|
معركة الجزائر
محمد بوطيب
الحوار المتمدن-العدد: 6210 - 2019 / 4 / 24 - 23:20
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
بعد عامين على اندلاع الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي أدرك قادة الثورة أهمية التعريف بالقضية الجزائرية خارج الحدود، لا سيما أمام التضليل الذي مارسته السلطات الاستعمارية ضد العمل العسكري في الجبال الذي باشرته جبهة التحرير الوطني منذ تأسيسها في نوفمبر 1954. ومن أجل فرض القضية الجزائرية على الساحة الدولية، قررت قيادة الثورة نقل كفاحها إلى وسط الجزائر العاصمة حيث تتواجد الصحافة العالمية وتتمركز الدوائر الاستعمارية الرسمية، ولوضع هذه الخطة حيز التنفيذ تكلف العربي بن مهيدي رفقة بن يوسف بن خدة وعبان رمضان، منذ نهاية عام 1956 إلى غاية سبتمبر، بقيادة وتأطير وهندسة العمليات الفدائية (وضع قنابل متفجرة في مراكز تجمع الجيش الفرنسي والحانات ومراكز الشرطة…) والتي صارت تسمى بمعركة الجزائر، من أشهرها تفجير كازينو لاكورنيش في 9 يونيو1957، وتأطير الإضراب السياسي العام الشهير الذي دام 8 أيام من 28 يناير إلى 4 فبراير 1957، الذي عجل بطرح القضية الجزائرية أمام هيئة الأمم المتحدة. ورغم تمكن الاستعمار من القضاء على معركة الجزائر باستعمال أبشع الوسائل (التعذيب الوحشي، الاغتيال، الاغتصاب، الاختطاف، مداهمات بيوت المدنيين)، فقد اعتبرت قيادة الثورة معركة الجزائر العاصمة نقلة نوعية في مسار الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار الفرنسي.
اليوم تعيش الجزائر معركةً فاصلة أخرى في تاريخها، ليس ضد جيوش فرنسا، هذه المرة، بل ضد حلفائها وأذنابها الذين فرطوا في السيادة الوطنية وباعوا خيرات وثروات الوطن للشركات الأجنبية، وفرضوا على الشعب الجزائري بالحديد والنار سياسات نيوليبرالية أدت إلى تفشي البطالة والبؤس وانهيار الخدمات الاجتماعية.
وبعد أن اقتصر تحرك جماهير الجزائر، في السابق، على الجبهة الاجتماعية بالأساس، كما سنرى ذلك لاحقًا، ها هو ذا اليوم شعب الجزائر وعماله وكادحيه، يعلنون حربهم ضد أصل البلاء والاضطهاد والبؤس؛ أي ضد النظام الحاكم. فبعد أن انطلق المسار الثوري برفض ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة، ورفض تمديد ولايته الرابعة، تمكن بعد 40 يومًا من المسيرات الحاشدة والإضرابات العمالية والطلابية، من إسقاط بوتفليقة في 2 أبريل الجاري وإخراجه ذليلًا من قصر المرادية الذي عمر فيه لمدة 20 سنة. ومنذ تنحي بوتفليقة دخل الحراك الشعبي في مواجهة واضحة ضد خطة قيادة أركان الجيش الساعية إلى فرض انتقال شكلي للسلطة في ظل البنية السياسية القائمة بما يضمن مصالح الأقلية التي ثار ضدها الشعب، بذريعة إعمال الشرعية الدستورية.
فما الذي يحدث بالضبط في الجزائر؟
في ظل حصار بوليسي رهيب حيث نشرت السلطات، على غرار الأسبوع الماضي، قوات كبيرة من الشرطة وسط العاصمة الجزائرية، وأغلقت المنافذ المؤدية إلى ساحة البريد المركزي، تزامناً مع نشر قوات من الدرك الجزائري (جهاز تابع الجيش) على مجمل مداخل العاصمة الجزائرية لمنع المتظاهرين من الوصول إلى وسط العاصمة، احتشد، الجمعة الماضية، للأسبوع التاسع على التوالي، من جديد، مئات الآلاف من المتظاهرين في ساحات الجزائر العاصمة وباقي كبريات المدن مثل وهران وسيدي بلعباس غربي البلاد، وباتنة وعنابة وقسنطينة وسطيف والبرح شرقي الجزائر، وتمنراست وأدرار جنوباً وغيرها، لمواصلة الضغط على السلطة ورموز الفساد، والدفع إلى استقالة الرئيس المؤقت، واستقالة الحكومة، ورفض ندوة المشاورات السياسية التي دعت إلى انعقادها “الرئاسة الجزائرية” يوم الإثنين 22 أبريل الجاري، إذ وجهت دعوة للأحزاب والمنظمات والجمعيات المدنية وشخصيات وطنية وخبراء من أجل “مناقشة آليات حل الأزمة السياسية في البلاد، وتشكيل الهيئة المستقلة التي ستشرف على الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في الرابع من يوليو المقبل”.
يعيش الشعب الجزائري منذ 22 فبراير الماضي، مرحلة فاصلة في تاريخه، لا يمكن تشبيهها إلا بمعركة التحرير القاسية والباهظة الثمن التي خاضها ضد الاستعمار الفرنسي. ففي مشهد نضالي فاجأ العالم برمته، نزل الشعب بمختلف مكوناته في مسيرات حاشدة غطت مختلف ولايات البلاد، رافضة لترشح بوتفليقة لعهدة خامسة.
ترجع الأسباب المباشرة لاندلاع هذا الحراك إلى إعلان الطبقة الحاكمة ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، رغم عجزه التام منذ سنين، فهو لم يوجه أي خطاب رسمي للشعب منذ 2013. وطبعًا يكمن الغرض السياسي وراء هذا الترشيح في سعي الزمرة المتحكمة في مقاليد السلطة إلى ضمان مصالحها عبر مواصلة إدارتها الفعلية لشؤون البلاد خلف الستار.
وقد أثار هذا الترشيح الذي حظى بدعم الجيش وأحزاب التحالف الرئاسي والبيروقراطية النقابية المتحكمة في الاتحاد العام للعمال الجزائريين، حفيظة بعض قوى المعارضة السياسية المحسوبة على اليسار وعلى رأسها حزب العمال (PT) الذي استقالت كتلته البرلمانية ودعا إلى تشكيل جمعية تأسيسية منتخبة من اللجان العمالية والشعبية والطلابية والشبابية في المناطق، تسهر على وضع دستور للبلاد، وكذا حزب العمال الاشتراكي PTS (فرع الأممية الرابعة في الجزائر) الذي يؤيد بدوره مطلب الجمعية التأسيسية، وجبهة القوات الاشتراكية (FFS) بالإضافة إلى التجمع من أجل الديمقراطية والثقافة ذي التوجه الأمازيغي العلماني، وهما من من أحزاب المعارضة التاريخية في الجزائر، وكانا في مقدمة القوى التي شجبت دعوة الفريق قايد صالح إلى إعلان شغور منصب الرئيس، قائلين إنها تمثل “إنقلابًا” على الإرادة الشعبية وتسعى إلى “إحياء النظام” إضافة إلى قوى حزبية ونقابية (نقابات مستقلة) ومدنية وشبابية أخرى.
وبعد أن عبر الشباب عن استيائه تجاه هذا القرار الأرعن عبر صفحات التواصل الاجتماعي، دعا إلى النزول إلى الشارع يوم 22 فبراير للتعبير عن رفض تمكين بوتفليقة من عهدة خامسة. وهو ما لقى استجابة منقطعة النظير، وغير متوقعة، حيث احتشد مئات الآلاف من المواطنين من مختلف الولايات في ساحات وشوارع المدن الكبرى، في مشهد لم تعشه الجزائر المستقلة قط.
ومنذ 22 فبراير تواصل الحراك الشعبي في كل مكان، بتنظيم مسيرات أسبوعية كل جمعة تطغى عيها المطالب والشعارات السياسية، ومسيرات حاشدة أخرى من تنظيم الطلبة كل يوم ثلاثاء، والعمال والعاطلين عن العمل. هكذا تنامى الحراك الشعبي من تعزيز صفوفه ورصها بجرِّ فئات اجتماعية مختلفة لصالح مطالبه وأهدافه السياسية؛ وعلى رأسها ترك بوتفليقة للسلطة بعد انتهاء ولايته.
