصراف والشعب من رؤية عظمة الدكتاتور الرائع. فـ "السلطة والغطرسة والقسوة" اخفت عنا جميعا"المشروع و المعنى والعنفوان والقوة", المحاسن التي يتمتع بها الدكتاتور الجميل.
ثم يقول علي: "أشعر انك كنت عراقيا أكثر من ملايين العراقيين." ولا ندري ان كان هذا يعتبر امتداحاً ام ذماً بعد كل ذلك الوصف المهين للعراقيين ووحشيتهم.
يستمر علي في معلقته : " قسوة نظامك حالت دون ان نرى ما كنت تراه، ربما، ولكنك كنت تمضي قدما".
لكن علي لم يقف ليقول لنا الى اين كان دكتاتوره الرائع "يمضي قدماً", وما الذي اوصل صدام العراق اليه, وماذا يمكن للعراقي ان يرى من "هذا المرتفع الزمني الشاهق" حسب تعبير علي, ليستدل على عبقرية بطله ودقة بصيرته. صحيح ان العراق قد فقد في حروب البطل ذو البصيرة الثاقبة ما يقارب المليون قتيل وضعف عددهم من المعوقين وهرب من البلاد اكثر من هؤلاء جلهم من متعلميه ودمر البنية التحتية واذاق العراقيين الجوع والذل بشكل لم يعرفوه قبلاً, وصارت الوطن بعده مقسماً الى زونات جغرافية عسكرية واحقاد قومية وطائفية وعاد في علاقاته الإجتماعية الى مراحل البداوة والإقطاع وفي تكنولوجيته الى ازمان ما قبل التصنيع, لكن هذا لايهم فقد كان الدكتاتور "يعمّر شاهقاً"
حين يكتب علي: " ربما كان من الجائز ان نسأل عما اذا كان العراقيون انفسهم أقل أهلية ليكونوا بمستوى الرقي الذي كنا نزمع اننا نأتي منه." لانفهم ان كان علي يقصد بان العراقيين متخلفين جينياً عن البشر, ام انه يرى الدكتاتورية بشكل عام عظيمة فوق البشر, فلا يلام العراقيون ان لم يستطيعوا الإرتفاع الى قممها. الإحتمال الأول مرفوض اخلاقياً, ربما حتى بالنسبة لعلي الصراف, ثم انه مرفوض تأريخياً, (الم ينجبوا بطل علي نفسه؟)
لكن علي يسمح لنفسه ان يستنكر على الغير الإتصاف بنفس ما يثير إعجاب علي بدكتاتورهً. ففي مقالة اخرى له بعنوان :"الولايات المتحدة والتقرير السنوي للرياء" (**) يهاجم "الوقاحة والرعونة وانعدام الحياء" و "الصفاقة وقلة الأدب وجرأة شذاذ الآفاق" ويعود ليدافع عن "انتهاكات حقوق الانسان" في العالم هذه المرة, ويغضب من ادارة بوش لأنهم "كانوا يمارسون سياسة انتهاكات ثابتة، مقصودة، ومتواصلة، تبرر نفسها بنفسها بمعزل عن أي قيم او قوانين او أعراف او اتفاقات او قواعد" ليقول "تقف وراء هذه الانتهاكات ثقافة عنف وغطرسة وتعالٍ عنصري"
لقد عرفت اهانات أميركا للشعب العراقي, وتدخلها الوقح في خياراته السياسية وكتبت عنهاً, لكني اقر اني لم اقرأ او اسمع من مسؤوليها كلاماً بذيئاً بحق الشعب العراقي كالذي قرأته في مقالة علي. فعن اية اخلاق وقيم وحقوق انسان تتحدث وأنت تكيل المديح للسادي الذي كان يصطحب ولده وهو طفل لمشاهدة التعذيب وممارسته؟
لايبخل علي على بطله ببعض العتب, عتب المحبين: " هل كان من الضروري ان تكون قاسيا الى تلك الدرجة؟ " هل كان يجب التضحية بكل أولئك البشر لكي تقيم عراقا آخر موجوداً في مخيلتك؟ هل كان من الصحيح ان تقيم نظاما شموليا يعد على الناس أنفاسهم؟" ليعود فيعتذر تحسباً ان يكون عتبه قاسياً بعض الشيء, فيقول " ربما كنا نستحق كل ما كنت تفعل".
