|
الخطابة وما تفعله بالناس
هويدا طه
الحوار المتمدن-العدد: 1535 - 2006 / 4 / 29 - 11:57
المحور:
الصحافة والاعلام
تلك المناظرة التليفزيونية في نشرة الحصاد على قناة الجزيرة بين محمد نزال ممثلا لحركة حماس وياسر عبد ربه عن حركة فتح، ثم أحدث رسالة صوتية لأسامة بن لادن في ألبومه المستمر الذي يدأب على إصداره مسلسلا منذ سنوات- أيضا على قناة الجزيرة-، وكذلك كلمة حسن نصر الله زعيم حزب الله على قناة المنار وقنوات أخرى، ضف إليهم لقاءً(في حلقة أقدم) من برنامج الاتجاه المعاكس على قناة الجزيرة.. جمع بين الشيخ التميمي (مفتي من فلسطين) والدكتور مراد وهبه (فيلسوف من مصر).. أربع مشاهد فضائية أو قل أربع نماذج للخطب العصماء.. ربما لا يمكن أن تمر قبل أن تثير في نفس البعض بضع تساؤلات.. فأمام تلك الخطابة المفوهة وما تفعله بالناس ربما نتساءل.. ما الذي نحلم به بالضبط لبلادنا؟! هل هي النهضة؟ التقدم؟ الحرية؟ الاستنارة؟ إذن.. وإن كانت أحلام عادلة تحق لكل الشعوب التي تتمناها (من أجل الحياة)؟ فهل هي أحلام ممكنة لشعوب.. يتصدرها- رجال دين- يحذرون شعوبهم من حب الحياة؟! في الماضي لم يختلف العربي عن غيره من أبناء الأمم الأخرى في تأثره بسحر الخطابة.. الخطيب المفوه كان دائما يسحر الألباب ويسيطر على عقول عامة الناس- في كل الشعوب- ويوجههم أينما وكيفما أراد( ليست مبالغة إذن مقولة إن التاريخ صنعه في الغالب خطباء مفوهون حتى وإن كان بعضهم حمقى!).. ذلك في الماضي، الآن.. افترقت الطرق، دخلت أمم كثر عصر ما بعد الخطابة.. فلم يعد رنين الكلمات لديها بابا للتغيير والتطور ومفتاحا لحلول المشاكل.. بينما استمر العرب على ولائهم لسحر الحناجر.. حتى جاءت الفضائيات لتوسع دائرة المستمعين للخطب العصماء من عشرات أو مئات.. إلى ملايين.. كان جوستاف لوبون- وهو ألماني/نمساوي عاش في القرن التاسع عشر- قد ألف كتابه الشهير عن سيكولوجية السلطة وسيكولوجية الجماهير مقدما النصائح للقادة والملوك حول مسألة (الجماهير) وما تسببه لهم من صداع، قال فيه إن الجماهير عندما تصبح كتلة يمسك بتلابيبها خطيب.. فإن الفرد فيها يتحول إلى.. أذنين بينهما فراغ! فلا يحرك تلك الكتلة البشرية عقل وإنما تحركها الحناجر، بالطبع كان لوبون يقصد في كتابه الأمم الأوروبية قبل أن تتغير الأوضاع.. حيث لم يعد الخطباء يلقون اهتماما من الجماهير، قبل لوبون بمئات السنين كان ابن المقفع قد قدم نصائح مشابهة للخليفة في كتبه التي أشهرها (الآداب السلطانية، والأدب الكبير، والأدب الصغير).. الآن الأمم الأوروبية وكتلها الجماهيرية خرجت في أغلبها من مجال التأثر بسحر الحناجر إلى مجال التأثر بما يسمونه (الموضوعية ومعقولية الطرح وعلمية التصور للأشياء.. إلخ) فلم تعد تلك الجماهير تستسلم لخطيب وإنما تطلب دائما البرهان.. وبالتالي لم يعد بموسوع قادتها إهمالها إذ لم يعد ما بين آذان أفرادها ذاك الفراغ، أما العرب- قادة وجماهير- فما زال رنين كلمة معاوية (من اشتدت وطأته وجبت طاعته) تجرهم جرا، في القرن الخامس عشر كان هناك راهب مشهور في فلورنسا يدعى جوردانو.. كان يخطب في الناس بحرفية عالية محذرا من غضب المسيح عليهم إن هم اهتموا بالدنيا ونسوا حق المسيح عليهم.. (فمعظم الخطباء المؤثرين في التاريخ كانوا ينهلون من نبع الدين).. كان يخطب ويدمع ويبكي فيبكي الناس معه ليختتم خطبته بقوله (دعونا نحرق تلك الحانات.. دعونا نقتل خونة المسيح) فيسير وراءه الناس الدامعون الباكون ليحرقون الحانات ويقتلون المارة! هكذا يحذر بن لادن أمته من غضب الله فلا تمر أيام إلا وقد أحرق مريدوه الحافلات وفجروا الأسواق وأحشاء الناس شيوخا ونساء وأطفالا! في المناظرة بين نزال وعبد ربه في نشرة من نشرات الحصاد على قناة الجزيرة راح ممثل حركة حماس يصرخ بكلمات عربية سليمة مؤثرة وملوحا بيدي خطيب متمرس(أنتم تعيشون في منتجعات سويسرا بأموال الشعب الفلسطيني) ليرد عليه عبد ربه بهدوء