وأمام تنامي النضالات الجماهيرية التي حافظت على سلميتها رغم بعض أشكال القمع والحصار الذي يطالها، بات واضحًا أن قوة جديدة بدأت تتشكل في الساحة السياسية الوطنية، التي ظلت لمدة 3 عقود حكرًا على أحزاب التحالف الرئاسي المُشكَّلة أساسًا من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، والتي لا تعدو سوى واجهة سياسية لسيطرة قيادة الجيش على كل مفاصل الدولة والقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد. وتضم هذه الواجهة السياسية، أيضًا، المعارضة الإسلامية والليبرالية الموالية بهذا القدر أو ذلك لمجمل اختيارات النظام الاقتصادية والسياسية الإستراتيجية القائمة على نهب الثروات الوطنية وتفكيك القطاع العام، وتفكيك الخدمات الاجتماعية، ما أدى إلى تفشي البطالة التي لم يسلم منها خريجو الجامعات والمعاهد العليا وغلاء المعيشة وتنامي معضلة السكن والصحة، بالإضافة إلى منع التظاهر في العاصمة وقمع الحريات الديمقراطية عبر مواصلة جوهر السياسية القمعية التي رافقت الانقلاب العسكري ضد الإرادة الشعبية في بداية تسعينيات القرن الماضي، التي صوتت بكثافة لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات تعددية في تاريخ الجزائر المستقلة. ما أدى حسب المناضل والباحث الجزائري حمزة حموشان إلى “غلق المجال السياسي في وجه أي مشروع بديل، وخلق في المقابل مناخا سياسيًا قاحلا في عمومه”.
وأمام القوة الجماهيرية التي بات يراكمها الحراك، وتنامي النضالات الشعبية والعمالية والشبابية في كل مكان، التي بلغت ذروتها يوم 8 مارس بمناسبة تخليد نساء الجزائر لليوم العالمي للنساء، ويوم 16 مارس الذي شهد تنظيم مسيرات مليونية، أبهرت العالم، ودفعت قيادة أركان الجيش الجزائري، إلى الخروج عن صمتها والتراجع عن تأييدها السابق لترشح بوتفليقة، بدعوة الجنرال قايد صالح، في 26 مارس، إلى “تبني حل يكفل الخروج من الأزمة ويستجيب للمطالب المشروعة للشعب الجزائري … بما يضمن احترام أحكام الدستور واستمرارية الدولة”، باللجوء إلى تطبيق المادة 102 من الدستور التي لا تخرج عن دائرة المناورات السياسية، فهي تعني، من الناحية الشكلية، تنحي الرئيس بالنظر لعجزه عن تدبير شؤون البلاد بسبب وضعه الصحي المتدهور، في حين تمنح الطبقة الحاكمة إمكانية فرض انتقال شكلي للسلطة يحافظ على بنية النظام الدستورية والسياسية القائمة بقوانينها الجائرة وممارساتها القمعية، انتقال يلتف على الإرادة الشعبية ويضمن تأبيد مصالح البرجوازية الريعية والأوليغارشيا المتحكمة في مراكز القرار السياسي والاقتصادي في الجزائر وكذا مصالح أسيادهم الإمبرياليين.
لقد أعادت هذه التصريحات شبح تدخل الجيش، وهو ما انتبه إليه نشطاء الحراك والقوى المتدخلة فيه، حيث اعتبرت الأغلبية الساحقة أن الهدف من هذه الخطة هو الالتفاف على مطالب الشعب المنتفض، ونادت بعدم تدخل الجيش في الحياة السياسية. وقد تمكن الحراك من فرض ميزان قوى واضح، في وجه خطة أركان قيادة الجيش، عبر مواصلة الإضرابات العمالية والمظاهرات والمسيرات المليونية التي وصلت أوجهها يوم 29 مارس، والتي أكد من خلالها المتظاهرون عزمهم على إسقاط هذه الخطة العسكرية المشؤومة، كما سبق لهم إسقاط خطة تمديد ولاية بوتفليقة، ورفضهم لكل مقترحاته التي تضمنتها رسالته الموجهة إلى الشعب الجزائري في 11 مارس، بما فيها تأجيل الانتخابات الوطنية والاستعاضة عنها بتنظيم مؤتمر وطني تشارك فيه كل المكونات السياسية والنقابية والمدنية وشخصيات مستقلة، توضع في إطاره “خارطة طريق تسمح بالانتقال نحو الجمهورية الثانية”.
وقد سرع تدخل الجيش في هذه الأزمة السياسية الحادة، وانهيار الوسائط السياسية الكلاسيكية وانهيار شعبيتها، إلى تبلور طرفي الصراع الفعلي في الجزائر بشكل واضح، فمن ناحية هناك قيادة أركان الجيش التي تعد صمام آمان للمصالح العليا للطبقة الحاكمة وحليفتها الإمبريالية، ومن ناحية أخرى هناك الحراك الشعبي وقواه السياسية والنقابية والمدنية والشبابية الرافضة، لكل خطة لا ترنو تنحي كل رموز النظام الحالي، وتسمح بتشكيل حكومة انتقالية، يكون من ضمن صلاحيتها تهييئ انتخابات نزيهة وشفافة تضمن للشعب التعبير عن إرادته الحرة في اختيار ممثليه على صعيد رئاسة الجمهورية وباقي مؤسسات الدولة.
اقتصاد في خدمة الرأسمال المحلي والشركات الأجنبية يعد الاقتصاد، كما كان دائمًا، أحد العوامل الأساسية لتفسير الأزمات السياسية والاجتماعية الحادة، لذا اعتبر الثوري الروسي فلاديمير لينين السياسة بمثابة تكثيف للاقتصاد، وهو ما ينطبق على الحالة الجزائرية، ويسمح، إلى حد بعيد، من تفسير وفهم الأسباب الاقتصادية لاندلاع الحراك الشعبي في 22 فبراير الماضي.
فبعد أن تمكن النظام من توظيف عائدات النفط والغاز، في شراء سلم اجتماعي في الفترة التي أعقبت الأزمة الاقتصادية العالمية، سرعان ما عادت الاحتجاجات الاجتماعية والنقابية إلى الساحة الجزائرية، مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وتأثيرها المباشر على الاقتصاد الجزائري، الذي يعتمد، بالأساس، على تصدير النفط والغاز. ما دفع بالنظام إلى العودة لتطبيق الوصفات الليبرالية في ضبط التوازنات المالية والماكرو اقتصادية، التي بدأها في عهد العشرية السوداء، عبر نهج سياسة تقشف قاسية، مواصلًا تفكيك القطاع العام عبر تفويت الشركات والمقاولات العمومية الإستراتيجية التي أنهكها النهب والفساد، وتخفيف القيود القانونية على الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة وغيرها، عبر مشروع قانون المحروقات الجديد الذي أعطى شركات نفطية عالمية امتيازات أكبر بدعوى تحسين مناخ الأعمال والتكيف مع الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن تراجع أسعار النفط. وعبر الإعداد لتجديد عقود الغاز (بدعوى اشتداد التنافسية بين البلدان المنتجة للغاز) التي ستُجدَّد كلها من هنا إلى سنة 2020 حسب تصريح وزير الطاقة السابق مصطفى قيطوني، بمناسبة تدشينه للمقر الجديد للوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات بالجزائر العاصمة في 14 أكتوبر 2018.
وقد أعرب ممثلو أهم الشركات النفطية المستثمرة بالجزائر عن ارتياحهم للجهود التي تبذلها الجزائر في إطار تحفيز الاستثمارات الأجنبية، إذ قال ممثل شركة توتال الفرنسية إن “مناخ الاستثمار تحسن”، مشيرًا إلى أن فتح مقر جديد للوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات لـيعد حدثا مميزا. وبدوره اعتبر ممثل شركة “ريبسول” الإسبانية، أن التغير المشهود في مناخ الاستثمار يعد “مُعتَبَرًا”، مشيدًا بالعلاقات مع الحكومة الجزائرية التي قال إنها “شفافة وفعالة”، مؤكدًا أن الشركة تنتظر الكثير من قانون المحروقات الجديد. وفي الاتجاه نفسه جاء تدخل ممثل شركة “إيني” الايطالية الذي تحدث هو الآخر عن العلاقات الجيدة مع الوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات.
طبعًا ما لم يقله وزير الطاقة وغيره من خدام الرأسمال الأجنبي في الجزائر هو أن هذه السياسة الجديدة ستفتح الباب على مصراعيه أمام الشركات الأجنبية لاستنزاف ثروات الجزائر وخيراتها الطبيعية، ولتدشين مشاريعها المدمرة للطاقة والبيئة كاستغلال الغاز الصخري في الصحراء، والموارد البحرية في البحر الأبيض المتوسط، كل ذلك على حساب أمن الطاقة في الجزائر وحاجيات أبنائه، ولا زال عالقًا في الأذهان الضغط الرهيب الذي تعرض له رئيس الوزراء الأسبق عبد المجيد تبون عندما فرض قيود على الاستثمارات الأجنبية عام 2017 ما اضطره إلى ترك منصبه كثمن لتجرؤه على اتخاذ مثل هذا القرار بعد 4 أشهر فقط على توليه لهذا المنصب.