وبعد ان يتساءل علي عن "المشكلة" ويحللها يتوصل الى مفاجأته الكبرى حين يقول:"لم تكن دكتاتوريتك هي المشكلة، ولا انتهاكات نظامك لحقوق الانسان، بل أسلحتك للدمار الشامل". يبدو لي ان علي هو اخر من بقي على الأرض لم يسمع ان "اسلحة الدمار الشامل" كانت كذبة ملفقة لم يعد يجرؤ حتى بوش الحديث عنها.
"كنت تريد ان تبني وطنا قويا وأمة حرة." بأن تبدأ بجعل كل مواطن يكره الوطن – السجن وتطلق كلابك تنهش الناس وتعلمهم المذلة والصمت وتنشر الخوف في كل ارجاء البلاد, وتحول "الحرية" الى نكتة صفراء.
"وكنت تطالبنا بالولاء الأعمى، لانك كنت تنظر الينا ليس من حيث نقف، بل من حيث ترى نفسك في أعلى نقطة".
علي نادم على تفويته فرصة "العمى" الذي كان سيوصله الى المجد, لكنه ما زال قادراً على الإنبطاح ليضع دكتاتوره في" نقطة اعلى".
"نحن لم نر. ولكنهم كانوا يرون، وكانت فرائصهم ترتعد من المستقبل الذي تقترحه على هيمنتهم وغطرستهم واحتلالهم."
بل كانوا يرون البلاهة تلقي بنفسها في الفخ بعد الآخر, ويوجهونها لتحطيم البلاد والجيران والعلاقات العربية ولتمنحهم فرصتهم العظمى لفرض" هيمنتهم وغطرستهم واحتلالهم." فلم يتأخروا في الإستفادة منها.
لقد افرزت مقالة علي الصراف مثل هذه التعليقات على احد مواقع الإنترنيت:
"العرب لا تنفع معهم الديمقراطية .. من لا يظلم الناس يظلم"
"إذا لم يحكموا بشرع الله فاليحكموا بالسيف هذا هو حال العراق"
"ألعراق بحاجة لمثل صدام وعلى نهج الحجاج "
"لاينفع معهم اللين والديمقراطية وحالهم الآن شاهد عليهم يتمنون عودة زمن صدام ولو ليلة ليهنأوا بالمنام دون رعب وخوف"
في فلم وثائقي عن التعذيب النفسي مشهد (تمثيلي - للتوضيح) بين محقق أمريكي وسجينه, يقول المحقق: أنت تقول لنفسك لم يعد لدي ما أخسره...... بلى فلديك ما تخسره...كرامتك.. سأحطم كرامتك وامزقها تمزيقاً!
وعلي ينتخب من الحقائق ما يسهم في تحطيم كرامة الإنسان العراقي, ثم ليضيف عليها اكاذيباً من عنده.
يصف مثل هولندي الشخص المعتوه بـ "دجاجة بلا رأس" وعلي الصراف..قلم جميل بلا رأس.
ليست مقالة علي الصراف امتداحا لصدام واعتذار منه فقط, بل هي دعوة لاعادة الاعتبار لكل ما اعتبره البشر منحطاً, ليعود ويرفعه علي كقيمة عليا.
لماذا اذن تنتشر مثل تلك المقالة ويرسلها الواحد للآخر؟
لم يكن عبثاً انتشار مقالة علي الصراف بين العراقيين, فالظروف القاسية التي عاشها العراقي تدفع الى الجنون, وربما كانت المقالة تعبر عما اخترق نفسية العراقي والعربي من اقتناع عميق بدونية قيمته.
أثناء حكم صدام وحروبه كان كل شيء يقول له " انك كائن حقير, يمكننا انزال أهوال التعذيب بك وبأهلك دون ان ينبس احد بكلمة دفاعاً عنك, وسنجبر اهلك على دفع ثمن الرصاصة التي سنقتلك بها, وسيدفعون!"
وبعد عشرون عاماً من هذا الكبت المستمر, إعتقد الشعب المسكين ان قد جاء الفرج, فصرخ به الإرهاب "انت فأر صغير يمكننا ان نقتلك بسبب او بلا سبب ولا حول لك ولا قوة".....ثم اوضح له الأحتلال الأمريكي أن "لست إلا ذبابة...حتى القوانين الدولية تعفينا من المحاكمة ان قصفنا بيتك فلم نبق من عائلتك احداً".