المهزوم (لا تصور للناس أن حركة فتح كانت تملك مناجم ذهب قبل تسلمكم السلطة) لكن الصوت الأعلى كان للخطيب.. الخطبة العصماء كانت له.. فكان له الإعجاب، في كلمة حسن نصر الله التي نقلتها على الهواء قناة المنار وغيرها من القنوات كانت الجماهير صامتة مصغية وهو يخطب ملوحا بيديه.. حتى أنك لو ألقيت ورقة بينهم لربما سمعت على الأرض صوت خشاشها! ثم فجأة – وقد حفظوا أسلوبه المبين- عندما ينطق بعبارة تستحق ردا من الجمهور تجدهم في صوت واحد هادر ينطقون (آمين)! وفي حلقة من برنامج الاتجاه المعاكس كان موضوع النقاش مقاومة الاحتلال، راح الشيخ التميمي يصرخ " يا أيها العرب نحن في فلسطين نستصرخكم أن هبوا لنجدتنا"، كان المفتي الخطيب في مقابل الفيلسوف.. اكتسح المفتي النقاش! كيف إذن تحولت جماهير الراهب جوردانو من جماهير تقتل المارة انتصارا للمسيح إلى جماهير- الآن- تقذف زعيمها بالطماطم إن هو (زود العيار) في كلامه! أو لم (يقنعها) بدلائل وشواهد معقولة على ما يقول؟! بينما ما زال جمهور العرب يدمع بعد خطاب لبن لادن.. حتى أنه بعد أقل من يومين من خطابه الأخير أطل (الخبر العاجل) على الفضائيات: احترقت مدينة ذهب ومن فيها.. إثر تفجيرات يتهم فيها تنظيم القاعدة في سيناء المصرية؟! ربما عندما نتتبع هذين الخطين للجماهير الأوروبية أو الأمريكية والجماهير العربية.. لنتعرف على السبب الذي جعل الفرنسيين مثلا يبصقون على حكومتهم وزعمائهم طالبين منهم البرهان على صحة قانون أصدروه.. وعندما لم يقتنعوا أجبروهم على تغييره.. أو جعل الأمريكيين يسخرون من مقولات بوش التافهة عن (كلمة الله التي ينفذها).. بينما جعل العرب لا يستمعون إلا لبن لادن وحسن نصر الله ورجال الإفتاء وعمرو خالد وغيرهم من رجال الدين الذين يتوجهون إلى آذان العرب لا إلى عقولهم.. ربما ندرك أن الخط الفاصل هو في لحظة تاريخية فاصلة مر بها الآخرون ولم نمر بها نحن بعد.. لحظة (القطيعة) مع (تديين الحياة)، أحلام النهضة والتقدم إذن والتطور والاستنارة والحرية.. لا يقودها من يمجدون الموت.. هؤلاء لن يقدموا مشروعا للحياة.. ربما الأمم الأخرى صادفت في لحظتها التاريخية آخرين لا يقدمون (غذاء الأذن المبين) وإنما يقدمون الدليل والبرهان.. أما نحن فما زلنا في انتظار هؤلاء.. أو قل ما زالت الجماهير العربية (لم تطلب هي ذاتها البرهان) فما زالت تتلذذ برنين الكلمات المنهولة من نبع الدين حتى لو كانت على رقابها.. لم تأت بعد لحظة العرب التاريخية للقطيعة التامة مع الخطابة الدينية.. التي تلقى رواجا بين جماهير نفسية الفرد فيها دينية وعقليته دينية وروحه كارهة للحياة، وحتى تأتي تلك اللحظة.. ما زلنا في أسر مقولة معاوية"من اشتدت وطأته.. وجبت طاعته"
#هويدا_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جولة بالريموت كنترول 2
-
أنتجته مافيا الدين في مصر: مجتمع مختلٌ ثقافياً
-
بغداد ورام الله والقاهرة.. تعددت الأسباب والسقوط واحد
-
رحيل الماغوط: الحزن مثل الله موجود في كل مكان
-
جولة بالريموت كنترول
-
الحرية الإعلامية في العالم العربي.. حملٌ كاذب
-
حملة تليفزيونية للحث على القراءة
-
المرأة في الإعلام العربي: أمومة القطط وأنوثة صماء وروح غبية
...
-
وسامة صدام حسين
-
برنامج جيد في وسط إعلامي رديء
-
!الإعلام يكشف تناقضات المجتمع المصري: هي دي مصر
-
دور أقباط المهجر في التغيير
-
الانتخابات المصرية: أسلمة وبلطجة ورشاوى وتزوير.. حاجة تقرف
-
ثمن ظهور مثقف في التليفزيون المصري
-
إن شفت قاضي بينضرب وصندوق اقتراع في الترعة بينقلب: يبقى انت
...
-
يا فرعون إيه فرعنك.. ملقيتش حد يلمني
-
بعد المشهد الدموي في الأردن: هل تتغير عبارة(ما يسمى)بالإرهاب
...
-
التنوير بدلا من التحريض أو التخدير: BBC فضائية جديدة من
-
لا تبيعوا قناة السويس مرة أخرى
-
حتى لا تنحرف حركة كفاية عن طريق الأمل
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|