|
ثلائيةالدولة والقبيلةوالمجمتع المدني __مقارنه سوسيولوجي للدور السياسي للقبيلة في اليمن وتحديدها علاقتها وموقعها بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي !!!
محمد النعماني
(Mohammed Al Nommany)
الحوار المتمدن-العدد: 1530 - 2006 / 4 / 24 - 11:24
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عن مركز المعلومات والتاهيل لحقوق الانسان في اليمن صدر كتاب للدكتور الباحث فؤاد عبدالحليل الصلاجي !!حول ثلائيةالدولة والقبيلةوالمجمتع المدني __مقارنه سوسيولوجي للدور السياسي للقبيلة في اليمن وتحديدها علاقتها وموقعها بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي !!! !!!مدخـــــل إن البحث عن تاريخ وتطور الدولة في أي مجتمع ، إنما يعني ذلك البحث عن عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في المجتمع عبر مختلف مراحله، ذلك أن الدولة بما هي تجسيد مجرد لتنظيم المجتمع لم تأتي دفعة واحدة ولم تفرض من خارج المجتمع ، بل هي مرتبطة بسياق مجتمعي تطوري تلعب فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والجغرافية دوراً هاماً في تحديد مسار تطور المجتمع وتحديد طبيعة النظم السائدة فيه . من هذا المنطلق فإن البحث عن تطور الدولة في المجتمع اليمني سوف يسير عبر رؤية جدلية بنائية تتخذ من البحث والتحليل في التكوين الاجتماعي الاقتصادي آلية هامة للكشف عن مراحل تطور الدولة عبر محدداتها المجتمعية في البناء التحتي الذي يكشف إلى حد كبير عن طبيعة البنى الفوقية السياسية والتنظيمية التي اتخذتها الدولة .
ولعل أهمية البحث عن نشأة الدولة وتطورها إنما يرجع إلى الدور الهام الذي تلعبه كجهاز سياسي قانوني في تنظيم المجتمع وتحديد مسارات توجهه الاقتصادي والسياسي ، إضافة إلى أن الدولة هي مجال الصراع السياسي بين القوى الاجتماعية المختلفة ، خاصة وأنها بما تمثله من مجال للسلطة والقوة تعد أحد ثلاثة أطراف أساسية في المجتمع «الأرض - الإنسان - الدولة السلطة » تكمن معرفة تاريخ أي مجتمع وديناميكية تطوره في فهم جدلية العلاقة بين الأطراف الثلاثة .
وتاريخ الدولة في المجتمع اليمني ، حتى يومنا هذا يشكل الصراع السياسي حولها أبرز سمات عملية التطور السياسي ذلك أنه من يصل إلى السلطة أياً كانت وسيلته في ذلك يستطيع أن يتحكم بالأرض والإنسان معاً ولهذا أصبحت عملية الوصول إلى السلطة تعني التحكم بقدر كبير من الثروة والقوة وتسيير المجتمع وفقاً لمصلحة الجماعات المسيطرة . المحتويات البدايات الأولى لنشأة
الدولة اليمنية
يؤكد الباحثون في مجال علمي التاريخ والآثار أن حضارة سبأ لابد وأنها قد نشأت في الألف الأول قبل الميلاد(1) وهذه الحضارة المتمثلة بدولة سبأ يؤرخ بأنها من أهم الدول اليمنية القديمة التي استطاعت أن تحكم اليمن موحداً وأن تبرز شكلاً سياسياً ونظاماً اقتصادياً يحددان شكل الدولة وطبيعتها ، وقد ارتبط وجود الدولة ونشأتها في المجتمع اليمني القديم بمجمل الظروف والتطورات التي تشمل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وأن انهيار أو اضمحلال الدولة اليمنية إرتبط بضعف أو انهيار مجالات الحياة التي شكلت عوامل تطورها وازدهارها . ويرى البعض أن الاهتمام بتاريخ اليمن من قبل علماء الآثار والتاريخ القديم بدأ في منتصف القرن الثامن عشر أو بالتحديد بعد رحلة العالم الدانماركي « نيبور » إلى اليمن في مطلع العام 1761م(2) .
وقد مرت اليمن بثلاث مراحل أو حقب تاريخية تشكلت فيها الدولة اليمنية الكبرى « معين ، سبأ ، حمير » وما عدا ذلك كانت تنشأ دويلات وإمارات صغيرة تتصارع مع بعضها البعض ، ويؤكد المؤرخون أن توحد اليمن تم خلال حكم تلك الثلاث الدول وامتد نفوذها إلى خارجها(3) في هذا الصدد يذهب بعض الباحثين إلى أن ما ساعد على نشر الحضارة اليمنية خصب أرضها ورطوبة مناخها وموقعها الجغرافي على طريق النقل التجــاري (4) لعل هذه السمات هي التي كونت علاقات بارزة في التكوين الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع اليمني القديم وأعطت دلالات واضحة في العلاقات الانتاجية « الاجتماعية » اتسم بها التركيب الاجتماعي للمجتمع .
ولعل طبيعة الأرض والمناخ والموقع الجغرافي لليمن شكل طبيعة القوى الإنتاجية وعلاقاتها بل وعكس دوراً لا بأس به في شكل وطبيعة الدولة بما تمثله من تنظيم سياسي واجتماعي داخل المجتمع ، وعليه فإن المحددات الموضوعية لقيام الدولة في اليمن ارتبطت بشكل مباشر بالظروف الاقتصادية والاجتماعية المحددة لعلاقات الإنتاج وقواها ، من هنا يمكن القول أن نشأة الدولة في اليمن القديم يرتبط بدورها الفعال داخل المجتمع من حيث بناء المدن « المراكز الحضرية » والمعابد وبناء السدود والصهاريج « مشروعات الري الصناعية الكبرى » حيث لا يمكن للجماعات الصغيرة أن تقوم بمثل هذه الأعمال ، فكثرت المشروعات العامة التي قامت بها الدولة وما يرتبط بها من أمور الصيانة والحفاظ عليها يتطلب جهاز إداري يشرف وينفذ وينظم ، إضافة إلى وجود جيش قوي يحمي البلاد من الأخطار الخارجية(5) ، وذلك يشير إلى أن الدولة اليمنية القديمة قامت على عنصرين أساسين هما الزراعة والتجارة واهتمت ببناء المدن والجيوش وتوسيع رقعة الدولة ، بمعنى آخر يمكن القول أن الاستقرار البشري وظهور المدن ارتبط بتوفر فائض اقتصادي أتاح للجماعات المستحوذة عليه أن تستقر في مناطق محددة وأن تشيد المدن وأن تنظم شكل السلطة والعلاقات الاجتماعية . في هذا السياق ينظر بعض الباحثين إلى نشأة الدولة الشرقية من خلال وجهة نظر « كارل فتوفجل K. Wittfogel » القائلة بأن الدولة الشرقية ارتبطت بالحاجة إلى تنظيم استغلال « الماء ، الطاقة الهيدروليكية »(6) وهنا يمكن القول إنه بخصوص المجتمع اليمني نجد أن ما ذهب إليه البعض من تأكيد فكرة الري الاصطناعي التي تقوم بها الدولة هي فكرة صائبة في بعض جوانبها لكنها لا تأخذ صفة الحتمية . فالزراعة والتجارة هما عنصران أساسيان في نشأة الحضارة اليمنية القديمة ، فقد كان فائض الإنتاج من هذين النشاطين كبيراً خاصة مع بروز الدور التجاري بعيد المدى ، إضافة إلى ارتباط تلك العملية بالاستخدام الفعال لفائض الإنتاج متمثلاً في بناء المشاريع العامة كالمعابد والسدود ، مما تطلب ذلك جهازاً بيروقراطياً للدولة يشكل جهازها الإداري والتنظيمي ، وإذا كان بعض الباحثين قد ذهبوا إلى القول بأسبقية التجارة على الزراعة كمصدر للفائض الاقتصادي واعتبار الفائض التجاري هو المصدر الرئيسي لبناء الدولة والمدينة اليمنية القديمة(7) يمكن القول في هذا الصدد أن الباحث يتفق مع بعض جوانب تلك الفكرة خاصة فيما يتعلق بأهمية الفائض الاقتصادي التجاري والعلاقات الاستغلالية من قبل الدولة للفلاحين، إلا أنه من جانب آخر لا يمكن القول بأسبقية التجارة على الزراعة فهذا تعميم لا تدعمه شواهد أو أدلة قاطعة إضافة إلى أن الحضارة اليمنية القديمة في الأساس ارتبطت بالزراعة وكانت التجارة العنصر الأساسي الثاني ، ذلك أن طبيعة الأرض والمناخ وما قامت به الدولة اليمنية من أعمال ومنشآت ارتبطت كلها بتطوير أساليب الري الاصطناعي التي تعتمد عليه الزراعة ، ومن ناحية أخرى فإن الدولة اليمنية القديمة بما اتصفت به من الاستبداد حيث كانت علاقاتها مع الفلاحين تقوم على استنزاف مستمر ليس فقط لفائض الإنتاج الزراعي بل أيضاً لفائض العمل . فالدولة اليمنية اعتمدت على عنصرين أساسين لتوفير الفائض الاقتصادي وكانت الزراعة هي الأساسي والمصدر الأول في حين كانت التجارة عملية غير مستمرة نتيجة للمنافسة الدولية ونتيجة لانهيار الدولة المركزية في اليمن . وهنا تعاظم أهمية الزراعية كمصدر أساسي للفائض الاقتصادي « وتعاظم استغلال الفلاحين » في نفس الوقت ، ويدعم قولنا هذا ما ذهب إليه أحد الباحثين في التاريخ اليمني القديم بقوله « كان أهل اليمن « عرب الجنوب » ذو حضارة ومدنية عريقتين وكان سبب غناهم عنايتهــم بالزراعة والتجارة(8) .