فكم يحتاج العراقي بعد كل ذلك, من صمود نفسي وعقلي لكي يبقى مؤمناً أنه كائن بشري كريم لايحق لصدام تعذيبه او الإرهاب ارهابه او الجندي الأمريكي قصف عائلته؟ انستطيع بعد كل هذا ان نلوم من لايرى ضيراً في مقالة علي الصراف فيرسلها ويسهم بنشرها؟
كتبت الكاتبة الإنسانية الرائعة سيمون دي بوفوار:"عندما يستبقى الفرد طويلاً في وضع يشعره بأنه ادنى, فإنه يتصرف بشكل ادنى بالفعل"
ولعل العراقي, وليس هو الوحيد, يسأل السؤال الذي سأله مقدم برامج في قناة الجزيرة الى نعوم جومسكي قائلاً: ولماذا نتحمل كل هذا الألم والخطر, لم لا نقر بقوة الآخر وتفوقه ونتنازل عن حقنا لعلنا نحصل على الأمان؟
اجاب جومسكي: هذا امر وارد طبعاً. وقد كان دوما الخيار المطروح امام العبيد. أما ان يرفضوا عبوديتهم فيتحملون نتائج الرفض, او يختاروا الأمان والعبودية الدائمة.
دعوة علي الصراف تدعونا ليس فقط للرضا بالعبودية للدكتاتورية بإعتبارها شر لا مفر منه, بل وتمجيدها كقيمة عليا, والإعتذار عن فهمنا القاصر لها.
لنترك صدام ودكتاتوريته وعلي الصراف وهذياناته, ولنأخذ نفساً طيباً قبل ان يصيبنا الزكام في هذا الجو الخانق.
مقابل المنطق المقلوب في السبب والنتيجة, لعلي الصراف تكتب سيمون دي بوفوار : " أن الإستعمار يجبر الشعوب على حياة وضيعة تدفع بهم الى اخلاقية وضيعة فيبيعون اولادهم, ليستحقون احتقارنا فعلاً بعد ذلك"
ويكتب اكرم البني في "الحياة" تحت عنوان "أسوأ ديموقراطية خير من أفضل ديكتاتورية" قائلاً: و "أن التفكك والاضطراب الراهن ليس سوى امتداد للتفكك الذي عم العراق إبان حكم صدام حسين. فالمنطق التعبوي المتخلف والطائفي الذي أدار به صدام حسين السلطة وحافظ على سطوتها هو الذي أعاد المجتمع العراقي الى مكوناته الأولية من عشائرية وقبلية ومذهبية، مثلما أن مظاهر الانحطاط والتدهور الأخلاقي الخطيرة ليست سوى منعكس لممارسات النظام السابق وثقافته القمعية المدمرة."
واضيف ان يجب ان لانلقي كل اللوم فيما يحدث اليوم على الماضي فظروف الإحتلال هي الأخرى ظروف بشعة خطيرة يجب ازالتها, لكن هذا لا يجب ان يمنعنا من رفض إعادة الإعتبار للظلم القبيح لصدام حسين فـ" من الحماقة أيضاً أن نسمح للمحنة الراهنة بأن تزعزع ولو قيد شعرة الإيمان بالموقف الصائب من حالة الاستبداد ومن مشروعية إزاحة السلطة القديمة ورموزها الأساسية بوصفها المسؤول الرئيس عن الوضع المأساوي الذي يعيشه العراق اليوم" كما كتب اكرم البني.
لا مناص للشعب العراقي كغيره من الشعوب, أن يبقى مؤمناً بيوم يعيش فيه بلا سوط قبيح فوق رأسه, وطنياً كان ام اجنبياً. لا مناص من الأيمان بأن خلاصه من مأزقه لايكون بالعودة الى الإنقياد لحثالاته القديمة, بل من خلال ابنائه الطيبين, وكما قال احدهم يوماً "إذا كانت الظروف هي التي تصنع الإنسان فلنصنع ظروفا انسانية"
http://www.middle-east-online.com/opinion/?id=37014=37014&format=0 *
http://www.lahdah.com/news/meonline.php?cat=opinion&id=36789 **
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