|
الجبهة الشّعبيّة إلى أين؟
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 6182 - 2019 / 3 / 24 - 12:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
خلال الأيام الأخيرة تابعت تصريحات عدد من قيادات الجبهة الشعبية بخصوص الخلاف الحاصل حول "كيفية اختيار مرشحها للرئاسة". استمعت بانتباه إلى تصريحات الرفاق: الجيلاني، سيد أحمد، أيمن، زهير، زياد. وقرأت مئات التعاليق من أنصار الجبهة ومناضليها، وحتى من خارجها. وأريد، تفاعلا مع مجمل المواقف، أن أقدم الملاحظات الثلاث التالية: - في الموقف من علنية الخلاف. - في جوهر الخلاف ومفهوم الحزب الديمقراطي. - حول آفاق الجبهة ومستقبلها.
أ/ - في الموقف من علنية الخلاف. -------------------------------- إن الناس في تونس كما في بقية البلدان العربية التي حكمها الآستبداد لقرون طويلة، لم يتعودوا على الآطلاع عما يجري داخل الأحزاب من خلافات ومشاكل بلغت أحيانا التصفيات الجسدية والقتل والإخفاء القسري ... وغيرها من الجرائم البشعة. وهذا يعود إلى سببين رئيسيين: الأول كون أحزاب الرجعية الحاكمة كانت على الدوام عبارة عن تضامنات مافيوزية تتحكم برقاب شعوبها بالحديد والنار وتنهب خيرات بلدانها بلا رحمة ولا شفقة. وهذا ما جعلها تنتج مبدأ "تجريم إفشاء مشاكل الحزب الداخلية". والسبب الثاني، ويتصل باعتماد أحزاب المعارضة لنفس المبدأ، لأن كل الأحزاب المعارضة كانت تعيش في السرية وتحت الأرض، ومن هنا فرض عليها هذا المبدأ فرضا تفاديا لبطش نظم الحكم التي اتخذت من عملية سحق المعارضات واجتثاثها العنوان الأول في فلسفة حكمها.
وبناء عليه، وفي هذا المناخ السياسي الذي افتكه التوانسة بالثورة، فإن شيطنة التصريح للرأي العام بوجود خلافات كانت قد نشأت بين قيادات الجبهة الشعبية حول قضايا عامة مثل "مرشحها للرئاسة"، والتنديد به واعتباره جرما يصبح لا معنى له، سوى أن عملية التجريم تنتمي إلى عهود السرية والآستبداد. وخلافا لما يرى البعض، أعتقد أن الخلافات داخل الجبهة تدل على أنها جسم سياسي حي، فيه نقاش وفيه وجهات نظر مختلفة، وبرغم وحدته حول الخيارات الوطنية الكبرى، تشقه تناقضات ثانوية تظهر بين الحين والآخر، وتحسم تارة بالإقناع، وبالصمت أحيانا، وبالتجاوز في مرات أخرى ... وهكذا. وأن يعرف الشعب التونسي ماذا يجري في جبهة تسمي نفسها باسمه، وتعتبر نفسها نابعة منه وحاملة لقضيته، فهذا دليل على أن هولاء الناس القائمين على الجبهة ليس لهم ما يخفون عن الناس. فلا هم لصوص كما هو حال قيادات أحزاب أخرى، ولا هم مهربين، ولا هم يمتلكون أي شيء سري. وبهذا المعنى على الحاقدين على الجبهة من خارجها أن يهتموا بما يجري في الغرف المظلمة التي تقود أحزابهم، أجدى لهم من الآهتمام بمشاكل الجبهة العادية والتي نرى مثلها في كل الأحزاب العصرية في أعرق الديمقراطيات. وفي نفس السياق نذكر مناضلي الجبهة وأنصارها الذين انساقوا في موجة الآستغراب والازدراء من خروج خلافات الجبهة للعلن وأمام الشعب أن يفتخروا بذلك. وأن يتأكدوا أن أكثر الأحزاب تسترا على مشاكلها الداخلية هي أحذاب لصوص مملوءة بالجرائم والحيل على الشعب.