من جانبه يؤكد « رودوكناكيس » على أن الزراعة كانت العمود الفقري للحياتين الاقتصادية والسياسية للدولة اليمنية القديمة(9) وعليه فإن القول باعتبار التجارة هي أساس الحضارة اليمنية وأساس توفير الفائض الاقتصادي يعد قولاً لا يعتمد على شواهد عملية مؤكدة بل أنه ينافي حقيقة التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع اليمني ، ولهذا فإن الرؤية العلمية الأكثر قبولاً تعتبر الزراعة هي أساس الحضارة اليمنية ، وأساس قيام الدولة والمدنية هما عنصران أساسيان « الزراعة والتجارة » واللذان شكلا أهم عنصرين لتوفير الفائض الاقتصادي للدولة ، وقد تكون التجارة هي الأساس الهام والمصدر الأول لبناء المدن وتوفير الفائض الاقتصادي في شمال الجزيرة العربية وتلك حقيقة تاريخية تتناسب وظروف تلك المنطقة ، في هذا الصدد يشير خلدون النقيب(10) في دراسته الهامة عن المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية إلى أسبقية التجارة أو نمط الإنتاج المركنتالي على اقتصاد الرعي والغزو في المجتمع الخليجي وهو في ذلك ينطلق من أن طبيعة الأرض الزراعية في الخليج لم تكن ملائمة لقيام زراعة تشكل الأساس والفائض الاقتصادي للدولة ، حيث أن تلك المدن لا تملك مقومات الاعتماد الذاتي في الغذاء والماء وكانت بالتالي أقرب إلى مراكز التجارة « الترانزيت » أو المرور للقوافل التجارية المتنوعة .
من هنا يمكن القول أن المحددات المادية للحضارة اليمنية القديمة شكلت التركيب الاجتماعي للمجتمع خاصة علاقات الإنتاج التي ميزت الطابع الاجتماعي لعلاقات العمل والملكية ، علاوة على أن المحددات السياسية وكذلك الدين لعبا دوراً هاماً في تشكيل البنى الفوقية « سياسياً واجتماعياً واقتصادياً » وكانت الدولة كأهم التنظيمات السياسية في المجتمع اليمني تجسيداً مؤسسياً لذلك .
دور القبيلة في نشأة
الدولة اليمنية وفقاً للإطار العام السابق ذكره تكونت الدولة في اليمن في إطار مجتمعي يتسم بتركيب اجتماعي يغلب عليه الطابع القبلي ، بمعنى أن علاقات الإنتاج في المجتمع اليمني اتسمت بالطابع التقليدي الذي كان من سماته بروز التكوين القبلي كمحدد هام للبنية الاجتماعية ، وعليه فإن الدولة في تكونها ونشأتها انطلقت من هذا السياق باعتبارها تطوراً داخلياً وفقاً لظروف المجتمع في سياق مرحلة تاريخية من مراحل تطوره . من هنا يمكن أن نشير وفقاً لرؤية كثير من الباحثين إلى أن نواة أو محور التشكل للدولة اليمنية القديمة - والحديثة - هي « القبيلة » والقبيلة القوية بالذات التي استطاعت أن تفرض سلطتها على قبائل متعددة وتجعلها تنضوي تحت علمها إضافة إلى تحالفها مع قبائل أخرى .
وهكذا شكلت القبيلة القوية أو القبيلة « الزعيمة » بمفهوم كاناكيس (11) أساساً لبناء الدولة وكانت العصبية القبلية محدداً أساسياً لقوة القبيلة التي تحالفت مع رجال الدين حيث كانت لهم هيمنة وسلطة كبيرة ، انطلاقاً من أن هؤلاء كانوا قد جمعوا في أيديهم السلطتين الدينية والسياسية وكان لقب «المكرّب » كلقب كهنوتي يشير ويتضمن في معناه ودلالته امتلاك رجال الدين للسلطتين الدينية والمدنية خاصة وأن للدين تأثيراً كبيراً على حياة الأفراد والجماعات انطلاقاً من أن لكل قبيلة كان لها آلهتها وأن هؤلاء الأفراد يعتبرون أنفسهم أولاد الآلهة ، وعبيدها ، إضافة إلى استغلال رجال الدين ورموز القبائل للعاطفة الدينية الجياشة لدى أفراد المجتمع(12) .
هنا نشأ تصور الشـــرقي القديــــم للدولــــة الذي يقـــــوم وفقـــاً لرؤيـــــة « كاناكيس »(13) أن الحاكـــــم أو الملك هـــــو ممثل الآلهــــة على الأرض أما أفـــراد الشعب فهم أبناء الآله ومن هنا نشأ تحالف بين رجال الدين وشيوخ القبائل (14) عمل على توسيع سلطتهم ونفوذهم فتكونت الدولة معتمدة في أساسها ومقوماتها على هذا التحالف الذي كان يضمن للطبقة الحاكمة المتحالفة قوة سياسية واجتماعية واقتصادية بل إن ذلك التحالف وفر قوة واستمرارية لكلا الطرفين في قمة الهرم الاجتماعي وسيطرة كاملة على الدولة والمجتمع .
ويظل هذا التحالف قوياً وفعالاً طالما هناك مصلحة مستمرة منه وطالما قوى التحالف تدافع عنه ، ولعل هذه العملية لها استمرارية في المجتمع اليمني المعاصر ، وهي أكبر الإشكاليات التي تعاني منها الدولة المعاصرة، ذلك أن استقرار الدولة والمجتمع يرتبط باستمرار ذلك التحالف القائم بين أجنحة الطبقة الحاكمة « رموز القبيلة - رجال الدين - النخب الحديثة » وتتعرض الدولة لأزمات تعرضها للإنهيار في حالات الصراع القائم بين أطراف التحالف ومحاولة الهيمنة من طرف على الأطراف الأخرى
التكوين الاقتصادي الاجتماعي
ودوره في تكوين الدولة اليمنية
إن البحث في التكوين الاجتماعي الاقتصادي Socio Economic formation للمجتمع اليمني القديم يعتمد في الكشف عن الأسس والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها ويعني ذلك ضرورة معرفة تطور قوى الإنتاج « درجة النمو الاقتصادي » وما ارتبط بذلك من تنظيمات اجتماعية وسياسية وثقافية .
والتكوين الاجتماعي الاقتصادي يشمل كافة جوانب المجتمع بما في ذلك تداخل أنماط إنتاجية متعددة ، أي أنه يتضمن نمط الإنتاج السائد وأنماط أخرى مسودة(15) ولعل بداية تحديد ملامح التكوين الاقتصادي الاجتماعي تكمن بمقومات وأسس نشوء الحضارة اليمنية أي الزراعة والتجارة التي كانت أهم الأنشطة التي تستحوذ الدولة منهما على الفائض الاقتصادي ، وإذا كان البعض يرى مكونات الدولة في دورها الوظيفي من خلال الري الاصطناعي وما يرتبط به من إشراف وصيانة فإن ذلك التطور لا يخلو من الحقيقة ، لكن لا يعني ذلك الاعتماد الحتمي الوحيد الجانب لاعتبار أسس ومكونات الدولة في البناء التحتي متمثلاً في القوى الإنتاجية « درجة النمو الاقتصادي » ذلك أن المحددات الاجتماعية والسياسية والدينية لعبت أدواراً لا يستهان بها في تحديد طبيعة الدولة ونسق السلطة الرسمي خاصة دور رجال الدين وتحالفهم مع شيوخ القبائل .
في هذا الصدد يرى « عبدالعزيز الدورى » في كتابه التكوين التاريخي للأمة العربية(16) أن اليمن كانت من أخصب أجزاء الجزيرة العربية وقد شهدت أرقى مستوى من الحضارة العربية قبل الإسلام وأعلى درجة من تنظيم الدولة والمجتمع ، ويرى أن الزراعة والتجارة كانتا أهم العوامل التي استندت إليها تلك الحضارة . بتعبير آخر يحدد أن أهم جوانب التاريخ السبأي نشاطه الاقتصادي في الجزيرة العربية وعلى الصعيد الدولي .
في نفس السياق يشير « سمير أمين(17) » ، إلى أن الزراعة لعبت دوراً مهماً في تطور الحضارة اليمنية التي ارتبطت أيضاً بالتجارة ، ووفقاً لهذه المعطيات التي تؤكد أهمية الزراعة في العملية الإنتاجية وتوفير الفائض الاقتصادي يذهب البعض من الباحثين في تحديد التكوين الاجتماعي الاقتصادي معتمدين في ذلك على مفهوم نمط الإنتاج الأسيوي الذي يرى فيه الباحث أن كثيراً من ملامحه العامة تتطابق مع معطيات الواقع الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع اليمني ، وهنا لابد من وقفة نقدية تحليلية لماهية مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي وتوضيح دلالاته .
يرى الباحث أن مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي ارتبط بثلاث قضايا أساسية هي :
1- الري الاصطناعي كأساس للزراعة الشرقية .
2- فكرة مجتمع القرية المكتفي ذاتياً .
3- أن الفكرتين السابقتين شكلتا الأساس الاجتماعي للاستبداد الشرقي الذي تمارسه الدولة المركزية .
ولمناقشة هذه القضايا يجب علينا عرض آراء القائلين بها لنبين مدى دقة هذه الآراء ولتقديم رؤيتنا النقدية لذلك .