ولم يعد يخفى على الشعب الجزائري أن هذه السياسة الاقتصادية القائمة على تهميش الحاجيات الأساسية للعمال وعامة الفئات الشعبية، هي في خدمة مصالح الأوليغارشيا المحلية والرأسمال العالمي، على حساب مصالح الاقتصاد الوطني، لذا وجدت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بالأساس، في نظام بوتفليقة حليفًا إستراتيجيًا يستوجب الصمت على القمع الذي يمارسه ضد الشعب الجزائري، وهي التي سبق لها أن صمتت على الجرائم الدموية البشعة التي اقترفها النظام الجزائري في حق المدنيين خلال العشرية السوداء باسم مكافحة الإرهاب مقابل خضوعه لإملاءات صندوق النقد الدولي وفسح المجال أمام الرأسمال الأجنبي لنهب خيرات الجزائر. وفي ظل خضوع النظام للقوى الأجنبية مقابل ضمان تأييدها لبقائه في السلطة، لم تعد شركاتها المتعددة الجنسيات راضية على الامتيازات غير المسبوقة والعقود التي تتيح لها أرباح هائلة، بل باتت تبحث عن الاستحواذ على الموارد الطبيعية والطاقية، ما سيؤدي إلى خلق نوع من الاستعمار الطاقي الجديد. كما يسعى “تصاعد هذه الضغوط الخارجية المطالبة بلبرلة اقتصادية أكثر إلى إلغاء كل القيود المفروضة على الرأسمال العالمي، وإدماج كامل للاقتصاد الجزائري في اقتصاد العولمة من موقع تبعية كاملة”.
ومن الناحية السياسية سعى بوتفليقة منذ وصوله إلى قصر المرادية إلى نيل تأييد ورضا القوى الأجنبية، وبذلك تمحورت إستراتيجيته الاقتصادية على نهج ليبرالي واضح يتيح للرأسمال الأجنبي اقتحام السوق الاقتصادية الداخلية ونهب الثروات الأجنبية بدعوى حفز الاستثمارات وخلق مناصب الشغل للشباب. ولعل رسالة بوتفليقة التي نشرتها صحيفة واشنطن تايمز في 25 نوفمبر 2002 تحت عنوان “صديق في الجزائر” لخير دليل على استعداد بوتفليقة على بيع الجزائر ومواردها والتفريط في سيادتها مقابل الحصول على دعم إدارة جورج دبليو بوش وقتئذ، إذ تعهد “المقاوم” السابق في جيش التحرير الوطني بتعاون استخباراتي كامل وتوفير أمن طاقي للولايات المتحدة. خلاصة القول فقد تمحورت سياسة النظام طيلة العقود الثلاثة السابقة على الولاء للقوى الأجنبية كبديل عن فقدانه الشرعية الشعبية.
جذور الانتفاضة ينبغي التأكيد على أن ما تعرفه الجزائر منذ 22 فبراير الماضي لم يأت من فراغ، بل هو، في جوهره، نتيجة تراكم الأزمة السياسية والاقتصادية لسنوات، مع ما استتبعها من نتائج اجتماعية كارثية تكبدها السواد الأعظم من الشعب، وما رافقها، أيضًا، من نضالات اجتماعية وشبابية وطلابية قوية ومختلفة، منذ تحركات المعطلين عن العمل في سنة 2012، وموجة احتجاجات عام 2015 ضد الترخيص للشركات الأجنبية باستغلال الغاز الصخري في الصحراء، مرورًا بموجة الإضرابات العمالية الكبرى التي شهدتها البلاد، لا سيما القطاع العام نهاية عام 2017 وبداية 2018.
وعلى الرغم من أن الجزائر لم تعش ما عاشته العديد من بلدان المنطقة خلال موجة الانتفاضات الشعبية العارمة التي انطلقت من تونس في ديسمبر 2010، غير أنها عرفت، في الفترة الممتدة بين 28 ديسمبر 2010 ومايو 2011، موجة احتجاجات شعبية مصحوبة بقمع شديد من قبل الشرطة وردود فعل عنيفة من قبل المحتجين، وقد اندلعت تلك الاحتجاجات، التي عمت مناطق مختلفة في البلاد، على خلفية غلاء الأسعار وتفشي البطالة والمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية عميقة، من ضمنها رفع حالة الطوارئ، وإلغاء قرار حظر التظاهر في العاصمة، بالإضافة إلى المطالبة برحيل جبهة التحرير الوطني (FLN) التي تحولت من جبهة مقاومة للاستعمار وساعية إلى بناء الجزائر المستقلة، إلى شبكة من شبكات الانتفاع السياسي والارتقاء الاجتماعي، وهي تعتبر، أيضًا، بمثابة الواجهة السياسية الأساسية التي يسيطر بها النظام على المجلس الوطني الشعبي وعلى مختلف المؤسسات ” المنتخبة” وطنيًا ومحليًا، ويستخدمها، أيضًا، في ضبط العملية السياسية وتوجيهها لصالحه، وغلقها أمام المعارضين.
وبعد أن عمدت السلطة إلى قمع هذه الاحتجاجات، لجأت بشكل سريع إلى اتخاذ بعض الإصلاحات الجزئية بهدف احتواء الوضع والحيلولة دون اتساع رقعة الاحتجاجات وتجذرها، لا سيما في ظل تنامي الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر وقتئذ، وكان من أهم الاجراءات المتخذة:
– إلغاء حالة الطوارئ المفروضة (منذ فبراير 1992)، على إثر انقلاب 12 يناير1992، بعدما قرر المجلس الأعلى للأمن (1) إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية، التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) بالأغلبية، بدعوى “توقيف المسار الانتخابي (2) لإنقاذ الدولة من وصول إسلاميين متطرفين إلى الحكم”، وهو ما حظي بتأييد انتهازي جبان من قبل القوى الليبرالية والعلمانية في ذلك القوت. وإذا كان إلغاء حالة الطوارئ قد حد من تدخل الجيش في المسائل الأمنية الداخلية بشكل سافر، غير أنه استمر الإبقاء على:
– حظر التظاهر في العاصمة، بقرار من الرئيس بوتفليقة بدعوى أن “سياسة مواصلة اجتثاث بقايا الإرهاب تتطلب ذلك” حسبما ورد في رسالته الموجهة إلى المشاركين في ندوة بمستغانم في 11 مارس 2011 بمناسبة الاحتفال بذكرى عيد النصر. – إقرار قانون تكميلي في 29 مارس 2011 للاستجابة لبعض المطالب الشعبية المتعلقة بالتشغيل ورفع القدرة الشرائية والسكن. – تعليق الرسوم الضريبية المفروضة على السكر والزيت الغذائي لثمانية أشهر. – تحسين أجور عمال البلديات. – منح قروض طويلة المدى لأرباب العمل بقيمة (13.7 مليار دولار) بالإضافة إلى إنشاء آلاف المستثمرات الفلاحية لخلق مناصب شغل.
ويمكن إرجاع تفسير فشل الانتفاضة في ترسيخ جذورها، حسب حمزة حموشان، خلال هذه الفترة إلى عاملين:
أولًا: شبح الحرب الأهلية المُخيِّم على الذاكرة الجماعية؛ مئات الآلاف من القتلى وعنف وحشي من الدولة للقضاء على المعارضة الإسلامية فيما يُعرف بالعشرية السّوداء، إضافةَ إلى تواصل أشكال القمع. كما أجَّج التدخُّل في ليبيا ونجاح الثورة المُضادة في مصر وأخبار المجازر من سوريا والتدخلات الأجنبية فيها هذه المخاوف.
ثانيًا: استعمال النظام لعائدات النفط والغاز لشراء سلم اجتماعي داخلي ولضمان قبول دولي. ساهم الرخاء البترولي محليًا في “تهدئة” المواطنين وفي منع أي غضب شعبي من التحول إلى حراك جذري، أما خارجيًا وبحكم رتبة البلد كأكبر ثالث مُصدّر للغاز للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنّرويج ونظرًا لتضاؤل إنتاج بحر الشمال والأزمة الأوكرانية، أمل النظام في استغلال الموقف للعب دور أكثر أهمية في تأمين احتياجات الاتحاد من الطاقة وبالتالي ضمان الموافقة والتواطؤ الغربيين.
