|
صراع العقل واللاهوت 4
أيمن عبد الخالق
الحوار المتمدن-العدد: 6199 - 2019 / 4 / 12 - 14:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العقل واللاهوت ـ 4 " اعتبر بمن كان قبلك، ولاتكن عبرة لمن جاء بعدك"...أرسطو في المقالة السابقة أشرت إلى الصراع الكبير الذي دار في القرون الوسطى بين العقل والفلسفة من جهة، وبين اللاهوت الذي كانت تحمله المؤسسة الدينية الرسمية( الإكليروس) مدعومة من ملوك وأباطرة أوروبا من جهة أخرى، وقد اشتد هذا الصراع بعد ذلك مع منتصف القرن الثاني عشر. فبعد سقوط طليطلة في أسبانيا على يد الملك "الفونس"، بدأ يتدفق التراث العربي الإسلامي اليوناني الزاخر بعلمه وفلسفته العقلية على جامعات أوربا كباريس وأكسفورد وبادوا وكولونيا، ونشطت مراكز الترجمة في كل مكان، لتنقل هذا التراث العربي الإسلامي إلى اللغة اللاتينية وفي البداية انتقلت أفكار الفارابي وابن سينا العقلية الإلهية، حيث استغله بعض رجال الدين في البداية من أمثال البير الكبير وتلميذه توما الاكويني لتأسيس الاتجاه السكولائي الكلامي سعيا منهم لعقلنة الدين المسيحي وبعدها بعقود قليلة بدأت تدخل فلسفة ابن رشد العقلية الأرسطية، بأسلوبها العقلي العلمي المناوئ للاتجاه الديني الكلامي، ولرجال الدين، حيث وجد استقبالا كبيرا بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الغربية، وبدأ على إثرها تأسيس المدارس الأكاديمية التي تروج لهذه العقلانية الجديدة والمتحررة من المقولات الدينية الكلاسيكية التي كانت تروج لها مدارس الأديرة التابعة للكنيسة وعندها بدأت كنائس أوروبا تنتفض، وتدق ناقوس الخطرمن تنامي هذا الاتجاه العقلاني الجديد، والذي اعتبرته غزوا ثقافيا أجنبيا بامتياز، جاء من الشرق العربي الإسلامي لهدم الدين في الغرب المسيحي، وهو نفس ماحدث للعالم العربي الإسلامي بعد 8 قرون، حيث انقلبت المعادلة، وأصبح رجال الدين الإسلامي يحذرون من الغزو الثقافي الغربي على أي حال لم تقف الكنيسة موقف المتفرج من تنامي الاتجاه الرشدي العقلاني بين المثقفين وفي الجامعات الغربية التي كانت تحت إشراف الكنيسة، فبدأت تتوالى فتاوى التحذير التحريم والتكفير تباعا ففي عام 1210 أصدر المجمع الكنسي في فرنسا قرارا لاهوتيا بتحريم ترجمة وقراءة ونشركتب أرسطو في الطبيعيات وماوراء الطبيعة، وكتب شرّاحه في الحلقات العامة والخاصة وفي عام 1215 أصدر الكاردينال "روبير دو كورسون" في بريطانيا فتوى بتكفير جميع شراح كتب أرسطو، وفي مقدمتهم الفارابي وابن سينا وابن رشد، بوصفهم وثنيين ملعونين وفي عام 1228 حذر البابا "غرغوريوس" علماء الدين المسيحي من تنامي النزعة العقلية الفلسفية بين المؤمنين، واصفا إياها "بالبدع الدنيوية المستجدة"، وقائلا"لن يكون للإيمان اي قيمة إذا كان بحاجة للعقل البشري لمساعدته، الإيمان ينبغي أن يحصل بدون أي تدخل للعقل، فما هو نفع العقل وقيمته بالنسبة للإيمان الإلهي المتعالي" وهذا