ب- في جوهر الخلاف ومفهوم الحزب الديمقراطي. ------------------------------------------------ إن ما طفا على السطح من خلاف داخل المجلس المركزي للجبهة، واحتد حتى وصل إلى الإعلام، هو غلاف الخلاف الخارجي وليس عمقه وجوهره. ولقد جلب انتباهي مستوى التصريحات التي وردت على ألسنة مسؤولي الجبهة المذكورين أعلاه، حيث كانت جميعها تصريحات مهذبة ونظيفة إلى أبعد الحدود. فلم نسمع تجريما ولا تخوينا ولا أي شيء من العبارات المعيبة. ولعل ذلك يعكس حقيقة الخلاف الذي يتعدى الانتصار لأحد المرشحين، ويمس قضية أخرى أكثر تعقيدا، ألا وهي مكانة الممارسة الديمقراطية في المشروع الوطني، وعلى الأرجح انعدام تفاهم قادة الجبهة حول مضمونها ومعناها وابعادها في علاقة ببناء الدولة الديمقراطية.
في حقيقة الأمر "الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب" مسألة كبرى تحتاج دراسة معمقة، وتحتاج تفاهما تونسيا واسعا حولها، وليس فقط جبهاويا. لأنه دون هذا التفاهم الوطني الواسع يصعب نمو فكر ديمقراطي غير إقصائي في المجتمع. ولأن الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب هي من المُقدمات الضرورية لإصلاح ديمقراطي يسمح بقيام تحركات جماهيرية سلمية ناجحة من أجل فرض نظام حكم ديمقراطي. وهي أحد التحديات الكبرى لاستقرار ذلك النظام الذي قامت الثورة من أجل تحقيقه. أليس الإسم الكامل للجبهة هو : الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة"؟
في هذا السياق يتعين على كل منتسبي الجبهة بلا استثناء أن ينتبهوا إلى ضرورة انتقال مكونات الجبهة الشعبية من مرحلة التبشير بالديمقراطية خلال حقبة الآستبداد، إلى ممارساتها بالفعل وعلى الأرض في صفوفها، استعدادا للمساهمة الفعالة في إصلاح ديمقراطي جذري يشمل الدولة والمجتمع على كل المستويات. ويتعين علينا جميعا أن نراجع مفاهيمنا للديمقراطية، ودرجة ايماننا بها، ونحن القادمين من مدارس فكرية مختلفة، بحيث كل مدرسة أنتجت مفهوما للديمقراطية على قياس نظام الحكم الذي سيطر تاريخيا على تلك المدرسة، وبنى شرعية استمراره على ذلك المفهوم، وروج له وفرض على الناس أن تعبده كوثن صنعه بيده. بمعنى أن مكونات الجبهة الشعبية اليوم أمام مواجهة أخلاقية مع نفسها، تقتضي درجة من الجرأة الفكرية تمكنها من تحطيم تلك "الممارسات الوثنية" داخل أحزابها لتبني مع بعضها البعض مفهوما وطنيا لممارسة ديمقراطية مبنيا على المحددات والمعايير الحديثة. إن الحزب الديمقراطي يكتسب صفة الديمقراطية عندما يبني لنفسه منظومة كاملة ومتكاملة، تتضمن مبادئ ومؤسسات وآليات تضبط عملية تحديد خيارات الحزب وتوجهاته. وتضبط كيفية اتخاذ القرارات العامة. وتلتزم بالتداول على المسوولية بشكل دوري. وفي كل هذه الأمور تؤكد على حق وواجب مشاركة المنتمين للحزب بتنفيذها. ومهما اتسع الحزب أو ضاق فإن مشاركة كل منخرطيه في صنع القرار السياسي العام، إنما هو شرط أصلي لا يقبل المساومة لكي يتمتع الحزب بالصفة الديمقراطية. وكون سلطة الحزب تنبثق من داخله، وكون أعضائه هم مصدر السلطات فيه، هي أقوى الضمانات للممارسة الديمقراطية داخل الدولة عندما يصل ذلك الحزب إلى سدة الحكم. وليس من الصعب أن ندرك منذ البداية أن الحزب الذي لا يؤسس على مبدأ المساواة بين المواطنين، ولا يمارس أعضاءه الديمقراطية داخله قبل الوصول إلى الحكم، يستحيل عليه ممارسة الديمقراطية في الدولة حين يصل إلى الحكم.
