مشروع موقف سياسي مقترح صدوره عن اجتماع 16 شباط 2003
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تواجه البلدان العربية والشعوب العربية واقعاً خطيراً ومصيرياً كما اليوم، وتتآلف مجموعة من العوامل وأبرزها عاملان في رسم معالم المرحلة الخطرة التي نعيش:
أ?- السمة الإمبراطورية المتزايدة يوماً بعد يوم، والساعية لإخضاع العالم بكل الوسائل، وخاصة باستخدام ميزة تفوقها العسكري، حطت رحالها عندنا مجدداً، بعد أن كانت ضربت سابقاً مناطق وقارات متعددة من يوغوسلافيا إلى أفغانستان وقبلهما حرب الخليج الأولى والثانية، وها هي تعود لحسم وضع بلادنا بتنسيق بالغ الوضوح مع إسرائيل الساعية لحسم الوضع الفلسطيني وتثبيت دورها كشريك في ثرواتنا ورسم مستقبلنا كدول وشعوب عربية.
ب?- حال العجز الشاملة التي يعيشها الواقع العربي بعد أن استنفدت كل إمكاناته البشرية والاقتصادية والعسكرية نظم استبدادية جشعة، لم تر ولم تسع إلا لكيفية تأبيد سيطرتها واستئثارها بخيرات المجتمعات المخضعة بقوة الحديد والنار. مما جعل من بلداننا لقمة سائغة ومجتمعات مكشوفة وعاجزة عن مقاومة مخططات أميركا وإسرائيل. وهمُّ الأنظمة ذاتها اليوم لا يدعو بتاتاً كيفية حماية رأسها من السقوط بفعل التداعيات العاصفة القادمة وهي تسعى بشكل محموم لاسترضاء الإمبراطورية القادمة وبعيداً عن هموم ومصالح شعوبها ومصير شعب العراق، وما سيلاقيه من ويلات الحرب ومظالم الجوع والاضطهاد، وحتماً بعيداً عن هموم ومخاطر مصير الشعب الفلسطيني المهدد بوجوده المادي الشامل كنتيجة للمذبحة المستمرة منذ سنوات دون أي سند مادي أو سياسي عربي. ولن يكون مفاجئاً لأحد إقدام إسرائيل على خيارات دراماتيكية جذرية تطاول وجود ومصير الشعب الفلسطيني. ولقد وصل منسوب العجز العربي إلى حد فقدان القدرة على الحد الأدنى من المبادرة والممانعة، حتى أن نقطة الارتكاز التي شكلتها وإن شكلياً الجامعة العربية، تشهد اليوم انحلالاً تدريجياً لننتقل إلى بداية تشكيل منظومة أخرى تم تداولها قديماً، وخاصة من قبل بيريز – في أعقاب حرب الخليج الأولى في عهد رابين – عنينا المنظومة الشرق أوسطية. وهذا ما أظهره ورمز إليه اجتماع اسطنبول رغم وضوح القرار التركي المتحالف مع أميركا وفي ظل حضور إيراني مميز، ومن مخاطره أنه لربما شكل إطار الانخراط الإسرائيلي الشرق أوسطي.
أما عن لبنان فحدث ولا حرج. فالحكم يتصرف وكأنه غير معني بما يجري حوله من تطورات بالغة الخطورة. لقد أوكلوا للغير مصير لبنان ومصالحه العليا المتشابكة عضوياً مع التطورات الداهمة وكل السلوك الرسمي يؤشر على استهتار بمصالح البلاد يصل لحد عدم السعي حتى لمعرفة ما يدور حولنا، وأنّى لهم أن يتباحثوا بعد أن أفرغوا كل المؤسسات الشرعية من مضامينها ودخلوا دون حسيب أو رقيب في صراع قبلي مخزٍ لا هدف له سوى تقاسم البلاد أسلاباً ومناطق نفوذ مما دفع بها إلى مهاوي الفقر والإفلاس وبالتالي اليأس وتزايد الهجرة، ولأن المجتمع اللبناني قد شكل على الدوام صمام الأمان لمصير البلاد حتى في ظل غياب الدولة الشرعية وفي ظل المحن الكبرى، فللعجب فإن أهل الحكم الذين لم يجتمعوا على أمر، اجتمعوا على هدف خلخلة هذا المجتمع وحاكوا الخطط ووظفوا إمكانات الدولة المادية ومؤسساتها لتهديم هذا البنيان وشل حركته وضرب الحريات ودفعه للانقسامات والتهميش.