في عام 1853م كتب ماركس إلى إنجلز الذي كان يدرس آنذاك التاريخ الآسيوي(18) أنه يؤيد اقتراحات « برينيه » التي تعتبر أن أساس جميع الظواهر في الشرق تكمن في غياب الملكية الخاصة ، وفي رد إنجلز على ذلك رأى أن التفسير التاريخي الأساسي لهذا الإنعدام للملكية العقارية الخاصة لابد أنه يكمن في جفاف التربة الأمر الذي استلزم الري المكثف ومن ثم إقامة المنشآت المائية على يد الدولة المركزية « أن غياب ملكية الأرض هو حقاً المفتاح إلى الشرق كله فهنا يكمن تاريخه السياسي والديني ولكن كيف حصل أن الشرقيين لم يتوصلوا إلى الملكية العقارية حتى في شكلها الإقطاعي ! اعتقد أن ذلك يعود وبالدرجة الأساسية إلى المناخ بارتباطه بطبيعة التربة لا سيما بالنسبة للمناطق الصحراوية الشاسعة التي تمتد من الصحراء مباشرة عبر الجزيرة العربية وفارس والهند وتتاريا حتى الهضبة الآسيوية الأكثر ارتفاعاً » أن الري الاصطناعي يمثل هنا الشرط الأول للزراعة وتقوم به الحكومة المركزية ولم تكن للحكومات أو الدول الشرقية غير ثلاث وظائف أساسية هي :
1- المالية / النهب في الداخل .
2- الحرب / النهب في الداخل والخارج .
3- الأشغال العامة / لتوفير إعادة الإنتاج .
إن هذا الإخصاب الاصطناعي للأرض والذي توقف على الفور باضمحلال نظام الري يفسر الحقيقة الغريبة المتمثلة في الخراب والاقفار الحاليين لمناطق كاملة كانت يوماً ذات زراعة زاهرة « تدمر ، البترا ، الخرائب في اليمن وبعض المناطق في مصر وفارس .... » وذلك يفسر الحقيقة المتمثلة في أن حرباً مدمرة واحدة كانت قادرة على تجريد بلد ما من سكانه ومن حضارته بكاملها(19) .
خلال هذه الفترة طرح ماركس تأملاته المشتركة مع إنجلز في سلسلة من المقالات في صحيفة « نيويورك ديلي تريبيون » يرى فيها أن الظروف المناخية والإقليمية لا سيما في المناطق الصحراوية الشاسعة الممتدة من الصحراء الكبرى عبر الجزيرة العربية وفارس والهند جعلت من الري الاصطناعي أساساً للزراعة الشرقية وذلك أدى إلى تدخل السلطة المركزية من هنا ترتبت على كافة الحكومات الشرقية الآسيوية مهمة اقتصادية هي مهمة تهيئة المنشآت العامة(20) .
ويمكن تلخيص أهم الأسس أو العناصر التي تميز المجتمعات الشرقية أو الآسيوية كما وردت في كتابات ماركس وأنجلز وغيرهم من المفكرين السابقين لهم كما يلي(21) :
1- ملكية الدولة للأرض .
2- فقدان القواعد القانونية والشرعية .
3- وجود الدين ودوره كبديل للقانون .
4- عدم وجود نباله وراثية .
5- المساواة الاجتماعية في العبودية أو العبودية العامة .
6- وجود مجتمعات قروية منعزلة .
7- سيطرة الزراعة على الصناعة .
8- وجود المشروعات العامة للري .
9- بيئة جغرافية شديدة الحرارة .
10- تاريخ راكد غير قابل للحركة .
مجمل هذه العناصر التي اعتبرها عدد من الباحثين مميزات للمجتمعات الشرقية إنما تؤدي في مجملها إلى ظاهرة واحدة هي الاستبداد الشرقي Oriental Despotism في هذا الصدد يذهب « سمير أمين » في تحديده لأسلوب الإنتاج السائد في المجتمعات الشرقية إلى اعتبار أسلوب الإنتاج الخراجي هو الأكثر توصيفاً لتلك المجتمعات ، بل أنه يذهب إلى القول إن الأسلوب الخراجي كقاعدة هو الشكل الأساسي لكافة الحضارات قبل الرأسمالية(22) ، بمعنى آخر يمكن القول إن التشكيلات الماقبل رأسمالية - كما يشير سمير أمين - رغم تنوعها تنطوي على شكل مسيطر ومركزي هو التشكيلة الخراجية وعلى سلسلة من الأشكال المحيطة(23) ، ويتميز أسلوب الإنتاج الخراجي بانقسام المجتمع إلى طبقتين أساسيتين هما :
أ- الفلاحون المنتظمون في جماعات محلية Village communities .
ب- الطبقة الحاكمة التي تحتكر وظائف التنظيم السياسي للمجتمع وتفرض الخراج على الجماعات الزراعية .
هذا الأسلوب يتسم بالتناقض بين الوجود المستمر للجماعات المحلية ونفيها بواسطة الدولة ويتسم أيضاً بالاختلاط بين الطبقة العليا التي تستملك الفائض والدولة التي تسيطر سياسياً . وفائض الإنتاج الخاص بهذا الأسلوب الإنتاجي هو الخراج أو الضرائب والإتاوات بمختلف أشكالها، ومن النتائج الهامة التي ينتهي إليها « سمير أمين » أنه ليس ثمة أسلوب إنتاجي قد وجد بشكل نقي ، فالمجتمعات المعروفة تاريخياً هي بمثابة تكوينات اجتماعية اكتسبت أشكال وجودها من خلال تشكيله من أساليب إنتاج مختلفة(24) .
بهذا المعنى فإنه يمكن ملاحظة وجود أسلوب سلعي بسيط مرتبط بأسلوب خراجي مسيطر وعليه فإن كافة المجتمعات ما قبل الرأسمالية تنطوي تكويناتها الاجتماعية على نفس العناصر وتتسم بما يلي(25) :
1- سيطرة أسلوب الإنتاج الخراجي أو الجماعي .
2- وجود علاقات سلعية بسيطة في إطار محدود .
3- وجود علاقات تجارية بعيدة المدى .
وقد وجهت انتقادات كثيرة إلى نظرية سمير أمين في أسلوب الإنتاج الخراجي خاصة من قبل « أندر فرانك » فيما يتعلق بشيوع الإنتاج المعيشي المكتفي ذاتياً ، ذلك أن المجتمعات التي خضعت للاستعمار وارتبط اقتصادها باقتصاد المستعمر لعب التحول النقدي فيها دوراً هاماً في التطور الاجتماعي بوصفه توسعاً رأسمالياً ، إلا أن البعض يرى في ذلك توصيفاً غير دقيق ذلك أن تغلغل النقود والتجارة ليس بالضرورة دليلاً على نمو علاقات الإنتاج الرأسمالي وأن تجريد القرويين من ممتلكاتهم لم يؤد إلى تأسيس بروليتاريا مركزة في الصناعة(26) .
وبشكل عــام - يــرى الباحث - أن نمط أو أسلـــــوب الإنتـــــــاج الآسيوي Asian Mode of Production أو الشرقي كما عبرت عنه الكتابات الأولى لماركس وأنجلز يمكن مناقشته وإبداء الملاحظات النقديـــــة عليه كما يلي :
1- أن فكرة نمط الإنتاج الآسيوي لم تطرح لأول مرة من قبلْ ماركس وأنجلز إذ سبقهما إلى ذلك عدد من المفكرين الذين كانت دراساتهم من أهم المصادر التي اعتمد عليها ماركس وأنجلز ، فنحن نجد فكرة الزراعة الأروائية عند « سميث » والقدر الجغرافي « الظروف المناخية» عند « مونتسكيو » والملكية العقارية عند « برينيه » وفكرة الاستبداد الشرقي المعتمد في أساسه الاجتماعي على مجتمعات قروية مكتفية ذاتياً نجدها عند « هيجل » وفكرة حلول الدين محل القانون عند « مونتسكيو »(27) .
2- أن فكرة نمط الإنتاج الآسيوي لم يخصص لها ماركس دراسة بذاتها ودائماً أتت في إطار إشارات سريعة وغير واضحة لكنها أيضاً تحمل قدراً من الأهمية والدلالة المنهجية والنظرية ويمكن استخدامها وتطويرها وفقاً لمعطيات الواقع الاجتماعي الاقتصادي لبلدان الشـــرق .
3- إن فكرة الاستبداد الشرقي وارتباطها بأسلوب الإنتاج القائم على الإرواء الاصطناعي وتدخل الدولة واعتمادها اجتماعياً وسياسياً على فكرة المشتركات القروية المكتفية ذاتياً لا يمكن علمياً ومنهجياً القبول بأن الاستبداد ارتبط فقط بهذه المحددات إذ أن الاستبداد وجد في كثير من المجتمعات وبعدة صور ومجالات ، وعليه فإن قبول هذه الفكرة دون نقاش أو جدل إنما يعني التسليم بحتمية الاستبداد كنمط سياسي للحكم يميز المجتمعات الشرقية دون غيرها .
4- إن قبول مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي من قبل الباحثين العرب ودون نقاش إنما كان مرتبطاً في نفس الوقت بالإرتباط الأيديولوجي والتعميم القسري لقبول النموذج السوفيتي في التطور الإشتراكي وهو ما أدى إلى فشل مدوي ليس فقط للنماذج الإشتراكية في المجتمعات العربية بل وفي النموذج السوفيتي ذاته .