وهنا سأتعمد ذكر مقومات إدارة الأحزاب الديمقراطية وشروطها، لنفهم على الفور التشابه الكبير بين هذه الشروط ومقومات الحكم الديمقراطي: * سلطة تحديد خيارات الحزب واتخاذ قراراته حق جميع أعضائه. * لا سيادة على أعضاء الحزب من قبل فرد أو قلة أو مؤسسة لكونهم أفرادا كاملي الحرية. * العضوية هي وحدها أساس الواجب ومصدر الحق الحزبي. * العضوية في الحزب مفتوحة لجميع المواطنين دون إقصاء أو تمييز من حيث الجنس أو العرق والدين والمذهب، بحيث هي حق لكل من اكتسب صفة المواطن في الدولة. * يحتكم أعضاء الحزب في علاقاتهم الداخلية إلى شرعية نظام أساسي. * تنتخب قيادة الحزب في مؤتمره العام انتخابًا دوريًا حرًا ونزيهًا. * ضمان حرية التعبير في الحزب وإتاحة الفرصة لنمو التيارات الفكرية التي تسمح بالتعدد في إطار الوحدة.
وكما نلاحظ، هنالك تشابه كبير بين حقوق المنتسبين للحزب و واجباتهم وبين حقوق المواطنين و واجباتهم في ظل النظام الديمقراطي. وهذا يعني أن قيادة الجبهة عليها واجب تاريخي وأخلاقي أن تعطي المثال للتوانسة في ممارسة الديمقراطية حتى تساعدهم على الخروج من ثقافة التبعية لنظام الحكم والموالاة لأحزاب السلطة الرجعية التي كانت ولازالت تصنفهم إما "موالين" أو "خونة" إلى ثقافة المواطنة وثقافة واجب المشاركة في صنع مصير بلادهم، وواجب المطالبة بحقوقهم ... إلخ
في هذا الإطار العام، وفي ظل الضعف التنظيمي للجبهة وغياب الموسسات رغم مرور حوالي سبع سنوات على تأسيسها، وبسبب تراجع ثقلها الجماهيري الناجم عن غياب الإرادة القوية لتطوير الجبهة، نشأت بوادر إحتجاج داخلها تطالب بتغيير اليات أخذ القرار بما يفتح الباب أمام "الممارسة الديمقراطية" -كما سبق وعرفناها في هذه الورقة- ريثما يتمكن أغلبية الجبهاويين الغاضبين على حال جبهتهم من فرض توحيدها وتطويرها. وكلنا يذكر المبادرات المتجهة في هذا الاتجاة والتي رافقت الجبهة منذ تأسيسها. وكان موضوع "كيفية اختيار مرشح الجبهة للرئاسة" مناسبة لتفجير هذه المسألة أكثر منه دفاعا عن ترشيح أحد الرفيقين.