تعريض واضح بالاتجاه السكولائي الذي كان يسعى لعقلنة الدين المسيحي، فهو يرفض هنا استعمال العقل حتى للدفاع عن الدين، وهذا الاتجاه يماثل الاتجاه السلفي الحنبلي عند المسلمين، والذي بدأ يتنامى في العالم الإسلامي بعد وفاة ابن رشد، كما سيأتي لاحقا. ولم تمنع هذه الفتاوى من انتشار التيار الرشدى العقلاني في الجامعات والمجتمعات الغربية، فبدأ رجال الكنيسة يتخذون المزيد من الخطوات المتشددة لمحاصرة هذا الاتجاه الجديد ففي عام 1270 أصدر مطران باريس فتوى أخرى بتكفير أرسطو وجميع شراحه، وعلى رأسهم ابن رشد، ومنع أي نحو من البحوث الفلسفية في جامعة السربون، حيث تم إلغاء أكثر من 200 أطروحة دكتوراة في الفلسفة، وأضطهاد الكثير من أعضاء هيئة التحريرالموالين للاتجاه الرشدي الإصلاحي وإخراجهم من الجامعات، وقد استهزأ هذا المطران الكبير من كلام الفيلسوف ابن رشد قائلا" إنهم يقولون إنّ بعض الأشياء صحيحة طبقا لمعايير الفلسفة، ولكنها ليست صحيحة طبقا لمعايير الإيمان الكاثوليكي، فهل يعقل أن تكون هناك حقيقتان متضادتان، وهل يعقل أن تُكذّب حقيقة الكتابات المقدسة من قبل حقائق هؤلاء الوثنيين الذين لعنهم الله" وقد ازداد هذا الصراع بين العقل واللاهوت بعد سقوط القسطنطينية عاصمة الامبراطورية الرومانية الشرقية في منتصف القرن الخامس عشر، وهجرة العلماء والمفكرين اليونانيين والبزنطيين من الشرق إلى الغرب، واستقرارهم في جامعة فلورنسا بإيطاليا، لتدخل أوروبا بعدها في مايسمى بعصر النهضة أو الرينيسانس وبدأ مع مطلع القرن السادس عشر بوادر حركة الإصلاح الديني، التي هاجمت بشدة الأسلوب القمعي الذي انتهجه رجال الكنيسة في مواجهة خصومهم ومخالفيهم في الرأي. وكان على رأس هؤلاء المفكر الهولندي المسيحي الكبير"إيراسموس"، الذي ألّف كتابه المشهور "ثناء على الجنون" ، وهاجم فيه البابا جوليوس الذي مارس الإرهاب الفكري ضد مخالفيه قائلا "أليس من التناقض الحاد أن يكون خلفاء المسيح بابوات محاربين يقترفون المجازر، هل يعقل ذلك؟ أليس جنونا؟، إن طريقة هؤلاء البابوات في صيانة إرث المسيح لاعلاقة له بالانجيل، ماذا سيحصل لهم لو أنّ ذرة من العقل دخلت رؤوسهم، إنهم يدّعون حب المسيح، ثم يستخدمون الحديد والنارللحفاظ على مناصبهم، ويقطعون أعداءهم إربا إربا باسم الدفاع عن الكنيسة والعقيدة، حقا إنهم قد صلبوا المسيح مرة أخرى" ثم يقول في نفس الكتاب "ربما كان من الأفضل أن أتحدث عن اللاهوتيين، فهم عبارة عن جنس خاص من البشرحساس جدا، وسريع الانفعال والغضب، وإذا تحدثت عنهم فسوف يطلقون ضدي الفتاوى اللاهوتية الأكثر عنفا، ويسارعون باتهامي بالهرطقة والكفر، فهذا هو سلاح الردع الوحيد الذي يمتلكونه من أجل إرهاب كل من لايوافقهم الرأي" ويضيف قائلا" إنّ ذروة التقى والورع في نظرهم هو أن تكون جاهلا بشكل مطبق، وكلما زاد جهلك زاد إيمانك واقترابك من الله" في عام 1536 صدر أمر ملكي بمنع كتب "ايراسموس" أو