الحركة النقابية في مواجهة التقشف تتغافل العديد من وسائل الإعلام المقدمات النضالية للمسار الثوري التي باتت تعرفه الجزائر منذ 22 فبراير الماضي، فبالإضافة إلى موجة الاحتجاجات القوية التي عرفتها الجزائر خلال سنة 2011 وغيرها من الاحتجاجات المشار إليها أعلاه، فقد ظلت الحركة النقابية في طليعة النضالات الشعبية، حيث كانت السباقة إلى المطالبة بوقف سياسة التقشف التي أدت إلى غلاء المعيشة، وضرب مكتسبات العمال والشباب، وقد شهدت الساحة العمالية خلال عام 2017 لوحده تنظيم ما يزيد عن 12 ألف احتجاج. تواصلت هذه الحركة الاحتجاجية لتتحول إلى موجة من الإضرابات العمالية نهاية عام 2017 وبداية 2018، كان أهمها الإضراب المفتوح الذي خاضه الأطباء المقيمين (حوالي 15 ألف)، لرفض مشروع الخدمة الإجبارية بين سنتين و4 سنوات بعد التخرج، بقيادة التنسيقية المستقلة للأطباء المقيمين لمدة شهرين مصحوبًا باعتصام في الشارع، قبل أن تلجأ السلطة إلى تسخير القضاء من أجل إجهاضه، حيث أصدرت المحكمة الإدارية ببئر مراد رأس بالجزائر العاصمة، في 24 يناير 2018، حكمًا يقضي بإخلاء المضربين للأماكن التي يعتصمون بها، و بـ”عدم شرعية” الإضراب المفتوح بدعوى أن المادة 4 من قانون الإضراب الجزائري تعتبر اللجوء إلى الإضراب دون استنفاد كل خطوات المصالحة بمثابة “خطأ مهني جسيم يُعرِّض العمال المضربون للعقوبات”.
لم تثنِ هذه الأحكام القضائية التي سعت من خلالها السلطة إلى فرض سياسة التقشف وانتهاك الحرية النقابية كأمر واقع، عزيمة الطبقة العاملة، التي ردت خلال شهري يناير وفبراير من سنة 2018 بموجة احتجاجات وإضرابات قوية مست العديد من القطاعات الحيوية والحساسة، مثل قطاع النقل، والصحة، والتعليم العالي، وقطاع التربية الذي نظمت فيه سبعة اتحادات تعليمية يومي 20 و21 فبراير إضرابًا شهد مشاركة واسعة وصلت إلى معدل 70%.
ورغم القمع والتضييق والاعتقالات في صفوف مستخدمي الصحة والأطباء، ومنع العمال التظاهر في العاصمة بدعوى تعارضه مع قانون منع التجمعات في العاصمة، فقد نجح ذلك الإضراب في شل أربعة قطاعات حيوية عبر 48 ولاية (التربية، والصحة، والتكوين المهني، والبريد)، إذ بلغت نسبة الاستجابة 75% في قطاعيّ التعليم والصحة وحدهما.
وقد اندلعت هذه الإضرابات للمطالبة بالزيادة في الأجور واحترام الحق النقابي على خلفية تدهور القدرة الشرائية بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعرفها الجزائر، واحتجاجًا على سعي الحكومة على مراجعة قانون العمل بما يضمن لها التضييق على الحق النقابي وفرض المزيد من الهشاشة. وقد جاء رد السلطة، هذه المرة، على هذه الإضرابات عبر واجهتها السياسية حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم حيث اعتبر أمينه العام جمال ولد عباس أن “أطرافًا تُحرِّك الجبهة الاجتماعية من أجل رئاسيات 2019”. مضيفًا أن الاستحقاقات المتعلقة “برئاسيات 2019 غدًا (مستقبلًا) وليست اليوم، ومع اقترابها البعض ينزعج. سنبقى هادئين كأول قوة سياسية في البلاد، وسنحل المشاكل تدريجيًا”.
كشفت هذه الإضرابات عن الدور المحوري الذي باتت تنهض به النقابات المستقلة في الساحة العمالية، بما فيها غير المعترف بها من قبل السلطة، التي اضطلعت بدورٍ كبيرٍ وفعَّال في هذه الحركة الإضرابية، خاصة في ظل تراجع وتقهقر دور الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي رفع عمال شركة ”سوناكوم” بالرويبة أثناء إضرابهم، في ذلك الوقت، شعارات طالبت بتنحيه عن قيادة النقابة المركزية.
ورغم مختلف صنوف الضغط السياسي والقضائي والمنع الذي تعرضت له اعتصامات العمال ومسيراتهم، فقد اتسعت الحركة الإضرابية لتشمل طلبة المدارس العليا (جامعات متخصصة في تخريج الأساتذة) التي شملت أكثر من 10 ولايات، مطالبين فيها بالتوظيف المباشر بلا مباراة، كما خاض مضيفو الخطوط الجوية الجزائرية إضرابًا على دفعتين خلال يناير وفبراير من نفس العام، بسبب مطالب تتعلق بتحسين الأجور، قبل أن ينضم إلى هذه الحركة الإضرابية بالقطاع العام متقاعدي الجيش الوطني الشعبي، مطالبين بتحسين معاشاتهم.
وفي ظل تعنت النظام في الاستجابة لمطالب العمال والشباب والمتقاعدين، لم يتردد نائب وزير الدفاع، وقائد أركان الجيش الجزائري الفريق قائد صالح، عن كيل اتهامات مجانية لإضراب متقاعدي الجيش متحدثًا عن “وجود أطراف وأقلام تسعى إلى الزج ببعض متقاعدي الجيش في احتجاجات قصد الإساءة إلى الجزائر”.
وأمام صمود الحركة الإضرابية وتشبثها على انتزاع مطالبها، صرح وزير الداخلية الجزائري نورالدين بدوي، في 29 يناير 2018، بأن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، أمر بفتح الحوار مع الجميع (نقابات وعمال).
وفي هذا السياق، فقد اعتبر معظم المتتبعين والفاعلين السياسيين والنقابيين في الجزائر بأن هذه الاحتجاجات هي، في العمق، نتاج فشل سياسات النظام في تلبية المطالب الاقتصادية والاجتماعية الأساسية لكافة الفئات الشعبية، وفي تصريح لوكالة “الأناضول” أكد ناصر حمدادوش، رئيس الكتلة البرلمانية لحركة مجتمع السلم (أكبر حزب إسلامي في الجزائر)، “أن هذه الاحتجاجات العمالية والفئوية والقطاعية، رغم طابعها الاجتماعي، لكنها ستكون مثل كرة الثلج في نوعية المطالب وفي حجم الحراك الشعبي، مادامت الحكومة عاجزة ماليًا وسياسيًا عن حل هذه الإشكالات المتراكمة”.
الإضراب والسياسة في الجزائر على غرار ما يحصل في كل الانتفاضات الجذرية، يتخلل المسار الثوري الذي تعرفه الجزائر حركة إضرابية قوية تشمل المعامل والجامعات، تعيد التذكير بالإضرابات العمالية التي شهدتها البلاد بعد انتفاضة أكتوبر 1988 بوصولها إلى 7293 إضرابًا عماليًا بين سنتي 1988 و1990، وذلك جراء المكاسب التي انتزعتها هذه الحركة التي رغم القضاء عليها بالقمع والاعتقالات، فقد فرضت على النظام الاعتراف بالتعددية الحزبية والنقابية، وانتزعت اعترافًا دستوريًا بالحق في ممارسة الإضراب بموجب المادة 54 من الدستور الجديد المعدل في فيفري 1989.
وتعود انتفاضة أكتوبر الجزائرية، إلى السياسة الجديدة التي لجأ إليها، وقتئذ، الجنرال الشاذلي بن جديد، والتي تقوم على تشجيع القطاع الخاص كحل للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية (تفشي البطالة، نقص في المواد الغذائية الأساسية…)، التي صاحبت انخفاض أسعار النفط الذي تراجع من 30 دولار إلى أقل من 10 دولار عام 1986. لكن هذه السياسة قوبلت بالرفض من طرف الشعب ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية كبرى في أكتوبر 1988 خلفت، بحسب أرقام غير رسمية، أكثر من 500 شهيد واعتقال 4000 شخص بدعوى تورطهم في أحداث “العنف والتخريب” التي طالت العديد من المؤسسات العمومية.
وبالموازاة مع الحراك الشعبي الرافض للسلطة الحاكمة والمطالب بتنحي كل رموزها وبمحاسبة ناهبي المال العام ومخربي المؤسسات العمومية الإستراتيجية بالبلاد، خاضت الطبقة العاملة عدة إضرابات أهمها الإضراب العام الممتد على مدى 5 أيام بين 10 و15 مارس الماضي، معجلا خلال يومه الثاني بتراجع بوتفليقة عن الترشح لعهدة خامسة. وقد سجل هذا الإضراب نسب مشاركة عالية جدًا، وامتد هذه المرة إلى قطاعات إستراتيجية مثل حقول النفط والغاز في الجنوب، والنقل الجوي والسكك الحديدية والموانئ، بالإضافة إلى الإدارات العمومية والضرائب والتعليم والصحة والمهن وصغار التجار، ما دفع بوتفليقة إلى سحب ترشحه لعهدة خامسة في اليوم الثاني من الإضراب.