ج - في مستقبل الجبهة. ---------------------- بهذا الخصوص أعترف بأني كنت اتخذت قرارا منذ مدة بالتزام النقد المستمر لقيادة الجبهة بلا هوادة، لاعتقادي أن النقد وحده قادر على إصلاح الجبهة وتطويرها حتى تكون في مستوى التحديات الكبرى التي تواجه البلاد. ولاعتقادي أيضا أنها -فيما لو توفرت الإرادة الوطنية القوية-، هي الطرف السياسي الرئيسي القادر على بناء البلاد على أسس وطنية ديمقراطية، وتوحيد شعبها، واخراجها من حالة الانسداد التاريخي الذي طال. من هذا المنطلق، لم أتوقف عن توجيه النقد القاسي لقادة الجبهة بلا أستثناء، وربما لرفيقي وصديقي زياد لخضر أكثر من الآخرين. ولم أكن الوحيد الذي نحا هذا المنحى، بل هنالك عشرات من المناضلين الذين اسهموا في ولادة تيار نقدي قوي لم يكف عن النمو، في أوساط المثقفين وحتى الشخصيات الجبهاوية الاعتبارية. وعلى قاعدة هذا التيار سوف تتبلور مطالب مستمرة في الاصلاح. وسيزداد الضغط في هذا الاتجاة. ولي يقين أن تطور الجبهة و وحدتها أمر آت لا ريب فيه. وأن هذه الخلافات الحادة التي تنشأ من حين إلى آخر، إلى درجة الآعتقاد بأن نهاية الجبهة اقتربت، ليست إلا مخاضا عسيرا وتمرينا على التحول العميق إلى جبهة سياسية ذات مكانة رئيسية في تونس. ولقد عزز هذه الضرورة تدهور الأوضاع الاجتماعية، وتراجع النمو الاقتصادي، وما رافقه من تفاقم الفقر وتزايد معدل البطالة، وتدهور عمل الإدارة ومستوى التعليم، والآنهيار الأخلاقي، وتوتر العلاقات الاجتماعية. كل هذه الأمور الخطيرة، ستدفع مطالب إصلاح الجبهة إلى مقدمة أولويات قيادتها، وستجذب إليها باستمرار أعدادا متزايدة من الرأي العام الجبهوي و الوطني. ثم إن قيادة الجبهة نفسها، يتأكد لديها كل يوم الارتباط الوثيق بين طبيعة النظام السياسي القائم، هذا النظام القائم على المحاصصة ومركزة المصالح الضيقة بيد لوبيات الحكم، وسوء الأداء الاقتصادي والاجتماعي. مما سيدفعها بشكل متزايد، إلى ربط إصلاح الجبهة، بتوسيع فرص إصلاح وضع البلاد بصفة عامة. وستجعل من الديمقراطية شعارها المركزي، بعد أن لمست بالتجربة التكاليف الباهظة لسياسة الفرقة والمحاصصة والتشرذم وانعكاساتها على مكانة الجبهة في المجتمع، في مقابل عودة القوى الرجعية لتملأ هذا الفراغ.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى نساء تونس، أنتن الوطن؛ وإني مهزوم أمامك يا وطني، فانتصر.
...
-
النّخبة السياسية التونسية تحتاج بوصلة وطنية وإعادة تأهيل ديم
...
-
نخبة جائعة ضد الوطن والشعب !
-
كل الجهود من أجل حزب الجبهة الشعبية الموحد!
-
حول مبادرة: -المؤتمر الوطني الأول للجبهة الشعبية-
-
اليسار التونسي وجذور الفشل
-
تونس تحتاج تفاهم أبنائها حول قضايا الإجماع الداخلي.
-
ثقافة الإستبداد وعوائق إصلاح الجبهة الشعبية
-
النخبة السياسية التونسية: ثنائية الطمع والجهل..
-
خائف عليها من الحمقى!
-
التدين الماركسي
-
الإسلام ومأساة العقل
-
بين دولة الاستقلال والكيان الاعتباطي
-
رسالة إلى شباب تونس بشأن دروس المصالحة الوطنية بجنوب إفريقيا
...
-
حول طبيعة الثورات ومآلاتها
-
تجدد النظام القديم وتعمق أزمة تونس.
-
الجمود العقائدي والحرب على التقدم.
-
حين يستولي الفساد على السّلطة
-
نُخب الاستبداد ومستقبل الديمقراطية
-
الإسلام السّياسي إعاقة حضارية.
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|