5- إن نمط الإنتاج الآسيوي لم يحدد منهجياً بشكل أكثر وضوحاً هل هو مرحلة إنتقالية من مراحل تطور المجتمعات اللاطبقية إلى المجتمعات الطبقية خاصة وأن ذكر هذا المفهوم جاء خارج المراحل الخمس التي حددتها الماركسية لتطور المجتمع الأوروبي .
6- إن الإهتمام بنمط الإنتاج الآسيوي من قبل ماركس ينطوي على تحذير من سحب تعميم المراحل الخمس على المجتمعات غير الأوروبية بالرغم من التناقض الذي وقع فيه ماركس باعتبار أن تغير أو تطوير هذه المجتمعات يأتي من خارجها كما أشار في ذلك إلى دور الاستعمار البريطاني للهند وذلك يتناقض مع النظرية والمنهج في الماركسية التي تعتبر التغير ينبثق من الصـــراع الداخلي .
7- لا يمكن الاعتماد على القول إن مفتاح الشرق كله يكمن في غياب الملكية وكأن الشرق لا يوجد مدخل آخر لفهمه إلا عن طريق البناء الاقتصادي فقط وذلك يعني إغفال أهمية البناء الفوقي « السياسي والديني والاجتماعي » فمن الخطأ إختزال القوى الفاعلة إلى مجرد حتمية تكنولوجية ذلك أن عوامل اجتماعية صرفة يمكن أن تكون فاعلة في التحول الاجتماعي والتاريخي . التكوين الاجتماعي الاقتصادي في المجتمع اليمني
( رؤيـــة نقديـــة )
إن معرفة التكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع - أي مجتمع - من شأنه أن يكشف لنا عن طبيعة القوى الفاعلة ومحدداتها الاقتصادية الاجتماعية والسياسية وذلك يساعد على تحديد نمط الإنتاج السائد في المجتمع ومن خلاله معرفة قواه الأساسية وأطرها التنظيمية المتمثلة بالأشكال القانونية للملكية وتقسيم العمل .
ووفقاً لذلك ذهب بعض الباحثين اليمنيين في تحديد نمط الإنتاج في المجتمع اليمني باتباع أسلوب التعميم المبسط الذي تنقصه الشواهد والأدلة التاريخية . ففي دراسته « نظرة في تطور المجتمع اليمني » ذهب الكاتب(28) إلى إسقاط وبصورة ميكانيكية خصائص الإقطاع الأوروبي على ظروف المجتمع اليمني والقول بمروره عبر المراحل الخمس التي حددتها النظرية الماركسية الكلاسيكية لتطور المجتمع الأوروبي ، ويعد ذلك من وجهة نظرنا مجانباً للصواب ولحقيقة المنهج العلمي علاوة على أنه تعميم ينقصه الكثير من الشواهد والأدلة التاريخية . ذلك أن أهم الصعوبات التي تعترض سبيل التعميم تكمن في نقص الشواهد التاريخية وعدم الإدراك الواعي للتاريخ الاجتماعي حيث ما تزال كثير من جوانبه غير معروفة .
وفي اعتقاد الباحث أن كثيراً من المثقفين قد ذهبوا في تعميماتهم لمقولات النظرية الماركسية على واقع المجتمع العربي عامة يرجع ذلك إلى الفهم والإلتزام الأرثوذكسي أي الإلتزام الجامد بالنصوص واعتبار الماركسية كعقيدة(29) . وهنا تم الخلط بين النظرية العلمية وبين الأيديولوجيا إضافة إلى ذلك تجاهل أولئك الباحثين العناصر غير الاقتصادية في تحديد تطور المجتمع وقواه المنتجة ، ومن هنا فإن القول بسيادة نمط الإنتاج الإقطاعي في المجتمع اليمني فيه قدراً من الإجحاف والنقل الميكانيكي لتجارب مجتمعات أخرى ، ويرجع ذلك إلى اختلاف ظروف المجتمع اليمني اقتصادياً سياسياً واجتماعياً عن ظروف وسياق التطور التاريخي للمجتمع الأوروبي إ، ضافة إلى أن المجتمع اليمني لم يكن في نفس الفترة الزمنية متساوي في مراحل تطوره ونوعيتها مع المجتمع الغربي بل كان له سيا ق تطوري آخر .
فإذا كان نمط الإنتاج الإقطاعي تُعتبر الأرض فيه هي الوسيلة الأساسية للإنتاج وأن المجتمع تنتظم فيه طبقتين تحتكر الطبقة المالكة والمسيطرة سياسياً على جهاز الدولة الفائض الاقتصادي فإن هذه الصفات قد وجدت في المجتمع اليمني ولكن في سياق تاريخي لم تظهر فيه القنانة كطبقة اجتماعية مقابل طبقة السادة أو الملاك الإقطاعيين .
فالمجتمع اليمني لم يشهد سيادة نظام عبودي أو إقطاعي خالص(30) لكنه شهد علاقات إقطاعية قوامها استغلال الدولة - الطبقة المسيطرة - للفلاحين بالاستحواذ على فائض الإنتاج - الخراج والضرائب - إضافة إلى فائض العمل - السخرة - علاوة على أن هذه العلاقات الاستغلالية من قبلْ الدولة كانت ولا تزال تمارس حتى في أيامنا هذه .
ولما كان المجتمع اليمني هو مجتمع زراعي فقد كانت الأرض وما زالت تمثل وسيلة الإنتاج الأساسية ، فالأرض والإنسان يكوّنان معاً التجسيد الأساسي لقوى الإنتاج في المجتمع ، ولعل ذلك ما دفع بالبعض من الباحثين إلى اعتبار اليمن مجتمعاً إقطاعياً فغابت عنهم الكثير من المحددات الهامة التي يتشكل منها التكوين الاقتصادي الاجتماعي والتي تلعب فيها البنية الفوقية « السياسية ، الدين ، القبيلة » أدواراً فعالة ليس فقط حيال بناء الدولة وتنظيماتها بل أيضاً حيال الأنشطة الاقتصاديــــة وأساليبها الإنتاجيــة .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو : لماذا لم تعرف المجتمعات العربية الملكية الخاصة في مراحلها التاريخية السابقة ؟ وإذا كانت قد مرت بالمرحلة الإقطاعية كما يرى البعض لماذا لم تتحول بحضارتها وثقافتها إلى الرأسمالية ؟! .
يمكن القول في هذا الصدد أن التعميم الذي أطلقه بعض الباحثين يرجع في اعتقادي إلى اعتبارات عدة منها ماهو مرتبط بالإلتزام الأيديولوجي ومنها ماهو مرتبط بنقص الوعي بقراءة التاريخ الاجتماعي العربي ، بمعنى آخر أنه بنزوع ستالين إلى نظرية « الخط الواحد » القائلة بخضوع جميع المجتمعات لتطور المراحل الخمس دون تمييز وجدت لها صدى لدى المثقفين والباحثين العرب ، وذهب بعضهم إلى حد النقل الميكانيكي لتلك النظرية وفي ذلك يرى « الجوزى » أن أمم الشرق قطعت في حياتها الطويلة وستقطع ذات المراحل أو الأدوار الاجتماعية التي قطعتها الأمم الغربية(31) .
وفي الرد على ذلك يقول « على الوردي »(32) « إن هذه الفكرة غدت لدى الماركسيين العرب بمثابة الكتاب المقدس ، الذي لا يجوز الشك فيه » ويضيف قائلاً إن النظام الإقطاعي له شروط يجب أن تتوافر أهمها أي أن تكون الأرض وسيلة للإنتاج وأن لا تكون ملكاً للعاملين بها الفلاحين ، ولذلك يقرر الكاتب أن علاقة شيخ العشيرة - في العراق في العهد التركي - لم تكن من طراز علاقة السيد الإقطاعي بأقنانه(34) .
وتأكيداً لذلك يعبر المؤرخ الروسي(34) بقوله : « أما في جنوب العراق فكانت تسود العلاقات البطريركية « الأبوية العشائرية » وكانت الأرض تعود إلى القبائل العربية وتعتبر ملكاً جماعياً بينهم » ، إضافة إلى ذلك يرى «هشام شرابي »(35) أنه في المجتمعات العربية ظلت بنية العائلة - العشيرة هي التي تشكل التركيب الأساسي للعلاقات الاجتماعية ، ومن جانبه يرى « سمير أمين » (36) « أن العالم العربي الماقبل الرأسمالي لم يكن عالماً إقطاعياً ولكنه كان مكوناً من كوكبة من التشكيلات الاجتماعية المتمفصلة حول نمط إنتاج خراجي » .
وهنا يتسائل « الأنصاري » أنه إذا كانت مصر أعرق مجتمع زراعي فلاحي في الوطن العربي لم تعرف في تاريخها الطويل النظام الإقطاعي فأين يمكن افتراض مصداقية وجوده في المجتمعات العربية الأخرى التي لم يعرف بعضها الزراعة أصلاً(37) .
في هذا المجال يرى الباحث أن مصدر الإشكالية في توصيف نمط الإنتاج في المجتمع العربي وإصرار البعض من الباحثين على تعميم النموذج الغربي وتقرير تواجد النظام الإقطاعي في الشرق يرجع إلى اعتبارات عدة منها الإلتزام الأيديولوجي خاصة في مرحلة التحرر الوطني وظهور الدول المستقلة عن الاستعمار إضافة إلى ذلك عدم الإدراك الواعي بقراءة التاريخ الاجتماعي السياسي في المجتمع العربي علاوة على ذلك بروز الخلط بين الملامح المشتركة في تطور المجتمع الإنساني عامة وبين تطور كل مجتمع وفقاً لخصوصيته ولذلك يقرر « الجابري »(38) أن واقع أي مجتمع مهما كان لابد أن يحمل قدراً من العام بقدر ما فيه من الخاص ، ويضيف قائلاً إنه إذا حاولنا أن نتعامل مع واقع مجتمعاتنا وفقاً لتصورات وتنظيرات لا تنطبق على تاريخه فإننا بذلك قد أقمنا بيننا وبين موضوعنا جملة من العوائق الأبستمولوجيــــة « المعــــرفية » تجعل المعــــرفة العلمــــة الصحيحة مستحيلة »(39) .
