ميرفت فتحي المراغي
(Mervat Fathy Elmaraghy)
الحوار المتمدن-العدد: 6203 - 2019 / 4 / 17 - 02:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سلسلة حلقات عن الميثولوجيا -
الحلقة الثانية :
- ميثولوجيا و معتقدات ما قبل التاريخ :
تحدّثنا في مقدمة هذه السلسلة عن ماهيّة الميثولوجيا و أنها تُعنَى بدراسة علم الأسطورة ، و تعرّفنا معًا على أهميتها و نشأتها .. أما الآن فسنعرض لمعتقدات ما قبل التاريخ و سنلقي الضوء على الجانب الروحي لإنسان تلك الحِقبة .
بداية ً فعصور ما قبل التاريخ يُطلق عليها " العصور الحجرية " و هي العصور التي سبقت اختراع الكتابة و تُمثّل أغلب حياة الإنسان على الأرض و يسودها استخدام الأدوات الحجرية .
و تنقسم العصور الحجرية إلى عدة عصور و هي كالتالي :
1- العصر الحجري السحيق ( الإيوليت ) : و ليس لهذا العصر بداية محددة فهي مرتبطة بظهور الإنسان الذي أُطلق عليه " الإنسان القردي " و الذي كان مُلتصِقًا بالغابات و الحيوانات .
2- العصر الحجري القديم ( الباليوليت ) : و يمتد بين 500,000 سنة ق.م و حتى 12,000 سنة ق.م .. و هو العصر الذي ظهرت فيه ثلاثة أنواع من الإنسان هي ( المنتصب ، النياندرتال ، العاقل ) ..
و يُقسّمه العلماء إلى ثلاثة عصور هي :
أ- الباليوليت الأدنى (500,000 _ 100,000 سنة ق.م ).
ب- الباليوليت الأوسط (100,000 _ 40,000 سنة ق.م ).
جـ- الباليوليت الأعلى (40,000 _ 12,000 سنة ق.م ).
3- العصر الحجري الوسيط ( الميزوليت ) : 12,000 _ 8,000 سنة ق.م .
4- العصر الحجري الحديث ( النيوليت ) : 8,000 _ 5,000 سنة ق.م .
5- العصر الحجري المعدني ( الكالكوليت ) : 5,000 _ 3,000 سنة ق.م .
و هكذا فهذه هي تقسيمات عصور ما قبل التاريخ و الآن فلنتعرّف معًا من خلال السطور القادمة على ميثولوجيا و معتقدات إنسان تلك العصور ..
لم تظهر حياة روحية متطورة لدى إنسان العصر الحجري القديم ( الباليوليت ) و بالأخص في " الباليوليت الأدنى " و لكن يمكن القَوْل بأنه قد بزغت بوادرها الأولى و لاسيما بعد اكتشاف إنسان هذا العصر للنار و التي اعتبرها شيئًا مقدسًا نظرًا لقدرتها الغريبة و خصائصها المُتفرّدة و التي جعلت الإنسان يتأمّل صفاتها و آثارها و شكلها مما انعكس إيجابيًا على وعيه و من ثمّ على قوته الروحية ، فظهور النار كان عاملاً نوعيًا حرّك في الإنسان قواه الدينية المميزة لهذا العصر .
أما في عصر الباليوليت الأوسط فقد ظهر إنسان النياندرتال
و هو أقدم نوع بشري عُنِي بدفن موتاه في القبور كما دلّت الحفريات و اتّبع في ذلك تقاليد معينة مما يدل على تمتعه بحياة روحية دينية ، فقد عُثِر على مقابر في كهوف بجنوب فرنسا كان بها هياكل عظمية للنياندرتال و كانت في وضع الجثو ( أي وضع الجنين ) ، و إلى جانب هذه القبور وُجِدَت حفرة مليئة برماد و عظام ثور بري ، كما عُثِر على هياكل أخرى بعضها كان في وضعية الاستلقاء و بعضها كان في وضع جانبي مُتوسّدة ذراعها الأيمن و تحت الرأس كومة من شظايا الصوان و قُرب اليد وُضِع مقبض فأس حجرية و أصداف و بقايا عظام لحصان بري ، و كان اتجاه جل الهياكل العظمية وفق محور شرق غرب أي أن الرأس في اتجاه المشرق و العُقْب في اتجاه المغرب و في ذلك دلالة كبيرة على اعتقاد إنسان النياندرتال في البعث ففي توجيه رأس الميت نحو مشرق الشمس دلالة رمزية على البعث كحالة بعث الشمس و إشراقها .