ترجمتها ، وإحراق كل من ترجم كتبه، وتم اتهامه فعلا بالكفر والزندقة من قبل بابا باريس، وفي أسبانيا تم أحراق الكثير من تلامذته في محاكم التفتيش وقد ظهر بعده العالم الفيلسوف "برونو" في ايطاليا، وكان متأثرا بابن رشد وكوبرنيكوس، وسعى لنشر أفكاره العلمية العقلانية في كل مكان، مما استفز الكنيسة الرومانية، وحكمت عليه بالكفر والزندقة، مما أضطره إلى الهرب خارج إيطاليا، واستمر في طرح آرائه المخالفة للكنيسة، ولكن في نهاية الأمر تم استدراجه إلى روما، واعتقاله من قبل السلطات، لتحكم عليه محاكم التفتيش بالاعدام حرقا، ولم تشفع له نداءات وتوسلات المحافل العلمية في الغرب، وتم إحراقه في وسط ميدان روما الكبيرفي عام 1600، وكان لإحراقه حيًا صدى كبير ومزلزل بين أوساط الناس والمثقفين، حيث بدأت بعدها موازين اللعبة وقواعد الاشتباك تتغير تدريجيا لغير صالح الكنيسة ورجالها، ولتدخل أوروبا بعدها إلى عصر الحداثة في القرن السابع عشر، وهو عصر تطور العلم والفلسفة العقلية، واشتداد الصراع المرير بين العقل واللاهوت.
#أيمن_عبد_الخالق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صراع العقل واللاهوت 3
-
صراع العقل واللاهوت - 2
-
1. صراع العقل واللاهوت
-
مواجهة السياسة الرأسمالية للقضاء على الضمير الإنساني
-
المواجهة العقلية لسياسة التهديد الرأسمالية
-
سبل مواجهة سياسة التعقيد والتشكيك الفكري للرأسمالية
-
سبل مواجهة سياسة الإلهاء الرأسمالي - 2
-
سبل مواجهة سياسة الإلهاء الرأسمالي 1
-
لماذا تحارب الرأسمالية العقل الإنساني- 3
-
لماذا تحارب الرأسمالية العقل الإنساني 2
-
لماذا تحارب الرأسمالية العقل الإنساني 1
-
عقلنة النظام الاقتصادي
-
إصلاح نظام التعليم الديني
-
إصلاح النظام التعليمي الأكاديمي
-
مشكلات النظام التعليمي الأكاديمي
-
معركة -هوليوود- مع العقل الإنساني
-
الحرب الإعلامية على العقل الإنساني-5
-
الحرب الإعلامية على العقل الإنساني -4
-
الحرب الإعلامية على العقل الإنساني - 3
-
الحرب الإعلامية على العقل الإنساني - 2
المزيد.....
-
مصر.. كيف تأثرت القيمة السوقية لشركة حديد عز بعطل في مصنع؟..
...
-
تونس.. البرلمان يصادق على فصل يهم التونسيين المقيمين بالخارج
...
-
جميل ولكنه مؤذ.. مقتل 5 أشخاص إثر تساقط الثلوج في كوريا الجن
...
-
اعتذار متأخر: بوتين يعبّر عن أسفه لميركل بسبب حادثة الكلب
-
أردوغان: مبادرة بايدن الجديدة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة م
...
-
السودان.. وفاة 4 أشخاص جوعا في غرب أم درمان
-
سحب ملحق إلكتروني لـ-ساعة آبل- من الأسواق بعد اكتشاف عيب خطي
...
-
المغرب - إسبانيا: تفكيك شبكة لتهريب المخدرات من المغرب بطائر
...
-
قاذفات بي-52 الأمريكية الضخمة تحاكي قصف أهداف معادية في المغ
...
-
تونس: قيس سعيّد يشدد على أهمية إيجاد نظام قانوني جديد لتحفيز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|