ومن جانبه يذهب « الأنصاري »(40) إلى دحض مقولة الإقطاع في التاريخ العربي الإسلامي وأن ما اصطلح على تسميته لدى البعض بالنظام الإقطاعي في التاريخ الإسلامي هو نظام من نوع آخر مختلف نوعياً مع النظام الإقطاعي الأوروبي ويعرض رأيه كاملاً في ذلك من خلال النقاط التاليــة :
1- إن المجتمعات العربية الإسلامية لم تعرف النظام الإقطاعي الفيودالي من حيث خصائصه الأساسية وسماته الوظيفية التاريخية كما عرفته أوروبا .
2- إن مرور المجتمعات المجزأة بمرحلة إقطاعية قبل تحولها إلى مجتمع قومي حديث على غرار ما حصل في أوروبا الغربية واليابان يعد شرطاً لتحقيق قيام الدولة القومية الموحدة .
3- إن مجتمعات المنطقة العربية المجزأة طبيعياً وتاريخياً بحكم الفراغات(41) والفواصل الصحراوية كانت في أشد الحاجة إلى التواصل والتوحد ولم يكن للنظام المسمى إقطاعياً في تاريخه أي دور في خلق هذا التواصل بل إن النظام بطابعه البيروقراطي العسكري - الضريبي المركزي قد أسهم إلى حد كبير - وبإجماع الدارسين - بمن فيهم القائلون بإقطاعيته في إفقار وتدمير النسيج الإقليمي الريفي الزراعي .
4- إن هناك أهمية سياسية لنقض مقولة الإقطاع ويستند في ذلك لرأي سمير أمين أن رد العالم العربي إلى عالم إقطاعي مماثل لعالم أوروبا القرون الوسطى هو مصدر الأخطاء الكبرى على الصعيد السياسي كما هو على صعيد تحليل الظاهرة القومية في هذا الجزء(42) .
5- يرى « الأنصاري » أيضاً أن الدولة القطرية في الوطن العربي حالياً منذ فترة الاستقلال تشكل مرحلة إقطاعية مؤجلة في عصر الرأسمالية العالمية ، وأن الدولة القطرية الحالية قد قامت بعملية توحيد داخلي للتكوينات الاجتماعية المحلية المتعددة في كل قطر مثال ذلك توحيد السلطنات والإمارات في اليمن ، الإمارات ، عمان ، العراق(43) ... الخ . ويخلص الباحث من التحليل السابق إلى أن التكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع اليمني كان يتصف بتداخل عدة أنماط إنتاجية « تمفصل » مع سيادة نمط الإنتاج الخراجي الذي تميز بانقسام المجتمع إلى طبقتين تعتبر الطبقة الحاكمة « الطبقة - الدولة » هي التي تحتكر وظائف التنظيم السياسي للمجتمع وتفرض الخراج والضرائب على الجماعات الزراعية وهذه الطبقة التي تستملك الفائض الاقتصادي هي تجمع تحالفي بين رجال الدين وشيوخ القبائل القوية التي نهضت الدولة وتكونت وفقاً لذلك التحالف . فعلاوة على الأساس الزراعي كوسيلة أساسية للإنتاج كانت توجد لليمن علاقات تجارية بعيدة المدى وعلاقات سلعية بسيطة لم يترتب عليها تطور اقتصادي يفضي بتطور قوي الإنتاج وعلاقاتها بشكل يدفع بالمجتمع إلى مرحلة تاريخية أكثر تطوراً .
بل ظلت التقنية الإنتاجية في الزراعة ضعيفة التطور وظلت إنتاجية العمل الزراعي محدودة وبقي مستوى حياة المزارعين قريباً من مستوى الكفاف إضافة إلى ذلك فإن ملكية الدولة للأرض وعدم وجود ملكية خاصة وانعدام القيود القانونية وحلول الدين محل القانون واستمرار المشتركات القروية كل ذلك ساعد على استمرار نمط الإنتاج الخراجي وبروزه في التكوين الاجتماعي الاقتصادي إلى جانب بقايا أنماط أخرى هامشية ، إن عدم وجود نمط إنتاج نقي مميز للتكوين الاجتماعي الاقتصادي في المجتمع اليمني شأنه في ذلك شأن معظم المجتمعات التقليدية أدى إلى عدم بلورة تركيب طبقي واضح كان لعدم إدراك ذلك من قبل بعض الباحثين أن وقعوا في توصيف مخل وغير منهجي لطبيعة القوى الاجتماعية ودورها داخل المجتمع . ومن هنا ذهب البعض(44) إلى تحديد طبقتين أساسيتين في المجتمع اليمني وفقاً لقولهم بنمط الإنتاج الإقطاعي هما طبقة الإقطاع ، وطبقة الفلاحين في حين ذهب البعض الآخر(45) إلى نفي مقولة الإقطاع كما هو في المجتمع الأوروبي ولكن أقر بوجود إقطاع إذا كان يفهم من ذلك استغلال الفلاحين استغلالاً فاحشاً ، وما يميز هؤلاء جميعاً إجماعهم على أن الدولة اليمنية كانت ولا تزال تتسم بالاستبداد واستملاك الفائض الاقتصادي وفائض قوة العمل وهي وحدها المحددة للأطر القانونية للملكية الـــــزراعية وتقسيم العمل (46) .
1- أنظر في ذلك :
- يوسف محمد عبدالله ، أوراق في تاريخ اليمن وآثاره ، وزارة الإعلام ، صنعاء ، 1985م ، ج2 ، ص23 .
- توفيق برو ، تاريخ العرب القديم ، دار الفكر ، دمشق ، 1982م ، ص65 .
2- محمد عبدالقادر بافقيه ، تاريخ اليمن القديم ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1973م ، ص ص 19 - 20 .
3- سعيد الجناحي ، الحركة الوطنية اليمنية « من الثورة إلى الوحدة » مركز الأمل للدراسات والنشر ، صنعاء ، 1992م ، ص21 .
4- توفيق برو ، مصدر سابق ، ص66 .
5- أنظر في ذلك :
- كناكس ، الحياة العامة للدولة العربية الجنوبية في تاريخ العرب القديم ، مكتبة النهضة المصرية ، 1958م ، ص122 ، توفيق برو ، مصدر سابق ص65 - 66 - عبدالعزيز الدوري ، التكوين التاريخي للأمم العربية ، دار المستقبل العربي القاهرة ، 1985م ، س س 24 - 26 .
6- أنظر في ذلك :
- K. A. WITTFOGEL : Oriental Despotism : new whven : Yalc University . Press . 1957.
7- عادل مجاهد الشرجبي ، التحضر والبنية القبلية في اليمن ، رسالة ماجستير ، كلية الآداب ، جامعة القاهرة ، 1991م ، ص112 .
8- توفيق برو ، مصدر سبق ذكره ، ص76 .
9- كاناكيس ، مصدر سبق ذكره ، ص122 .
10- خلدون النقيب ، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1987م ، ص29 .
11- كاناكيس ، مصدر سابق ، ص126 .
12- أنظر للمقارنة : توفيق برو ، مصدر سابق ، ص67 ، قائد الشرجبي ، القرية والدولة في المجتمع اليمني ، دار التضامن ، 1989م ، ص131 - 132 .
13- كاناكس ، مصدر سابق ، ص126 ، جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين ، بيروت ، ج1980 ، ص221 .
14- وهذا ما ظهر بشكل سافر عام 1994م في الحرب الأهلية التي استمرت 66 يوماً كان أبرز معالمها تحالف القبائل مع التيار الديني كتنظيم وجماعات .
15- أنظر في ذلك :
- مجموعة من الاقتصادين ، الموسوعة الاقتصادية ، تعريب وإعداد ، عادل عبدالمهدي، حسن المموندي ، دار ابن خلدون ، 1985 ، ص139 - 140 .
16- عبدالعزيز الدوري ، التكوين التاريخي للأمــــة العربية ، دار المستقبل العربي ، 1985، ص25 .
17- سمير أمين ، التطور المتكافئ ، دار الطليعة ، بيروت ، ص1985م ، ص16 .
18- بيري أندرسون دولة الشرق الإستبدادية ، ترجمة بديع عمر نظمي ، مؤسسة الأبحاث العربية ، بيروت ، 1983م ص57 - 58 .
19- أندرسون ، مصدر سابق ، ص58 .
20- المصدر نفسه ، ص ص 60 ، 59 .
21- المصدر نفسه ، ص56 .
22- محمود عوده ، مصدر سابق ، ص77 - 78 .
23- سمير أمين ، مصدر سبق ذكره ، ص48 .
24- محمود عوده ، مصدر سابق ، ص79 - 80 .
25- المصدر نفسه ، ص80 .
26- محمود عوده ، مصدر سابق ، ص91 .
27- أنظر في ذلك :
- بيري أندرسون ، مصدر سبق ذكره ، ص56 .