فحسب لجنة الإعلام ومتابعة الاستجابة للإضراب العام للعمال الجزائريين، فقد سجل الإضراب 87% في القطاع التجاري الذي لم يكن معنيًا أصلا بالإضراب، و100% بقطاع التعليم العالي، و86% بقطاع التربية، كما سجل في قطاع الطاقة (شركة سونلغاز) 76%، وقطاع البترول (شركة سوناطراك) 64%، وفي الشركات البترولية المتعددة الجنسيات 13%، البنوك والمؤسسات المالية 32% والبريد واتصالات الجزائر 41,98%، ومصالح الضرائب 38%، والموانئ 67%، والسكك الحديدية، والمترو 58%، والنقل البري الحكومي 61 %. في حين بلغت نسبة استجابة المناطق الصناعية للإضراب وطنيًا ما يعادل 57%، وسُجِّلَت بقطاع عمال البلديات نسبة 44%، وفي قطاع عمال عقود ما قبل التشغيل بكل القطاعات 41%، وانخرط قطاع القضاء في الإضراب بمختلف مكوناته (كتاب الضبط و أمناء الضبط) 17% في حين بلغ اضراب القضاة بنسبة نسبة 19%.
ومنذ نجاح إضراب الخمسة أيام في مارس، توالت الإضرابات العمالية، التي شملت عمال الضرائب الذين خاضوا إضرابًا وطنيا لمدة 3 أيام (18-19-20 مارس)، وخاض عمال سوناطراك للمحروقات إضرابًا في 17 مارس وعرفت بجاية في 28 مارس إضرابًا عاما ومسيرة شاركت فيها العديد من القطاعات العمالية، وقبلها شهدت تيزي وزو إضرابًا عامًا في 25 مارس. وخاض العمال المؤقتون (4350 عامل) إضرابًا عن العمل، رغم تهديدهم بالفصل من العمل، في مركب الحديد والصلب TURK TOSYALI بالمنطقة الصناعية بطيوة بولاية وهران، حيث دعت الكونفدرالية الوطنية للنقابات المستقلة خلال تجمع عمالي بالعاصمة صاحب الإضراب الذي أعلنت عنه، إلى رحيل كل رموز النظام، قبل أن تتدخل الشرطة إلى تفريق العمال المعتصمين باستعمال مكثف للقنابل المسيلة للدموع.
وفي 7 أبريل الجاري عرفت المنطقة الصناعية الرويبة بالقرب من الجزائر العاصمة، إضرابًا عماليًا نظمه عمال شركة IMC للصناعات الطبية الجراحية التي تعد من بين أهم الشركات الاحتكارية في مجال إنتاج المواد الطبية ومستلزمات مرض القصور الكلوي، وقد عبر العمال خلال تجمعاتهم عن مساندتهم لمطالب الحراك الشعبي، فضلًا عن مطالبتهم إدارة الشركة برفع الأجور وتحسين ظروف العمل واحترام الحق في التنظيم النقابي.
كما شهدت الساحة العمالية الجزائرية اندلاع عدة إضرابات وتنظيم مسيرات حاشدة تعبر عن رفض العمال تنصيب الجيش لرئيس المجلس الشعبي الوطني بن صالح رئيسًا للدولة.
المثير للاهتمام في هذه الموجة الجديدة من الإضرابات، أن العمال لم يقفوا عند حدود المطالبة بتحقيق مطالبهم الخاصة، وعلى رأسها الزيادة في الأجور تبعا لغلاء المعيشة، وتحسين شروط العمل، واحترام الحرية النقابية، بل تعدى ذلك إلى تبني مطالب وأهداف الحراك الشعبي مطالبين، أيضًا، بتنحي كل رموز النظام، ما يمكن اعتباره دعامة اجتماعية قوية للحراك الشعبي.
هكذا تكشف هذه الأحداث الثورية الجارية، مرة أخرى، أن “الإضراب لا يفتح عيون العمال على حقيقة الرأسماليين وحدهم، بل على حقيقة الحكومة والقوانين التي تحكمهم بها”، كما كتب لينين نهاية عام 1899 في تحليله للإضرابات العمالية التي كانت تعرفها روسيا وقتئذ.
وإذا كان عمال الجزائر من خلال إضراباتهم المتكررة والواسعة التي باتت تشمل مختلف المناطق والقطاعات، بما فيها قطاع الطاقة والنفط والغاز، منخرطين في “مدرسة حرب” حقيقية، ذلك أن الإضراب بالإضافة إلى التأثير البالغ الأهمية الذي قد يحدثه في موازين القوى بين العمال وأرباب العمل، فهو “مدرسة يتعلم فيها العمال كيف يشنون الحرب على أعدائهم من أجل تحرير الشعب ككل، من أجل تحرير كل الذين يعملون من نير المسؤولين الحكوميين، ومن نير رأس المال. ولكن “مدرسة الحرب” على أي حال، ليس هي الحرب عينها، فحسب لينين فإن الإضرابات ليست إلا واحدة من الوسائل التي تناضل بها الطبقة العاملة من أجل تحررها ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة، وإذا لم يحول العمال اهتمامهم إلى وسائل أخرى يوجهون إليها كفاحهم فإنهم سوف يعوقون نمو ونجاحات الطبقة العاملة، وعلى رأسها تمتعهم بقدر كاف من الوعي الطبقي يجعلهم قادرين اختيار اللحظة المناسبة للقيام بالإضراب، ومعرفة كيفية التقدم بمطالبهم، وحسن تدبيرهم للمطبوعات والمنشورات الثورية، بالإضافة إلى بناء حزبهم الخاص.
وقد اثبتت مختلف التجارب الثورية بما فيها تلك التي عرفتها المنطقة العربية والمغاربية مطلع عام 2001، لا سيما في مصر وتونس، صحة هذه الموضوعات اللينينية، ذلك أن خوض العمال لنضال متماسك وحازم ليس ضد أرباب العمل من اجل انتزاع مطالبهم الخاصة فحسب، بل، أيضًا، ضد الأنظمة التي تحمي مصالحهم بواسطة الجيش والمخابرات والإعلام والبرلمان والمحاكم والقانون، يستلزم بناء حزب اشتراكي عمالي، ينشر مفهوم حقيقي عن الرأسمالية والأنظمة القمعية والبوليسية التي تستند إليها، وعن قضية الطبقة العاملة بين جماهير العمال. ولا يخفى على أي مناضل وفي للقضية العمالية، أن المسار الثوري الذي انطلق قبل شهرين، يشكل فرصة مواتية أمام الثوريين في الجزائر لطرح مثل هذه القضايا وسط العمال والدفع باتجاه تنظيمهم على أساس كسبها وتحقيقها على أرض الواقع.
حراك عمالي ضد البيروقراطية أيضًا بعد اندلاع الحراك الشعبي وتنامي الإضرابات والاحتجاجات العمالية اتجهت الطلائع النشيطة في الاتحاد العام للعمال الجزائريين إلى سياسة البيروقراطية النقابية داخل الاتحاد العام لعمال الجزائر الذي ظلت قيادته موالية لاختيارات السلطة، بل ودعمت ترشيح بوتفليقة لعهدة سابقة، ضد إرادة الحراك الشعبي. حيث تشكلت معارضة نقابية قوية داخل الاتحاد العام للعمال الجزائريين UGTA، تضم عدة اتحادات عمالية ولائية وتستند إلى قاعدة عمالية مهمة مثل تيزي وزو وبجاية وتلمسان وسعيدة والرويبة، وغيرها، فضلًا عن الاتحادية الوطنية لعمال المعادن والميكانيك والكهرباء والإلكترونيك. كما حظت المعارضة النقابية بدعم قطاعات حيوية مثل عمال سوناطراك بحاسي مسعود الذين طالبوا خلال تجمع عمالي يوم 5 أبريل برحيل النظام والبيروقراطية النقابية.
وتطالب المعارضة النقابية بتنحي البيروقراطية المتنفذة وعلى رأسها حليف بوتفليقة الأمين العام عبد المجيد سيدي السعيد، الذي يوصف في المظاهرات النقابية بالسارق وخائن العمال، بالنظر إلى وقوفه الدائم مع السلطة الحاكمة في الجزائر وتحالفه المكشوف مع أرباب العمل بدعوى إسناد المقاولة الوطنية. وتتميز المعارضة النقابية المتشكلة في UGTA بدعمها لمطالب الحراك وأهدافه السياسي، حيث دعت في اجتماع سابق لهيئتها القيادية انعقد في 10 أبريل الحالي دعمها لمطالب الحراك الشعبي من أجل بناء جمهورية ثانية تتكرس فيها العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.
