|
نسبية القيم: بين المجتمعات وبين الأديان وفي العلوم
عبد الكامل نينة
(Abdelkamel Nina)
الحوار المتمدن-العدد: 6172 - 2019 / 3 / 14 - 06:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
واقع الأمر ان فكرة النسبية إعتمدت بشكل جوهري على إطلاقيه النسبية ونسبية الإطلاقية وشكلت بذلك المدخل لمجملة القواعد المولدة من رحمها.(1) ففكرة النسبية هنا تنطلق من كون ان القيم بمختلف تجلياتها، لن تكون قيم مطلقة في إستخداماتها، فحتى القيم التي تبدو ثابتة لا جدال فيها كقيم الخير والشر، فهي متغيرة، نعم تتغير حسب الحال وحسب الظرف، وحسب الأشخاص، بل وتتغير هذه القيم حتى بمرور الزمن، فما هو خير بالنسبة لفرد متدين، قد يكون ليس كذلك لمن هو غير متدين، وقد يبدو ليس خيرا بالنسبة لمعتنق دين آخر. 1- نسبية القيمة بين الأديان: مثلا في الدين المسيحي يوجد تعليمة يشتهر بها المتدين المسيحي وهي التسامح، الذي يتجلى في عدم رد الإعتداء، بل وان رد الاعتداء لا يعتبر فعل خير، حيث تقول هذه التعليمة، "إذا اعتدى عليك فردا، أعطه خدك ليعتدي عليك مرة ثانية"، وهذا قمة الخير والتسامح حسب الدين المسيحي، بينما في الدين الإسلامي فالمسألة تختلف تماما، فقيمة الخير لا تنحصر في عدم رد الاعتداء، وان كان "عدم رد الاعتداء" قيمة خير إسلامية تتجلى في الإحسان، إلا ان رد العنف بنفس القدر هو كذلك خير، وهذا الأمر الذي يختلف عن الديني المسيحي الذي يرى في رد العنف شرا. أيضا إذا سلطنا الضوء على مسألة الزواج، وتعاليمه وتطبيقاته واختلافاتها بين الأديان، لاتضحت نسبية القيمة بشكل واضح وجلي، حيث المعروف ان في الدين الإسلامي، والذي يعتبر ختام الرسالات، فصل تحريم نكاح المحارم في قوله تعالى في سورة النساء: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [22] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلْأَخِ وَبَنَاتُ ٱلْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَٰئِبُكُمُ ٱلَّٰتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ ٱلَّٰتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ ٱلْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [23] } (2) من خلال الآيتين 22و23 من سورة النساء، يتضح ان من الخطأ التعدي على حدود الله المذكورة بالآيتين، وكما هو متفق عليه التعدي على حدود الله في الشريعة الإسلامية، لا يعد خطأ فقط، انما يعد حراما وشرا. أي مخالفا للقيم الحميدة. كما ان هذه الرسالة الأخيرة جائت بتفصيل أكثر عما سبقها من رسالات، حيث قيدت الانسان اكثر، او بصفة اكثر دقة، نظمت الحياة الاجتماعية اكثر من سابقتها من الرسالات، فمعنت على الانسان ان يتزوج اخته، وأمه، وعمته، وخالته ...إلخ كما جاء في الآيتين، هذا الامر الذي يغيب في الرسالات السابقة، ففي اليهودية نكاح الأقارب لا يعد نكاح محارم، ولا يعتبر اعتداء على القيم الدينية او الإنسانية حتى، فتجد الرجل له الحق في نكاح عمته، هذا الامر الذي يستغربه، بل يرفضه العقل الإسلامي لمجرد نطقه، فهو لا يعد حراما فقط، انما يعد عمل خالي من القيمة، بل ومعاكس لها تماما، لذلك فالقيمة تختلف من دين لدين، حسب تعاليم هذا الدين او ذلك، وهذا المعتقد او ذاك، وهذه الأمثلة لا تتعدى قطرة من فيض، بالنسبة لنسبية القيمة بين الأديان.