28- سلطان أحمد عمر ، نظره في تطور المجتمع اليمني ، دار العودة ، بيروت ، 1972م ، يعتبر هذا الكتاب من أهم ما كتب عن المجتمع اليمني لتحديد طبيعته الاجتماعية والسياسية وفقاً للرؤية الماركسية التي يغلب عليها الإلتزام بالنصوص الماركسية أكثر من النظر إلى واقع المجتمع وربما يرجع ذلك إلى طبيعة المرحلة التي كتبت فيها الدراسة .
29- محمود عودة ، أزمة الخطاب الماركسي في مصر ، قضايا وشهادات ( الثقافة الوطنية كتاب ثقافي دوري ، مؤسسة عبيال للدراسات والنشر ، بيروت ، خريف 1991 ، ص121 - 135 .
30- أنظر في ذلك ، سيف علي مقبل ، نظره في التطور الاجتماعي لليمن القديم ، مجلة الحكمة عدن ، عدد رقم 52 ، 1977 ، حسين قاسم العزيز ، التطور الاقتصادي الاجتماعي قبل الإسلام ، مجلة الكلمة ،عدن ، عدد رقم 73 ، 1977 .
31- بندلي الجوزي ، من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام ، بيروت ، الإتحاد العام للكاتب الصحفي الفلسطيني 1981 ، ص15 .
32- علي الوردي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، بغداد ، مطبعة الإرشاد ، 1969م ، ج5 ، ص286 .
33- علي الوردي ، مصدر سابق ، ص286 .
34- فلاديمير لوتسكي ، تاريخ الأقطار العربية الحديثة ، ترجمة عفيفي البستان ، دار التقدم ، موسكو ، 1971 ، ص16 .
35- هشام شرابي ، البنية البطركية : بحث في المجتمع العربي المعاصر ، دار الطليعة ، بيروت ، 1987 ، ص59 - 60 .
36- سمير أمين ، الأمة العربية : القومية والصراع الطبقي ، ترجمة كميل قيصر داغر ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، 1988م ، ص19 .
37- محمد جابر الأنصاري ، تكوين العربي السياسي ومغزى الدولة القطرية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1994 ، ص137 .
38- محمد عابد الجابري ، التراث والحداثة : دراسات .. ومناقشات ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1991 ، ص358 .
39- محمد عابد الجابري ، العقل السياسي العربي - محدداته - تجلياته - نقد العقل العربي - 3 - مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1990 ، ص22 - 23 .
40- محمد جابر الأنصاري ، مصدر سابق ذكره ، ص ص 129 - 150 .
41- يرى الأنصاري أن الفراغات الصحراوية الشاسعة في الوطن العربي تشكل قطيعة مكانية بين أجزائه عمرانياً وسكانياً وسياسياً وأن هذه الفراغات قد منعت نشوء تفاعل وتكامل لمجتمع موحد .. أنظر في ذلك :
- المصدر نفسه ، ص ص 37 - 40 .
42- سمير أمين ، الأمة والدولة ، مصدر سابق ، ص43 . مقدمــــــة
سوف نتناول في هذه الفصل طبيعة المؤسسات التقليدية وتأثيرها على مؤسسات المجتمع المدني الحديث ولا يمكن الحديث عنها إلا في إطار عام يربط هذه المؤسسات بدرجة التطور الاقتصادي الاجتماعي وأشكاله السياسية المعبرة عنه ،
وفي ذلك تحديد لأهم خصوصيات المجتمع اليمني التي اتصفت بالديمومة خلال مراحل تاريخية طويلة . وعليه يمكن القول إن الباحث سوف يركز تحليله على موقع القبيلة في المجتمع اليمني في سياق تطور منظمات المجتمع المدني حديثه النشأة من خلال التحليل السوسيولوجي لدور القبيلة كجزء من المجتمع السياسي ومدى قربها من المجتمع المدني ( من خلال بعض أدوارها التي تتماثل مع أدوار المجتمع المدني ) وجدلية العلاقات القائمة بين القبيلة والدولة منذ قيام ثورة 1962م وذلك يتطلب إبراز الجانب الإبستمولوجي المنظم للحياة الثقافية والسياسية للقبيلة والذي يجعل من منظومة القيم والعادات والتضامن القبلي نسقاً أيديولوجياً في مقابل أنساق من الأفكار والقيم وأنماط السلوك المرتبطة بعملية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي يشهدها المجتمع اليمني منذ منتصف القرن الماضي .
طبيعة المؤسسة القبلية
يتسم التكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع اليمني باستمرار البنى التقليدية خاصة البنية القبلية بمحدداتها الاجتماعية والثقافية وقد ساعد على استمرار البنية القبلية أوضاع عدة أهمها ضعف وركود نمو وتطور قوى الإنتاج في المجتمع حيث لم يطرأ أي تغيير جوهري على البناء التحتي طوال فترات تاريخية طويلة بل كان الضعف وبطء الحركة أهم سمة تميز درجة التطور الاقتصادي وتقسيم العمل إضافة إلى ذلك ارتبط استمرار البنية القبلية شرطياً بضعف الدولة وجهازها الإداري والسياسي نتيجة للصراعات السياسية والدينية والقبلية بين مختلف القوى الاجتماعية المكونة عبر تحالفها نخبة حاكمة متباينة في جذورها الاجتماعية وفي رؤيتها لأسلوب العمل السياسي في جهاز الدولة .
وتتباين القبائل من حيث الحجم ونمط المعيشة ودرجة قربها أو بعدها عن نسق السلطة الرسمي وتتحد في الارتباط « المزعوم » بهوية مشتركة كالانتساب إلى أصل واحد وتعتبر الأسرة الممتدة Extended Family هي القاعدة العريضة التي تتكون منها القبيلة ثم تنقسم بدورها إلى أفرع داخلية « بدنات » ، « أفخاذ » ، « بطون » أي أن هناك أقسام فرعية لكل قبيلة بما يعني ذلك من اتسام البناء القبلي بالإنقسامية والتجزئية ويعتبر « البعد القرابي » العامل الرئيسي والأكثر أهمية في البناء القبلي خاصة في مناطق الشمال والشمال الشرقي من البلاد . في حين تتسم العلاقات الاجتماعية بالطابع الفلاحي والفردى المعتمد على أساس الارتباط بالأرضي الزراعية والاندماج في إطار السلطة الإدارية والسياسية للدولة المركزية في كل من تهامة ، تعز ، إب ، عدن . وعليه فقد ظل البناء الاجتماعي في هذه المناطق يرتكز على التنظيم الإداري وعلى الإقامة المشتركة وما يرتبط بها من عمليات الاتصال وتنمية المصالح المشتركة(1) . إن ما يجمع بين الأفراد في هذه المناطق هو عامل الارتباط والاشتراك في المكان أكثر مما يجمع بينهم عامل النسب أو القرابة ، ولعل النظرة السطحية المعتمدة على الوصف الخارجي لطبيعة القبيلة اليمنية وعلاقاتها الاجتماعية جعلت بعض الباحثين المحليين والأجانب يعممون نتائج دراساتهم الوصفية بل ويعتبرونها علامات ومميزات ثابتة . من ذلك على سبيل المثال النظر إلى القبيلة كوحدة اجتماعية اقتصادية سياسية منغلقة على ذاتها مستمرة في بروزها عبر مراحل التطور التاريخي للمجتمع اليمني ، وينظرون إلى العصبية القبلية « التضامن » Corporation كمحدد أساسي يربط أفراد القبيلة القائمة على الأصل المشترك ، وفي هذا السياق يبرز المنظور المختلف الذي يقدمه الباحث في تحليله للبناء القبلي ومحدداته الاجتماعية الثقافية ولطبيعة الدور السياسي للقبيلة الذي أعتبره البعض نتيجة لقوة القبيلة تجاه الدولة .
والباحث ينطلق في تحليله من خلال قراءة منهجية فاحصة للتاريخ الاجتماعي والسياسي للمجتمع اليمني(2) وبالرغم من عدم توافر دراسات كافيـــة تعتمـد على الشواهـد الماديــــة المستنــدة إلــى علمي التاريــخ والآثـــار « كالنقوش - الحفريات » إلا أن ما توفر من دراسات وهي متباينة تطلبت من الباحث قراءة موضوعية دون إسقاطات معاصرة لفهم واقع اجتماعي سابق، من هنا أعتبر الباحث أن القول بانغلاق القبيلة على ذاتها وباعتبارها قائمة دوماً على البعد القرابي والأصل المشترك نظرة تتجاوز حقيقة الواقع المجتمعي وتبتعد عن التحليل السوسيولوجي القائم على منهج جدلي ينظر إلى الظاهرة في سياقها الكلي وفي إطار مرحلة تاريخية محددة .
إن قراءة التاريخ الاجتماعي السياسي للمجتمع اليمني توضح لنا حقيقة بالغة الأهمية هي أنه في كثير من مراحل التطور التاريخي التي برزت الدولة فيها كجهاز سياسي وإداري قوي ، اتجهت التكوينات القبلية إلى الإضمحلال والإندماج في إطار تلك الدولة ومنظومتها الثقافية والأيديولوجية ، وهذا يعني أن القبيلة لم تكن أبداً قوة فوق الدولة أي لا تتأثر بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل على العكس من ذلك فالقبيلة في المجتمع اليمني هي وليدة نتاج الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عندما تتطور قوى الإنتاج وعلاقاتها وتتكون بنى فوقية سياسية ودينية تكون القبيلة في سياق ذلك التحول وضمن آلياته ، وعندما تنهار قوى الإنتاج ومؤسساتها الفوقية تكون القبيلة ضمن عوامل ذلك الإنهيار وإحدى مسبباته ، فالقبيلة تتصف بعقلية « انفصالية » تنزع دوماً إلى التوحد أو الإنقسام وفقاً للنزعة البرجماتيه لرموز النظام القبلي ، فإذا كانت القبيلة تسعى إلى الإندماج في كيان سياسي أكبر منها فذلك يعني ضرورة إشراك واحتلال مراكز سياسية هامة لرموز القبيلة في داخل جهاز الدولة ، ويعني ذلك أيضاً استمرار حصول الرموز القبلية والمشيخية لعدة امتيازات مادية ومعنوية والعكس هو الصحيح(3) أي أنه في حالة ضعف الدولة تكون القبيلة هي الوريث لامتلاك السلطة والثروة وتكون القبيلة هي أداة سياسية في حالة الضعف التي أصابت الدولة عن طريق النزاعات السياسية والقبلية مع جهاز الدولة ومؤسساتها .