وجدير بالذكر أن البيروقراطية المتحكمة في شؤون هذه النقابة التاريخية حظيت بدعم مباشر من قبل السلطة في حربها ضد الأصوات المناضلة لأجل انتزاع الديمقراطية الداخلية كما حصل يوم 6 أبريل لما تدخلت عناصرها ضد نقابيين كانوا بصدد تنظيم وقفة احتجاجية أمام مقر الاتحاد العام للعمال الجزائريين بالعاصمة. أو عبر دعم ممثلي السلطة على صعيد الولايات للبيروقراطية، مثل ما حدث في ولاية سعيدة، بعد أن عمد الوالي إلى منع انعقاد تجمع عمالي في إطار الاتحاد العام للعمال الجزائريين بدار الثقافة.
وأمام صمود المعارضة لجأت اللجنة التنفيذية الوطنية (161 عضوًا) التي يتحكم فيها عبد المجيد سيدي سعيد عبر اجتماعها المفبرك المنعقد في 11 أبريل إلى طرد 4 أمناء ولائيين طالبوا بتنحية الأمين العام الحالي بغرض ترهيب المعارضين النقابيين لخط التواطؤ والمهادنة الذي تنهجه قيادة النقابة، غير أن المعارضة تمكنت من فرض توازن القوة حيث قاطع ممثلوها (83 نقابيًا يمثلون اتحادات ولائية مختلفة) داخل اللجنة الوطنية هذا الاجتماع، قبل أن تنجح في تدعيم نضالها بتنظيم تجمع عمالي كبير (حوالي 10 آلاف عامل حسب تقدير مشاركين في التجمع) أمام مبنى الاتحاد العام للعمال الجزائريين بالجزائر العاصمة، دفع زعيم البيروقراطية النقابية عبد المجيد سيدي السعيد، إلى تقديم استقالته، قبل أن يتراجع عليها بأوامر عليا حتى يضمن مشاركة الاتحاد العام للعمال الجزائريين في المشاورات السياسية التي دعا إليها الرئيس بن صالح المفروض من قيادة أركان الجيش.
الشعب يرفض خطة الجيش لقد بات من الواضح أن الحراك الشعبي لم يستسلم سواء أمام القمع والمنع الذي يطال نضالاته ومسيراته السلمية الحاشدة، أو أمام المناورات التي لجأت إليها قيادة أركان الجيش بتنصيبها بن صالح رئيسًا للدولة، من أجل الإشراف على الانتخابات التي يسعى النظام فرضها في يوليوز القادم. فحتى توقيف بعض المتورطين في الفساد وفي نهب المال العام مثل الملياردير والرئيس السابق لمنظمة أرباب العمل على حداد، لم يهدأ من الغضب الشعبي، ولم يحد من إرادة شعب قرر انتزاع سيادته وتقرير مصيره السياسي. حيث حافظت الجبهة الميدانية، التي أفرزها الحراك بشكل موضوعي، على وحدة ومتانة صفوفها، ما جعلها تحظى بتأييد شعبي واسع، وحظيت بدعم قضاة الجزائر الذين رفضوا المشاركة في التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويطالب المتظاهرون برحيل عبد القادر بن صالح، الذي نصبته قيادة أركان الجيش رئيسًا مؤقتًا للبلاد، ونور الدين بدوي (وزير الداخلية)، بالإضافة إلى معاذ بوشارب (رئيس المجلس الوطني الشعبي)، بعد أن دفع الحراك الشعبي رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز إلى التنحي. كما يطالب المتظاهرون قيادة الجيش بالتزام الحياد وبالوفاء بتعهداتها بتطبيق نص المادتين 7 و8 من الدستور اللتان تنصان على أن “الشعب هو مصدر كل سلطة، والسلطة التأسيسية ملك له، يمارسها المؤسسات الدستورية التي يختارها. وعن طريق الاستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين”. غير أن وضع هذا المبدأ حيز التطبيق يحتاج إلى قوة سياسية حازمة ومحتضنة شعبيًا، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال الرهان على الجنرال قايد صالح أو غيره من ممثلي الطبقة الحاكمة، السماح للشعب بتقرير مصيره السياسي.
هذا وقد صار من الواضح جدًا أن الشعب يرفض كل المؤسسات الدستورية القائمة ولم تعد له أي ثقة في الهيئات المنتخبة في ظل انتهاك السيادة الشعبية، وهذا ما يعبر عليه الشعار الأكثر تداولا في الحراك (يتنحاو كاع؛ يرحلوا جميعا)، كما أبان الحل الدستوري الذي فرضه الجيش، والذي أوصل عبد القادر بن صالح لرئاسة الدولة مؤقتًا، عن فشله القاطع في تهدئة الأوضاع، عقب خروج الملايين إلى الشارع في تاسع جمعة على التوالي، تأكيدًا لرفضهم بقاء “مجموعة بوتفليقة” ولتدخل الجيش في مقاليد الحكم. ما يجعل الوضع السياسي في الجزائر مفتوحًا على جميع الاحتمالات خصوصا عقب اللجوء إلى استخدام أساليب القمع تجاه المتظاهرين وضرب الحصار على مسيراتهم لا سيما في الجزائر العاصمة.
الشرطة وتوظيف شبح الإرهاب بعد خروج ملايين الجزائريين الى الشوارع في تاسع جمعة على التوالي، لتأكيد مطالبهم، تستمر السلطة في تنفيذ مخططها الرامي إلى الحفاظ على النظام القائم ومحاولة فرضه عبر انتخابات رئاسية تعتزم تنظيمها في يوليوز القادم، في ظل الحفاظ على مؤسسات النظام (باسم الشرعية الدستورية) الذي ثار الشعب ضده، وفي ظل قوانينه ورموزه وممارساته القمعية. في حين يواصل الشعب نضالاته لفرض إرادته الحرة، من خلال مظاهرات حاشدة شهدتها مدن الجزائر يوم الجمعة 19 أبريل، في العاصمة والبويرة وسيدي بلعباس وسعيدة والمسيلة وبجاية وقسنطينة وغيرها من ولايات الجزائر. طالب المتظاهرون، خلالها، من جديد بتنحية بن صالح الرئيس الذي فرضه الجيش على الإرادة الشعبية وبتنحي كل رموز النظام (توقيف 180 متظاهر)، قبل أن يتعرضوا لقمعٍ رهيب من قبل الشرطة ووحدات مكافحة الشغب التي لجأت إلى استعمال خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفرقة المتظاهرين، لا سيما على مستوى الجزائر العاصمة التي تعد المركز السياسي والحيوي للبلاد. ورغم الحصار الأمني الذي ضرب على المظاهرات فقد تمكن المتظاهرون من اقتحام ساحة البريد المركزي، في حين واصل متظاهرون آخرون التشبث بخيار السلمية متجنبين الدخول في مواجهات مع الشرطة التي لجأت إلى فض اعتصامهم بساحة أودان بالعاصمة، رافعين شعارات تؤكد أن “سلميتنا ستكسر تحالف العصابات”، وتطالب برحيل بقية رموز النظام، والاستجابة لمطالب الشعب.
أمام فشل سياسة الحصار والقمع الممنهجين في دفع المتظاهرين إلى التراجع وترك الساحات والميادين، لم يبقى أمام السلطة سوى اللجوء إلى توظيف شبح الإرهاب بهدف زرع الرعب والهلع في صفوف المتظاهرين، حيث أصدرت المديرية العامة للأمن الوطني بيانا تتحدث فيه عن “توقيفها أجانب وسط الحراك كانوا يخططون لجره إلى العنف، وأيضًا تفكيك جماعة إرهابية كانت تخطط لتنفيذ أعمال إرهابية بين المتظاهرين بأسلحة استعملت ضد قوات الأمن في التسعينيات”.
إن مثل هذه الأحداث الخطيرة تضع القوى السياسية والاجتماعية والمدنية المنخرطة، قولا وفعلا، في معركة الحرية والتغيير، أمام مسؤولية تاريخية جسيمة في الوقوف بوجه هذه الأساليب البوليسية القذرة، التي طالما استعملتها الطبقة الحاكمة في الجزائر من أجل تكسير الإرادة الشعبية، وفضحها وسط الشعب المنتفض. كما بات من الواضح أن لعب ورقة الإرهاب واستعمالها لتخريب وحدة المنتفضين، هو الأسلوب الوحيد المتبقي أمام الجيش، وهذا ما يستشف من البيان المذكور، الذي تخبر من خلاله الأجهزة الأمنية بأنها: “عملت أيضًا على وضع حد لمشاريع إجرامية واسعة النطاق، على غرار قيامها إلى جانب مصالح الجيش الوطني الشعبي، بتوقيف مجموعة إرهابية مدججة بالأسلحة والذخيرة، والتي كانت تخطط للقيام بأعمال إجرامية ضد المواطنين، مستغلة الكثافة البشرية الناجمة عن التعبئة”. ويضيف البيان: “إن التحريات المنجزة سمحت بالتوصل إلى أن بعض الأسلحة التي كان يحوزها هؤلاء المجرمين، تم استعمالها في جرائم اغتيال في حق بعض منتسبي مصالح الأمن خلال العشرية السوداء”.
