|
هنا أسيوط … والذي مصرُ تعيشُ فيه
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 6170 - 2019 / 3 / 12 - 20:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
فاطمة ناعوت Facebook: @NaootOfficial Twitter: @FatimaNaoot
زيارتي الخاطفةُ/الطويلةُ لمدينة أسيوط، كانت إحدى أجمل الرحلات التي قمتُ بها في حياتي. "خاطفةٌ"؛ إذْ لم أكد أشعرُ بمرورها، حتى انتهت، من فرط قِصَرها، و"طويلةٌ"؛ إذْ لا تقدرُ الأيامُ على محو أثرها من نفسي؛ مهما مرّتِ السنوات. يومان وحسب! نحيلانِ على مقياس الزمن، هائلانِ على مقياس الأثر والمعرفة والدفء الإنساني الآسر. هي المدينةُ التي وضعها أجدادُنا المصريون القدامى، "السلفُ الصالحُ" كما يروق لي أن أُطلقَ عليهم، في مرتبةٍ فائقة من بين مدن مصر الشريفة، لكونها قلبَ مصر الجغرافي، والمركزَ الرئيسي للقوافل التجارية المتجهة شرقًا وغربًا، ولهذا كان يسكنُها نائبُ الملك. أطلقَ عليها الجدُّ المصريُّ اسم: "سَوْت"، وتعني بالمصرية القديمة: “حارس"؛ لأنها حارسةُ حدود مصر العليا حيث صعيد مصر الجميل. ولأنها كانت الصخرةَ المنيعة التي ساندت مدينة "طِيِبة" في نضالها الباسل ضد الهكسوس الغُزاة، الذين دحرتهم مصرُ وطردتهم من أرضنا المباركة، لتتكوّن أقدمُ إمبراطورية عرفها العالمُ، ثم تحّول اسمُها في اللغة القبطية إلى "أسيوط"، كما نعرفُها اليوم. أسيوط قلبُ مصرَ النابضُ بالثقافة والحياة والأثر الطيب، تضمُّ بين ثناياها عشرات المناطق السياحية الفرعونية والقبطية والإسلامية، أهمُّها "الدير المحرّق"، الذي سكنته السيدةُ العذراء مريمُ البتول المطهّرة مع طفلها السيد المسيح عليهما السلام، شهورًا طوالا، ومنها دير السيدة العذراء في درنكة، ومسجد "الفرغل" في أبو تيج، والمسجد الأموي وغيرها، عدا الآثار الفرعونية الخالدة. وكانت واحدة من أجمل المِنح الطيبة التي مُنحتُها في حياتي، لقائي بالمفكر المصري الجليل: "باقي صدقة" في أسيوط البهية. وبالرغم من كونه قِسًّا إنجيليًّا كبيرًا وشهيرًا، إلا أنني أميلُ إلى التصنيف الفكري والإنساني، أكثر مما أميلُ إلى التصنيف العَقَدي والطائفي. فللإنسانية مِظلّةٌ أشملُ وأرحبُ من مظلات العقائد، وللفكر ساحةٌ تُجمِّعُ الفرقاء، وعينٌ ثاقبةٌ أكثرُ موضوعيةً؛ لأنها ترى جمالَ الإنسان وعبقريةَ خَلقه مهما كانت عقيدتُه ومذهبُه وإيمانُه. لهذا أُلقِّبُه بالمفكر الوطني، والأستاذ الجليل، الذي خرجت من تحت يديه أجيالٌ من الوطنين الشرفاء الذين علَّمهم قيمة "مصر" الوطن، وقيمة "الإنسان" الذي يُحبُّ الوطنَ، ويفتديه بكل ثمين وغال. بدأت علاقتي بهذا الرجل الجليل منذ سنوات طوال. يهاتفني مرةً في الأسبوع، ثم يُعلِّق، بصوته الأسر المميز، على مقالاتي في ذلك الأسبوع بجريدتي الحبيبة "المصري اليوم"، ويشدُّ على كفيّ مؤاذرًا في المحن التي أتعرّضُ لها بين الحين والحين من الدوجمائيين الإقصائيين أعداء الحياة. في عهد الإخوان التعس، كان يطمئنني ويهدئ من وجلي قائلا: “مصرُنا ستعود لنا. فلا تخافي. فهي محميةٌ بأمر الله في الإنجيل وفي القرآن.” وبعد ثورة 30 يونيو 2013 حين طردنا الإخوانَ الغزاةَ، كما طرد سلفُنا