إن النظر إلى العصبية كمحدد أساسي للعلاقات الاجتماعية معتمد على البعد القرابي والأصل المشترك يبتعد كثيراً عن الصواب . فعلاقة النسب والانتماء إلى أب واحد لأبناء القبيلة حقيقة تاريخية بمقدار ماهي تعبير عن الحاجة إلى إعادة صياغة علاقات التعاون(4) ففي مواجهة عوامل طبيعية قاسية واجتماعية تضطر الجماعات البشرية للجوء إلى إقامة علاقات وثيــــقة(5) وهذا يعني أن النسب أمر وهمي لا حقيقة له ونفعه إنما هو في هذه الوصلة والإلتحام .
أي أن عملية التلاحم والتضامن القبلي هما « ايديولوجيا » أكثر من وقبل أن يكونا واقعاً(6) . ويلعب الأساسي الاقتصادي دوراً هاماً في تحديد العلاقات الاجتماعية داخل القبيلة . فلما كان الأساس الاقتصادي الذي ترتكز إليه القبيلة أساس غير مستقر ومعرض للأزمات المتلاحقة فإن ذلك يحتم عليها السعي إلى الحفاظ دائماً على أعلى درجات التضامن فيما بينها(7) وأن تعاون أعضاء القبيلة شرط ضروري للبقاء ولا يقتصر الأمر على التعاون من أجل الإنتاج بل يتعدى ذلك إلى درء خطر داهم ، فالتعاون إذا يفترض أعلى درجات التضامن وأقواها كما تبلورها العصبية كمحدد أساسي يعتمد على البعد القرابي « النسب » والإنتماء إلى الأصل المشترك وكما يتجسد في منظومة القيم والعادات والتقاليد المشتركة التي تدفع بالتضامن لأعلى مستوياته ، ويساعد على ذلك كثيراً مسألة هامة يراها البعض « ديمقراطية قبلية »(8) وتلك نظره قاصرة في فهم حقيقة الحياة الاجتماعية ومحدداتها ذلك أنه لا يمكن القول بديمقراطية في سياق تكوينات قبلية ، فالديمقراطية كأسلوب لنظام حكم ومنظومة قيم سياسية ترتبط بنمط إنتاجي أرقى من ذلك النمط الذي تسود فيه القبيلة بمضامينها ، ولعل بعض الباحثين قد رأوا في المساواة بين أفراد القبيلة بمضامينها دليلاً على وجود ديمقراطية ، والحقيقة أن سواسية أفراد القبيلة تأتي نتيجة لانعدام التراتيبية فيها وهذا أمر طبيعي طالما أن أسلوب الإنتاج الأساسي الذي تعتمد عليه القبيلة هو أسلوب إنتاج الكفاف الذي لا ينتج عنه فائض يتيح امتلاكه تراكم للثروة وحدوث تمايز فئوي أو طبقي .
فالتراتيبية في أي مجتمع ترتبط بقدرة المجتمع على إنتاج فائض اقتصادي ، إلا أنه يمكن القول أن التمايز الاجتماعي في القبيلة خاصة في سياق التغلغل الرأسمالي في المجتمع وحدوث تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتعاظم ظاهرة الهجرة والحراك الاجتماعي واستخدام النقود في العمليات الاقتصادية والتبادلية كل ذلك أدى إلى تمايز اجتماعي واقتصادي في القبيلة وفقاً لمعايير عدة منها الملكية ، حجم الفائض والتراكم الرأسمالي ، التملك القانوني للأرض ، وتولي مناصب إدارية وسياسية على المستويين المحلي والوطني ، كل ذلك - وغيره - ساعد على بروز تراتيبية في البناء القبلي مما تنتفي معه مقولة الديمقراطية القبلية التي استنتجها البعض من نظرتهم لوضع القبيلة خارج إطار عام هو المجتمع وعزلها عن السياق التاريخي الذي يشترك ويتداخل فيه العامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
« والديمقراطية القبلية » رآها الكتاب الأجانب بنظرة سطحية لا تدرك طبيعة المجتمع وعلاقاته ، ورآها بعض الكتاب المحليين - إضافة إلى ذلك - كتبرير أيديولوجي للممارسات السياسية القائمة في المجتمع حيث يرتبط بعض هولاء الكتاب بالنخب السياسية الحاكمة ذات التكوين القبلي وما لذلك من امتيازات عدة .
تأرجح القبيلة بين المجتمع
المدني والمجتمع السياسي
أولاً : القبيلة كجزء من المجتمع السياسي :
وفقاً للعملية التي تمت بها تكون الدولة في المجتمع اليمني القديم استمرت بعض تلك المكونات مثل القبيلة تلعب دوراً هاماً من أجل الحفاظ على دورها السياسي في أي عملية تحديثية يناط بها بناء الدولة الحديثة ولا يرجع ذلك فقط إلى دور القبيلة بل يرتبط أيضاً بدور الدولة ذاتها ، أو بمعنى آخر دور النخبة الحاكمة في إعادة إنتاج القبيلة ضمن عملية تحالف تضم رموز القبيلة والمؤسسة العسكرية وكبار موظفي الدولة ورجال الدين إضافة إلى « أدوار تكميلية » لبعض من المثقفين وبعض السياسيين من رموز الأحزاب المعارضة ، ومن هنا كانت بداية خلق قوى وسطية انتهازية تعمل على إزاحة القوى الحديثة من عملية بناء الدولة والتحالف بدلاً عنها مع القوى التقليدية خاصة المشائخ ، ومن هنا أيضاً لعب مشائخ القبائل دوراً مزدوجاً عبّر عن فهم ووعي بالعمل السياسي وفقاً لأيديولوجية القبيلة ذات الإطار البراجماتي .
في هذا السياق يمكن إبراز دور القبيلة كجزء من المجتمع السياسي من خلال تتبع تاريخي لبناء الدولة الحديثة التي برزت عام 1962م بعد نجاح ثورة 26 سبتمبر ويعني ذلك الكشف عن جملة العوامل والمحددات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية « المحلية ، الخارجية » التي ساعدت القبيلة على أداء دورها المزدوج كجزء من المجتمع السياسي وكجزء من المجتمع المدني ، وقوة تؤيد سياسات التحديث لكنها تعمل في الوقت ذاته على إعاقة تنفيذ تلك السياسات ، وقد أرتبط ولوج القبيلة في بنية الدولة الحديثة بعدة عوامل أهمها :
1- طموح الزعامات القبلية .
2- دور الدولة ذاتها « النخبة الحاكمة » .
3- عدم الاستقرار السياسي « الصراع » .
4- عوامل خارجية .
5- التخلف المجتمعي العام في اليمن .
وتتداخل هذه العوامل جدلياً فيما بينها ، إذ يتعذر فصل أحد هذه العوامل أو إغفالها ، فإذا كانت القبيلة في ظل حكم بيت حميد الدين قبل 1962م تقع خارج جهاز الدولة الرسمي حيث عمل الإمام يحيى ومن بعده الإمام أحمد على إضعاف رموز النظام القبلي المشائخي عن طريق عدة اعتبارات منها إثارة النعرات القبلية لتأجيج الصراع القبلي ، أخذ رهائن من كبار مشائخ اليمن(9) ، احتكار السلطة في أسرة بيت حميد الدين وبعض الأسر المتحالفة معها من نفس طبقة السادة وأكثر من ذلك حدد الفكر السياسي الزيدي إطاراً مرجعياً لتحديد من يحق لهم الإمامة واقتصر ذلك على أن يكون الإمام علوياً فاطمياً(10) أما في فترة ما بعد 1962م حيث كان ينظر إلى الثورة كتغيير سياسي واجتماعي واقتصادي من شأنه أن يقوض الأسس والدعامات الاجتماعية والسياسية التي استند عليها النظام الإمامي خاصة وأن من أهداف الثورة إلغاء الفوارق بين الطبقات وبالتالي إقامة نظام سياسي حديث تكون المواطنة المتساوية أساس التعامل مع الدولة وبالتالي فإن علاقة الدولة بالمواطنين ستكون من خلال مؤسسات رسمية حديثة تتجاوز الوسطاء من أمثال الرموز المشيخية . لكن الواقع العملي كان عكس ذلك حيث أعلنت حكومة الثورة منذ يومها الأول نداء إلى المشائخ كي يكونوا سنداً للنظام الجديد بالرغم من أن معظم شيوخ القبائل لم يكن لهم أي دور وطني ضمن الحركة الوطنية اليمنية ولم يكن لبعضهم أي قوة حقيقية يعتمد عليها مقابل قوة الدولة وهنا بدأ الدور الثنائي للدولة اليمنية بعد الاستقلال للتعامل مع القبيلة « شمالاً وجنوباً » .