وقد كان الرد الشعبي على هذه المناورات هو خروج الشعب في مظاهرات حاشدة وسلمية أكد فيها من جديد، مطلبه غير القابل للتفاوض، بتنحي رموز النظام وتولي حكومة انتقالية مقبولة شعبيا إدارة البلاد وتهييئ كافة الشروط السياسية والقانونية والدستورية لعقد انتخابات رئاسية حرة ونزيهة تتيح للشعب الجزائري التعبير عن سيادته. وتعبر المظاهرات والمسيرات المستمرة والمتواصلة ليس أيام الجمعة فحسب بل كافة أيام الأسبوع (الطلاب يخرجون كل ثلاثاء)، عن تحدي الشعب الجزائري للمكائد والمؤامرات التي تحاك ضده باسم الحفاظ على الأمن العام وعلى السير العادي للمؤسسات.
إن مثل هذه المناورات لا يمكن أن تنطلي على شعب تكبد إرهاب الدولة والمجازر الدموية التي اقترفت في حقه وضدا على اختياراته الديمقراطية الحرة في تسعينيات القرن الماضي، باسم الحفاظ على “أمن الجزائر واستقرارها”، وتجرع مرارة انتهاك حرياته الديمقراطية بسبب قانون الطوارئ وتدخل الجيش المباشر في الحياة السياسية، ولا زال يتعرض للمنع من التظاهر في العاصمة حتى بعض إلغاء قانون الطوارئ، ومنعت مظاهرات طلابه وإضرابات عماله بواسطة القمع تارة، وباستعمال سلاح الأحكام القضائية تارة أخرى.
وفي الوقت الذي تدعي فيه السطة حماية المتظاهرين السلميين، تستمر قوات الدرك في إحكام قبضتها على على كافة مداخل العاصمة منعا لوصول المحتجّين إلى أماكن المسيرات وسط العاصمة كما حدث أيام 11 و12 و18 و19 أبريل، كما تم منع تجمع جماهيري، في 13 أبريل، كان مزمعًا تنظيمه في ساحة البريد المركزي، للاحتجاج على قمع المسيرات ومنعها، دعا إليه نشطاءٌ سياسيين وجمعويين، تعرَّض بعضهم للاعتقال كما تم ترهيب أربع مناضلات نساء، وإجبارهن على خلع ملابسهن بمركز الشركة في العاصمة في محاولة يائسة لترهيب النساء اللائي يشاركن بشكل قوي في الحراك الشعبي منذ انطلاقه.
ومن خلال تتبع البيانات الصادرة عن المديرية العامة للأمن الوطني، يتضح بشكل جلي أن السلطة تتهيأ إلى خلق رأي عام مؤيد إلى لجوئها قمع واسع ضد المناهضين لخيارات قيادة أركان الجيش، وهذا ما عبرت عنه بالقول: “لنكن واعين بأن المظاهرات السلمية لا يمكنها ان تتم على حساب حرية الحركة وسلامة الأشخاص والممتلكات واستمرارية المرفق العام والمصلحة العامة للمواطن”.
سلطة إعلامية مضادة بيد الشعب على إثر فشل النظام بواسطة إعلامه الرسمي في التعتيم على المظاهرات وعلى حقيقة مطالبها، بعد تجاهل مفضوح من قبل القنوات الرسمية وعدم تغطيتها للحراك منذ انطلاقه في 22 أبريل، انتقل إلى الهجوم على صفحات المعارضين في استهداف واضح لحقهم في الرأي والتعبير، وقد بات هذا واضحًا من خلال بيان أصدرته المديرية العامة للأمن الوطني تتهجم فيه على صفحات التواصل الاجتماعي المناهضة لكافة الخطط والسيناريوهات الرامية إلى تأبيد النظام القائم وإنقاذه باسم الحفاظ على الشرعية الدستورية، ومرة أخرى تستعمل السلطة فزاعة الإرهاب والتطرف كحجة واهية في إدانة المعارضين، معتبرة “أن الحوارات المواطناتية، صارت عرضة للتسميم الفكري من طرف مستغلي التطرف الإيديولوجي ومجندي شبكات الإرهاب العابر للأوطان، الباحثين عن مجندين جدد من خلال استغلال حالات الاستياء الاجتماعي لاستعمالها كذريعة لمسار التطرف والتشدد”.
حراك نسائي بامتياز من الملفت للنظر أيضًا بخصوص الحراك الشعبي الذي تعرفه الجزائر هو المشاركة الحاشدة للنساء بمختلف أعمارهن وانتماءاتهن، وهذا ما تجلى في مسيرة 8 مارس الذي عبرت عن المخزون النضالي القوي لنساء الجزائر، وعن إرادتهن في الوقوف جنبا إلى جنب مع إخوانهم الرجال من أجل انتزاع السيادة الشعبية من الأقلية التي تفترس وتنهب ثروات البلاد وتبيعها للرأسمال الأجنبي، لكن أيضًا، من أجل طرح مطالبهن الخاصة المناهضة للاغتصاب والتعدد وتغيير شروط الزواج والطلاق عبر إقرار قانون مدني للأسرة. وهن اللائي بقين محرومات من استعمال الشارع للتعبير عن مطالبهن الخاصة لما يقارب 3 عقود من الزمن. حيث يعود آخر التجمعات النسائية الكبيرة إلى عام 2015 عقب مقتل رازريكا شريف في مسيلة، وهي شابة دُهِسَت عمدًا من قبل سائق سيارة أجرة، لأنها “تحدته”، وعلى إثر هذه الاحتجاجات تمكنت النساء من انتزاع قانون يقضي بتجريم العنف رغم عيوبه الكثيرة.
ورغم المشاركة النسائية الحاشدة لنساء الجزائر في الحراك الشعبي، فإن هذا لا ينبغي أن يغفل عنا الصعوبات الحقيقية التي تعترض سبيلهن نحو انتزاع كرامتهن وحقوقهن الخاصة، حيث تعرضت ناشطات نسوانيات إلى العنف من طرف متظاهرين وهن بصدد توزيع مناشير تطالب بإقرار قانون مدني للأسرة. وما يزيد من حدة هذه الصعوبات شيوع الأفكار المحافظة بل والرجعية وتجذرها في الوعي الشعبي. ومما لا شك فيه لا يكاد يخفى على أحد أن النضال النسائي في الجزائر تضرر كثيرا خلال صعود الإسلاميين نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وما تلاه من قمع وترهيب ضد الناشطات النسوانيات خلال ما يعرف بالعشرية السوداء.
طلاب الجزائر لم يخلفوا العهد يقدر أعداد الطلبة في المعاهد والجامعات بما يزيد عن مليون و700 ألف طالبن يقطن حوالي 630 ألف منهم في إقامات وأحياء جامعية، و45 % من شباب الجزائر تقل أعماره عن 25 سنة، بمعنى أنه لم يعش المآسي التي تكبدها الشعب خلال العشرية السوداء. ومنذ انطلاق الحراك الشعبي لم يكتفوا بالنزول إلى الشوارع لدعم شعبهم خلال المسيرات الحاشدة التي تنظم كل يوم جمعة، بل هبوا إلى تنظيم حراكهم الطلابي الخاص كل يوم ثلاثاء، الذي توج بتنظيم مسيرات حاشدة يوم 26 فبراير الماضي، وظل مستمرًا كل يوم ثلاثاء، وتمكن في أكثر من مرة من اقتحام الساحات والميادين المحاصرة لا سيما في الجزائر العاصمة.
وبالنظر إلى وعي الطلبة بأهمية التنظيم، وأمام عجز الاتحادات والجمعيات الطلابية الموالية للنظام ولأحزاب التحالف الرئاسي في التعبير عن توق طلاب الجزائر إلى الحرية والعدالة والاجتماعية، وسعيهم إلى تحسين شروط تعليمهم الجامعي، شرع الطلاب في تأسيس لجان مستقلة يعهد إليها بتنظيم نضالاتهم والتعبير عن مطالبهم، كما تعقد في العديد من الجامعات جموع عامة يتم تسييرها من قبل الطلبة بشكل ديمقراطي للحسم في العديد من القضايا التي تهم النضال الطلابي ودوره في الحراك الشعبي، مثلما حصل في التجمع الطلابي الذي عرفته جامعة باتنة، والذي خصص لاتخاذ قرار بشأن مصير الإضراب الطلابي الذي تعرفه الجامعة، حيث صوت 444 طالب (62%) لصالح مواصلة الإضراب مع حضور الطلبة إلى الجامعة، في حسن صوت 275 طالب (38%) لصالح توقيف الإضراب وتخصيص يوم واحد في الأسبوع لتنظيم المسيرات الطلابية.