إننا لا نجد تفسيراً لكل هذه العدوانية لدى أهل الحكم تجاه المجتمع إلا لكونهم يدركون أنهم منصَّبون عليه ويخشون الحساب لذا اقتضى الأمر منهم إلغاء الشاهد وتعطيل قدرته على الممانعة والتغيير. لقد انعكست الأدوار بشكل واضح وفاضح حيث إن المعارضة في لبنان ونظراً لإدراكها خطورة التطورات تطالب يومياً بضرورة التحوط لاحتواء المضاعفات وذلك عبر حد أدنى من تكوين الرؤيا المشتركة وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال حوار جدي وهادف يؤدي إلى تماسك مجتمعي نسبي في وجه الأعاصير القادمة. وما يولد الأسف والغضب أن أركان الحكم ظلوا أسرى أحقادهم وسياساتهم الضيقة ولم يتحركوا لمقابلة هذه المبادرات المسؤولة لا بل أمعنوا في خياراتهم المدمرة، سواء تجاه المسألة الوطنية والسعي إلى الوفاق الوطني والتراجع عن سياسة خنق الحريات، لتمتين العامل الداخلي ولاتجاه الواقع الاقتصادي والمعيشي للناس حيث لا تزال الموازنات ومجمل السياسات الاقتصادية تضغط على واقع غالبية الشعب اللبناني متسببة بالضرائب وزيادة الديون والتي لا يعود مردودها للصالح العام، وإنما تذهب في خدمة قلة من النافذين سياسياً واقتصادياً خاصة في واقع إدارة فاسدة مستخدمة من أصحاب المحاصصات، وفي غياب هيبة القانون وشلل القضاء بفعل الضغوط السياسية.
لا نظننا نبالغ في رسم المشهد اللبناني في ظل الوضع المأساوي الذي يحيط بالمنطقة والذي ترك وسيترك بشكل أعمق بصماته على واقعنا المعاش. ولربما سيؤخذ علينا هذا التظهير المأساوي للواقع الحقيقي والباعث إلى نوع من اليأس. ولكننا نعتقد أن أول مستلزمات الخروج من مثل هذا الواقع هو إدراكه وإدراك مسبباته ودحض استيهامات الشعارات الرسمية ومقولاتها الببغائية الهادفة إلى تخدير الوعي وتشويهه وتشتيت صفوف الغالبية المتضررة من اللبنانيين لشل قدراتها وإرادتها على الممانعة والتغيير.
إن قوى الإصلاح والديمقراطية تدعو وتعمل لولادة يسار ديمقراطي يسعى إلى بلورة أوسع ائتلاف ديمقراطي واضح الأهداف والموقع، يحاول إعادة الاعتبار للقضايا الوطنية الأساسية ولتلازمها وترابطها فقط لأنها كذلك، فالظلم الاجتماعي والتخلف الإنمائي شديد الترابط بمصالح الطبقة المهيمنة على كل مقدرات البلاد، وقوة هذه الطبقة السياسية نابعة بشكل حاسم من قوى الهيمنة والوصاية. والمعارضة ليست مخيرة في مواجهة حلف الأمر الواقع المسيطر وسياساته المفروضة منذ عقد ونيف، ولن تتمكن من بناء ميزان قوى يعيد للمجتمع اللبناني حضوره وقدرته على الممانعة في وجه الاستباحة المتمادية إلا إذا امتلكت وضوح الموقع والبرنامج وقاومت كل الترغيب والترهيب.
من هذا المنطلق سعينا وسنضاعف مسعانا لنكون مكوناً من مكونات ائتلاف ديمقراطي يرى تلازماً وثيقاً بين القضية الوطنية وقضايا الحريات واستقلال القضاء والإصلاح السياسي والإداري والعدالة الاجتماعية. وإننا ننبه من أن كل مسعى يهدف إلى تفكيك وحدة البرنامج وفصله عن الموقع المعارض، لكل مكونات قوى الأمر الواقع، يصب في النهاية بإضعاف قوة المعارضة وبالتالي إضعاف قوة المجتمع على الممانعة والرفض.