الصالحُ، الجدُّ المصريُّ القديم" الهكسوسَ الغزاةَ، وقتها تغيرت عبارتُه إلى: “مصرُنا عادت إلى مصرِنا.” هذا الرجلُ النبيلُ، الذي مصرُ تعيشُ فيه، فريدٌ لا أحدَ يشبهه. إنْ طابَ لك الحظُّ والتقيتَه، ستعرفُ أنك في حضرة إنسان عزَّ نظيرُه، نسجٌ وحده. إن تكلّم، تمنيتَ أن يتوقّف الزمانُ ولا يمرَّ حتى لا يُنهي حديثَه. وإن صمتَ ليُفكّرَ؛ تمنيتَ أن تركضَ الدقائقُ سريعًا حتى يعاودَ الحديثَ. أحببتُه سنواتٍ طوالا قبل أن أراه. كانت المحادثاتُ التليفونية بيننا هي الوصال الوحيد، إضافةً إلى محاضراته التي أشاهدها على الانترنت وكلماته في الصحف وكتبه وترجماته القيمة. ولهذا كنتُ في حال من الشغف لرؤياه رأي العين ومصافحته يدًا بيد بعد سنين من الانتظار لهذا اللقاء الثريّ. في الطائرة من القاهرة إلى أسيوط، كنتُ أعدُّ الدقائق حتى أصل. وبعد مراسم الاستقبال الدافئة لي في مطار أسيوط بالحبِّ والزهور، كنتُ أسابقُ الجميع في الطريق إلى قاعة المناسبات في الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط، حتى ألتقي تلك القامة الفكرية والوطنية الشاهقة: “القس باقي صدقة"، راعي الكنيسة الإنجيلية في أسيوط، الذي أهدى المكتبة العربية قرابة الثلاثين كتابًا من عصارة فكرة وترجماته للفكر العالمي. وأخيرًا التقت عيناي بعيني ذلك الرجل الذي يقُطرُ وطنيةً ورقيًّا وتحضّرًا ومحبةً لله ولجميع خلق الله. من عطايا الله الطيبة لي كذلك، أن كلّف الأستاذُ "باقي صدقة" الأصدقاءَ في أسيوط بتنظيم عدة زيارات جميلة لي كان من بينها زيارة "دار لليان تراشر للأيتام"، وزيارة "الدير المحرّق" بالقوصية، وزيارة “مدرسة “السلام الحديثة” في أسيوط بمتاحفها: “الفرعوني والبيولوجي والكيميائي”. وكلٌّ من تلك الزيارات الثمينة تستحقُّ مقالا مفصّلا لما تحويه من ثراء روحي ومعرفي هائل، يصعُبُ المرورُ عليها في عجالة. طوبى لمصر برموزها الثرية في كل المجالات، وطوبى للمصرين بمصر العظيمة، وطوبى لكل من يحبُّ الوطن. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن.”
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش ((تصويب)) الخطاب الديني
-
البابا فرنسيس في دار زايد … على خُطا القديس الأسيزي
-
صخرةُ العالم … وسوطُ السجّان
-
إكليلُ غار للجميلة: سميحة أيوب
-
قال الرئيس: مسيحيو مصر ليسوا أقليّة!
-
عينا -نوال السعداوي- … في وهج الشمس
-
أحبّوا … مثل طفلٍ ضرب قدمَه بسهم
-
المركز الكاثوليكي المصري … صخرةُ الفنون الرفيعة
-
ذكرياتي مع الكتاب ... في معرض القاهرة الدولي للكتاب
-
تحت السرير … مع أفروديت وهيرا
-
كيف خدعتُ أمي ... لقراءة الكتب الممنوعة
-
أبطالٌ ... أخطأهم سهمُ الشهادة
-
مقالي عن ثورة يناير والإخوان الذي منعه (اليوم السابع) | “هل
...
-
من مصر… الرئيسُ يُطلقُ طائرَ المحبة
-
في فِقه الدهشة… وقتلها!
-
حملة 100 مليون صحة … شكرًا لدهشتي
-
في الإمارات … مسجدُ مريمَ أمَّ عيسى عليهما السلام
-
المصحفُ في بيتي …. جوارَ البتول
-
الرئيسُ يصفعُ الطائفيةَ ... بكاتدرائية ومسجد
-
الرئيسُ يضمُّ المحرابَ والمذبح
المزيد.....
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|