خلاصة القول، الجميع يدرك أن التحديات التي تعترض حراك الشعب الجزائري هائلة بسبب الأضرار الناجمة عن هيمنة الجيش على الحياة السياسية لعقود طويلة من الزمن، وعجز الحركة العمالية عن بناء منظمات سياسية ونقابية متجذرة، أضف إلى ذلك كما قال حسين غرنان، وهو مناضل في حزب العمال الاشتراكي بالجزائر أن “الأضرار الناجمة عن النيوليبرالية بتواطؤ النقابات هائلة في صفوف العمال. لقد قامت بتفكيك أدنى تقاليد تنظيمية، وأجبرت العمال على الاستسلام، وشجعت المنافسة وعدم الثقة بينهم. أصبحت نقاباتهم بيروقراطية، وليس في ذاكرات العمال الجماعية تجارب أخرى يمكن الاستناد إليها. من المأمول أن تمارس الحركة الشعبية ضغطًا كافيا على النقابات وتحثها على الرد”.
ورغم المصاعب المشار إليها أعلاه، فإن الظرفية الحالية بقدر ما تسمح للجماهير المنتفضة بالتعبير عن مطالبها في إقامة جمهورية ديمقراطية وشعبية حقيقية تصان فيها كرامة الجزائريين وتحترم إرادتهم الحرة، ويستعيدون من خلال السيطرة على مواردهم وثرواتهم المنهوبة، فهي تسمح كذلك بالتقدم في حفز مختلف أشكال التنظيم الذاتي للجماهير في المعامل والجامعات والأحياء الشعبية. وبقدر ما يعتبر شعار تشكيل جمعية تأسيسية ذات سيادة وممثلة للتطلعات الديمقراطية والاجتماعية للعمال والشباب والنساء وجميع المضطهدين، الذي يرفعه اليسار الجذري (حزب العمال، حزب العمال الاشتراكي) حلاً ديمقراطياً حقيقياً للأزمة السياسية الحالية، وبقدر ما يظل شعارا صحيحا من الناحية البرنامجية والتكتيكية بالنسبة لأي يسار يسعى إلى فتح الطريق الثوري في مثل هكذا ظروف سياسية ونضالية تعيشها البلاد. فإن فرضه على أرض الواقع يحتاج إلى خطوات عملية واضحة، على رأسها مبادرة اليسار الجذري في الجزائر إلى تشكيل جبهة شعبية تضم كل الرافضين لخطة أركان الجيش وللتدخل الأجنبي وللسياسات اللاشعبية، لا سيما وأن أطراف هذه الجبهة باتوا واضحين ليس على مستوى المواقف فحسب، بل ومن خلال انخراطهم الميداني في مختلف النضالات والاحتجاجات التي تعرفها الجزائر اليوم.
إن المشاركة الهائلة للنساء في النضال وتصاعد النضال العمالي والطلابي، وانصهاره في بوتقة الاحتجاجات الشعبية التي تعرفها مختلف مناطق البلاد، وانتزاع الشعب لحرياته الديمقراطية الفعلية في التظاهر والتعبير والتنظيم رغم الحصار المضروب عليه، يتيح للقوى التحررية والديمقراطية فرصة لا تعوض، في مساعدة الشعب على تنظيم نفسه في لجان شعبية، و بلورة صيغ سياسية تعبر عن عمق المطالب الشعبية، وتقطع الطريق على قيادة أركان الجيش وعلى الأوليغارشية الساعية إلى تأبيد الأمر الواقع، وتفتح في المقابل مسار بناء ديمقراطية جذريّة تضع كل السلطة والثروة بيد الشعب المنتفض. وتدعم حالة التعبئة القصوى التي يشهدها الحراك الشعبي واستعداده القوي لحماية مساره الثوري ضد أعدائه المتربصين به في الداخل والخارج.
أمام تفكك جبهة النظام وعجزه عن احتواء الوضع وفرض خطته المرفوضة من قبل الشعب، على قوى النضال السياسي والنقابي والطلابي أن تتقدم بخطوات عملية وسياسية ملموسة لبلورة جبهة الشعب المنتفض على أرضية مطالب الحراك وأهدافه التحررية العميقة غير ذلك، سيمنح قيادة أركان الجيش الوقت الكافي لترتيب البيت الداخلي للنظام، ويعيد إحكام قبضتها على مصير الشعب الجزائري العظيم.
ويبقى على كل الأحرار في المغرب وفي كل مكان دعم معركة الجزائر لأجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية ومساندتها حتى النهاية.
عاشت معركة الجزائر الثانية ضد أذناب فرنسا وضد الاستبداد العسكري وضد النيوليبرالية والأوليغارشية المفترسة لثروات البلاد وخيراتها
هوامش: 1- اعترف الجنرال المتقاعد محمد تواتي، في مقابلة تلفزيونية مع “فرانس2″، أن “المجلس الأعلى للأمن، الذي يتكون من وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش ووزير الخارجية ورئيس الحكومة وشخصيات أخرى، هو الذي قرر توقيف المسار الانتخابي بعد فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية مقاعد المجلس الشعبي الوطني، والجيش وافق على القرار”.
2- شهدت سنة 1990، تنظيم أول انتخابات للمجالس البلدية والولائية، في مرحلة التعددية والانفتاح السياسي، وأفرزت نتائجها عن فوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) على حساب عدة أحزاب، على رأسها الحزب التاريخي “جبهة التحرير الوطني”، وتحصل “الفيس” على أكثر من 950 مجلس بلدي من أصل 1539 بلدية، و32 مجلس ولائي من أصل 48 مجلس ولائي. وبعد صدور نتائج الانتخابات البلدية، لجأت الحكومة إلى إدخال تعديلات على قانون الانتخابات لصالح الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني)، ردت عليها الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالدعوة إلى إضراب عام. ما حدا بالسلطة إلى اعتقال قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ (عباس مدني المحارب السابق في بجهة التحرير الوطني وعلي بلحاج). وقام الشاذلي بن جديد بإعلان الأحكام العرفية في 5 يونيو 1991. ونظمت بعدها انتخابات تشريعية في 26 ديسمبر 1991، فازت في جولتها الأولى الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ 188 مقعدا من أصل 232 بنسبة تمثل 82% من مقاعد البرلمان. غير أن الجيش رفض تطبيق نتائج الانتخابات ودفع الشاذلي بن جديد إلى حل البرلمان بموجب قرار رئاسي في 4 يناير 1992، وإرغامه على تقديم الاستقالة. واستعاض عن ذلك بتأسيس المجلس الأعلى للدولة (مؤسسة غير دستورية) عين على رأسه محمد بوضياف، بصلاحيات رئيس إلى جانب الجنرال خالد نزار (وزير الدفاع) وعلي كافي وعلي هارون والتيجاني هدام. وقد كان من نتائج هذا الانقلاب أن غرقت الجزائر في أزمة حادة وبدأ اللجوء المكثف إلى الاقتراض الأجنبي والاعتماد على المساعدات المالية الأجنبية التي بلغت 40 مليار دولار في عام 1994. كما غرقت البلاد في حرب أهلية دامية راح ضحيتها أزيد من 200 ألف معظمهم من المدنيين، وقد كان لهذه الحرب عواقب وخيمة على الجزائر وعلى بلدان المنطقة، حيث وظفت الأنظمة القمعية سيناريو الجزائر لتأبيد سيطرتها على الشعوب باسم مكافحة الإرهاب والتطرف الديني.
#محمد_بوطيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسؤوليتنا التاريخية المشتركة إزاء ندوة 23 مارس بمراكش
-
بيان السجين السياسي محمد بوطيب بمناسبة حلول الدكرى 36 لتاسيس
...
-
بيان من داخل السجن المدني بوجدة الذكرى 28 لاستشهاد الرفيقة س
...
-
بيان من داخل السجن المدني بوجدة
المزيد.....
-
تحليل لـCNN: كيف غيرت الأيام الـ7 الماضية حرب أوكرانيا؟
-
هل الدفاعات الجوية الغربية قادرة على مواجهة صاروخ أوريشنيك ا
...
-
كيف زادت ثروة إيلون ماسك -أغنى شخص في العالم- بفضل الانتخابا
...
-
غارة عنيفة تهز العاصمة بيروت
-
مراسلة RT: دوي انفجارت عنيفة تهز العاصمة بيروت جراء غارة إسر
...
-
عاجل .. صافرات الانذار تدوي في حيفا الآن وأنباء عن انفجارات
...
-
أوستن: القوات الكورية الشمالية في روسيا ستحارب -قريبا- ضد أو
...
-
ترامب يكشف أسماء جديدة رشحها لمناصب قيادية في إدارته المقبلة
...
-
البيت الأبيض يبحث مع شركات الاتصال الاختراق الصيني المشتبه ب
...
-
قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|