كما عُثِر على أكبر تجمع للقبور النياندرتالية في فلسطين و كان وضع الهياكل بها شبيهًا لدرجة كبيرة إلى الوضع الذي ذكرناه أعلاه ، و كان مرفق مع بعض الهياكل هدايا جنائزية كعظم فك خنزير بري و اُحيطَت هياكل أخرى بقرون ماعز جبلي مغروسة في الأرض و لهذا دلالة , فقد كان إنسان النياندرتال ينظر للحيوانات على أنها رمز مقدّس كصلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوانات التى كانت مصدر غذائه و كذلك الحال مع الحيوانات الوحشية فقد نظر إليها برهبة و خوف و قدسية و من الشواهد على ذلك ما وُجِد في مغاور كهوف الألب من عدد من جماجم دِببة كانت محفوظة و مُرتّبة بطريقة خاصة و أُحيط بعضها بحجارات صغيرة و بعضها الآخر بألواح محجرية و خمسة جماجم لإنسان النياندرتال محفوظة مع عظام الساعد في جدار الكهف .
و قد أطلق الباحثون مصطلحات مثل " سيد الحيوانات " و " سيد الدببة " ليصفوا ذلك الفرد من أفراد القبيلة و الذي كان يظهر لهم على هيئة حيوانية لا بشرية ، و هو من كان يُمَكّن أفراد القبيلة من صيد الحيوانات و يسوقها إليهم ، لذلك يُرجح الباحثون أنه تم تقديسه و وصل الحال فيما بعد إلى حد عبادته و الصلاة إليه .
و كذلك في العراق عُثر على هياكل مُحاطة بأنواع معينة من البراعم و الأزهار و التي تَبَيّن أنها من النوع الذي يُستعمل اليوم لتحضير أنواع معينة من الأدوية و العقاقير .
و يرى بعض الباحثين أن إنسان النياندرتال كان له اعتقاد بالروح من طريقة معاملته للموتى فقد اُكتُشِفَ في كهف كرابينا بكرواتيا بقايا مُتكسّرة لأكثر من عشرة جماجم لإنسان النياندرتال و كان بعضها محروقًا و معه بقايا حيوانات وحشية مما يُشير إلى عادة أكل أدمغة الموتى فقد رأى إنسان النياندرتال أن الرأس هو مقر قوة وروح الفرد و أنه ربما إذا تناول دماغه فإن هذه القوة أو الروح ستنتقل له .
إذن قارئنا العزيز فإن كل هذه دلائل و شواهد هامة تشير إلى أن إنسان النياندرتال الذي عاش في عصر الباليوليت الأوسط كان يتمتع بحياة روحية دينية فلقد عُنِيَ بدفن مُقَدّسه معه و الذي يتمثّل في ( النار ، الحيوان ، الأدوات التي استخدمها ) لكي يحميه بعد الموت مما يَنُم عن اعتقاده باستمرار حياته بعد الموت و البعث و إقدامه على حياة مُقبلة ، فقيامه بشعائر دفن مُعينة يوحي و يدل على موقف أيديولوجي متماسك من مسألة الموت و اعتقاد واضح بأن الكائن الحي يتألّف من جسد مادي و روح و أن هذه الروح تفارق جسد الميت و تكتسب قوة غير عادية عند استقلالها قد تكون خيّرة أو شريرة و هذا ما يفسر دفن جثة الميت في وضع الجنين لأن هذا الوضع من شأنه منع الجسد من التمدُّد و الخروج إلى عالم الأحياء .
و كذلك دفن الأدوات التي كان يستخدمها النياندرتال في حياته يدل على اعتقاده بوجود حياة أخرى بعد الموت تشبه حياته التي عاشها إلى حد كبير .
و هكذا فقد تعرفنا سويًا على طبيعة الجانب الروحي و الديني لدى إنسان تلك العصور الحجرية القديمة ( الباليوليت الأدنى و الأوسط ) و رأينا كيف نشأ و نما لديه الحس الديني و تطوّر و عرضنا لأهم الشواهد و الدلائل التي وصلتنا من هذه العصور السحيقة ، أما عن ميثولوجيا و معتقدات إنسان عصر الباليوليت الأعلى ( الإنسان العاقل ) و بقية العصور الحجرية الأخرى فهذا ما سنتناوله ونعرضه في مقالتنا القادمة .. فإلى لقاء
#ميرفت_فتحي_المراغي (هاشتاغ)
Mervat_Fathy_Elmaraghy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