2- نسبية القيمة بين المجتمعات: كما هو الحال في النسبية بين الأديان، فالنسبية حتمية بين المجتمعات، حيث كل مجتمع وقيمه التي يخضع لها، فمثلا في المجتمع البدوي، تعارف الناس على لباس معين، الحديث هنا عن ذلك النسق من اللباس الذي لا يكاد يتغير طيلة فصول السنة، في مقابل ذلك فإنسان المدينة، لباسه متغير بإستمرار، فكل يوم تقريبا تجده في حلة جديدة، هنا بالتحديد يقع الاختلاف، ومكمن نسبية القيمة في أعتقاد كل من البدوي والمتحضر في رؤيتهما للآخر، فالبدوي يرى المتحضر مبذر او متفاخر، اما المتحضر فيرى البدوي متخلف منغلق على نفسه ولا يرى الحياة جيدا، فلكل قيمه التي يرى ويحكم بها على الحياة وعلى الآخر، من هنا تتجلى نسبية القيمة بين المجتمعات، فكل مجتمع له قيم خاضع لها، يحكم بها على تصرفات تخالف قيم مجتمعه انها خاطئة. 3- نسبية القيمة في العلوم: ربما نسبية القيمة في العلوم غير واضحة كما هو الحال في القيمة بين الأديان والمجتمعات، لكن اذا جعلت العلوم على اختلافها، وحدات لكل وحدة قيمها التي تحكمها، هناك تبدأ نسبية القيمة في الظهور، فالقيمة التي تحكم المجال الطبي، ليست القيمة التي تحكم المجال الفيزيائي، ولست نفسها التي تحكم الرياضيات، او الكيمياء، او الهندسة، فلكل معاييره وقيمه التي يخضع لها، هنا الحديث بالتحديد عن قيم الصحة والخطأ، فالطبيب يرى العالم من خلال ما لديه من معرفة، كذلك الفيزيائي، وكذا الرياضي، والمهندس، وغيره. السؤال المطروح من منهم لديه الرؤية النموذجية للعالم؟ من لديه الرؤية التي نستخلص منها القيم الحقة والتي يجب ان نسير وفقها؟ فالفيزيائي يرى الكون معادلات، والرياضي يراه أرقاما، والهندسي يراها بناء، والطبيب يراه عضوي، كل وريته الخاصة، كما ان الكل يعتبر رؤية غيره للعالم قاصرة، وخاطئة، فهل يوجد من بينهم صحيح على الأقل، ام ان الصحة يتقاسمونها؟ تساؤلات لا إجابة لها في الفكر التبسيطي، يجيب عليها ادغار موران من خلال منظومة التركيب والتعقيد، وهذا الذي سيعالجه الفصل التالي من البحث. أما الآن الواضح والجلي ان نسبية القيمة تحتل جميع المجالات دون استثناء، اجتماعية، دينية، علمية، كما توضحه العناصر السابقة، وكذلك تمس النسبية المجالات السياسية، واقتصادية وغيرها.
أو الأفراد والمجتمعات والأعراف، حيث لا يختلف إثنين ان ما هو خير في عرف هذا المجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، ويعود الأمر بدرجة أولى إلى اختلاف معايير القيمة، والقيم الأخلاقية بالتحديد. كما ان القيم الأخلاقية غير القيم السياسية، لكل منطقها الخاص، حيث ان القيم السياسية خاضعة لعوامل برجماتية أو واقعية، فالقيم الأخلاقية المشتهرة بالإطلاق ليست في النهاية عصية على الاعتبارات النسبية، بل هي محكومة بها. (3) أي ان ما يعرف بالقيم الثابتة لا يتعدى كونه كلام نظري إذا سلط الضوء على ما هو واقعي، فبمجرد اختلاف الأيديولوجيا تختلف القيمة، وبمجرد التنقل بين مجالات الحياة، من سياسة إلى اقتصاد، من دين إلى فن، من فلسفة إلى علم، تختلف القيم جذريا بين هذا المجال وذلك، فالقيم تحكمها النسبية المطلقة، فما هو ثابت ينحصر فيما هو نظري لجهة ما، بينما الواقع يزيح تلك الستائر التي تخفي خلفها نسبية استخدام القيم في حياة الإنسان. فهل تعدو نسبية القيمة خطأ يهدد البشرية؟ أم ان الخطأ هو اعتقاد الإنسان بوجود قيم مطلقة يحتكرها لنفسه، متجها بذلك إلى إقصاء الآخر، الذي يراه منزوع القيم التي يتبناها، معتبرا إياها نموذج قيمي مطلق.
__________ المراجع : 1 - نادية محمود مصطفى وآخرون، العلاقات الدولية في الإسلام الجزء الثاني، مدخل القيم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1، 1999، ص 20. 2 - سورة النساء: الآيات 22-23. 3 - نادية محمود مصطفى وآخرون: العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سابق، ص 21.
#عبد_الكامل_نينة (هاشتاغ)
Abdelkamel_Nina#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أسباب الكآبة، إدمانك وحبك للحزن والألم!
-
شعب الإسلام مؤمن وفي العروبة مغتصب
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|