ففي شمال اليمن الذي سمي بالجمهورية العربية اليمنية منذ 26 سبتمبر 1962م تعاملت الجماعات الحاكمة في أول حكومة للثورة مع القبيلة بكثير من عدم الوضوح والتذبذب في حين كان النظام الجمهوري الوليد محتاجاً لدعم ومساندة كل أبناء اليمن اتجهت الدولة إلى طلب الدعم من القبائل حيث وصل إلى صنعاء في أكتوبر 62م أكثر من خمسمائة شيخ تعهدوا بالولاء للنظام الجديد(11) .
وفي 31 / 11 / 1963م صدر مرسوم بإنشاء مجلس أعلى لشئون القبائل برئاسة رئيس الجمهورية(12) وهذا يعني أن أول حكومة في النظام الجمهوري الجديد اجتذبت المشائخ وأشركتهم في هيئات سلطة الدولة العليا متطلعة بذلك نحو توسيع وتعزيز قاعدتها الاجتماعية(13) ولهذه الأسباب لم يطمح الكثير من المشائخ إلى إعادة الملكية بعد سقوطها وإنما أرادوا الإستيلاء على السلطة السياسية في النظام الجمهوري الجديد . ودلالة ذلك أن النظام الجمهوري لم يلغ الدور السياسي لطبقة الإقطاع من رموز النظم القبلي بل أعطاها آلية حديثة للولوج إلى سدة الحكم(14) وهذا يوضح إلى حد كبير استمرار العلاقات التقليدية وقوة النفوذ القبلي في الدولة والمجتمـــع .
يضاف إلى ذلك أمر بالغ الأهمية يتمثل في إعادة إنتاج القبيلة من قبل الجماعات الحاكمة خاصة وأنها جاءت إلى السلطة منذ نوفمبر 67م نتيجة لانقلابات عسكرية لذلك اعتمدت النخب الحاكمة على جذورها القبلية للحماية وكسب التأييد ، فهم موضع ثقة علاوة على كونهم قوة محاربة ، وعليه فقد اعتمدت الشخصيات السياسية الحاكمة على جذورها القبلية وإعادة إنتاج القبيلة في مقابل إزاحة القوى الاجتماعية الحديثة التي كانت نواة لمجتمع مدني أرتبط بمجمل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
لقد انتهجت الدولة طريقاً خاطئاً في التعامل مع رموز القبيلة فبدلاً من التعامل مباشرة مع كل أفراد المجتمع عن طريق المشاركة السياسية وتحقيق مشروع حضاري مثلت الثورة بدايته ، كانت الجماعات الحاكمة وهي متباينة في جذورها الاجتماعية ولا تستطيع صياغة تصور سياسي يبلور أهداف الثورة المعلنة ويجعلها قابلة للتحقيق الفعلي إضافة إلى ذلك فإن النظام الجمهوري الجديد قوبل بقوى اجتماعية تعارضه وتساندها قوى عربية وأجنبية(15) أججت الصراع السياسي والعسكري بين قوى الثورة والقوى المضادة حتى عام 70م . خلال هذه الفترة أعتمد النظام الجديد على مساعدة الجيش المصري (16) وكان لبعض علاقاته بالقبيلة دوراً هاماً في إعادة إنتاجها حيث عمل قادة الجيش المصري على تقوية زعماء القبائل الموالين للنظام الجمهوري(17) وكان ذلك أسلوب القادة السياسيين اليمنيين أيضاً، ويرجع ذلك إلى قصور في الوعي السياسي لطبيعة العمل الثوري ولطبيعة المرحلة الجديدة ومشروعها التنموي ، وقصور في إدراك ومعرفة القوى الاجتماعية صاحبة المشروع الحضاري الذي كانت الثورة بدايته ، ويمكن تتبع بروز الجناح المشيخي في سلطة الدولة منذ أول تشكيل وزاري في أول حكومة للثورة ، حيث ضمت الوزارة الأولى حقيبة خاصة لشئون القبائل واستمرت تلك الحقيبة في الحكومات التالية(19) علاوة على تشكيل مجلس أعلى لشئون القبائل وإعطاء كل شيخ رتبة وزير ومخصصات مالية ثابتة، إضافة إلى حقه في الحكم المحلي لمنطقته باعتباره ممثل الدولة فيها ، وهكذا شكل جذب ولاء القبيلة وإغرائها مادياً ومعنوياً إلى حد أصبحت معه تشكل قوة ضغط على النظام السياسي(19) وأصبح المشائخ الفئة المستفيدة الأولى اقتصادياً من الثورة(20) ولهذا السبب لم يطمح الكثير من المشايخ إلى إعادة الملكية أو محاربة الجمهورية وإنما أرادوا الإستيلاء على جهاز السلطة وتحديد سياسة الدولة وفقاً لرؤيتهم ومنها أبرز انقلاب 5 نوفمبر 1967م ملامح السلطة التي حلم بها زعماء القبائل ساعدهم في ذلك بعض كبار ضباط الجيش الذين عقدوا تحالفاً مع زعماء القبائل وعملوا في الوقت ذاته على إزاحة القوى السياسية الراديكالية التي رأت في الثورة بداية لتنفيذ مشروع نهضوي من شأنه تفكيك البنى التقليدية وإزاحتها مقابل بروز بنى حديثة متطورة تدفع بالمجتمع اليمني نحو آفاق مشرقة بالتقدم والتنمية ، مثلت القوى الراديكالية القوى الحزبية بانتمائها القومي ، الماركسي والكثير من الفئات الاجتماعية مثل الطلاب ، العمال ، والمثقفين ، وغالبية الفلاحين ، ومن هنا عملت القوى التقليدية بعد سيطرتها على السلطة عقب انقلاب 1967م على القضاء كلية على قوى اليسار من الحزبيين وأفراد المقاومة الشعبية(21) وعليه فإن تطهير الجيش من اليساريين وأفراد المقاومة الشعبية طمأن المملكة السعودية وكان ذلك أقوى ما قدمه « العمري »(22) للسعودية لترضى عن النظام في اليمن وتعترف به ، بمعنى آخر كان القضاء على اليسار هو ما حاول « العمري » التقرب به للسعودية لينال رضاها والتصالح معها(23) إضافة إلى ذلك قام « العمري » بتوسيع دائرة نفوذ وسيطرة القبائل إلى حد تدخلهم في صنع أي قرار مهما كانت خطورته ووصل الأمر إلى حد أن رئيس المجلس الجمهوري « عبدالرحمن الإرياني » ترك البلاد غاضباً في إحدى المرات إلى منتجع بسوريا بعد أن وجد نفسه رئيساً بدون سلطات ولا يستطيع ممارسة سلطاته ثم عاد مرة أخرى بعد أن تدخل عدد من رجال اليمن ومنهم المشائخ أنفسهم(24) .
في عام 1971م حيث أجريت أول انتخابات عامة لمجلس نيابي أسفرت النتائج عن فوز رموز النظام القبلي بمعظم مقاعد المجلس المنتخب إلى حد أنه أصبح شبيه بمجلس شيوخ للقبائل وليس مجلس نيابي للشعب (25) في هذا الإطار ونتيجة لسيطرة المشائخ على جهاز الدولة تم إنفاق معظم ميزانية الدولة كمخصصات مالية للمشائخ إلى حد أن وزارة « النعمان » قدمت استقالتها بعد ثلاثة أشهر ونصف منذ تشكيلها وقد علل النعمان استقالته بقوله « عدم إمكانية إدارة حكومة فيما يستنزف زعماء القبائل الموازنة العامة للدولة(26) في هذا الصدد يمكن القول إن عدم الاستقرار السياسي ودور العوامل الخارجية إضافة إلى مظاهر التخلف القائمة كل ذلك أسهم بشكل مباشر وغير مباشر علاوة على طموح الرموز القبلية وتطلعهم لاحتلال مواقع سياسية هامة في بنية الدولة الحديثة ، ففي حالة الصراع السياسي والانفلات الأمني كان لشيوخ القبائل دوراً هاماً في ذلك إذ أنهم أحد أطراف الصراع على السلطة وهم من ناحية أخرى آليات تحقيق مصالح قوى خارجية استطاعت عن طريقهم ومن خلالهم تحقيق مصالحها خاصة « السعودية »(27) التي كان لها علاقات وطيدة مع رؤساء معظم القبائل التي تدعمهم سياسياً ومالياً ، وكان لضعف الدولة في شمال اليمن أثره في بروز قوة المشائخ واستقوائهم بالدعم الخارجي حيث إنهم يشكلون قوة محاربة كبيرة العدد تتسم بتنظيم اجتماعي يخضع له جميع الأفراد ، وقد تعاظم الدور القبلي المشيخي في البناء الرسمي للدولة منذ انقــــــلاب نوفمبر 1967م (28) بل وأصبحت القبيلة اليمنية آلية للتدخل الخارجي في شئون اليمن مثال ذلك الصراع الذي حدث بين قبائل حاشد وبكيل عام 1988م اشتركت فيه السعودية وكان ذلك نتيجة لالتجاء القبيلة إلى دول مجاورة طلباً للمساعدة وذلك بمنطق القبيلة التي لا تدرك الولاء الوطني وأهميته بل تبحث لها عن سند أو حليف في أي مكان(29) من هذا المنطلق ظلت قبائل اليمن تمثل دويلات قائمة بذاتها ضمن الدولة الحديثة الأمر الذي أثر على أهم الأسس والدعائم لقوة النظام السياسي الحديث(30) .
وإذا كان اتجاه الشطر الشمالي من اليمن نحو السعودية واضحاً وأكثر ارتباطاً منذ عام 70م(31) فإن إلغاء ذلك الارتباط والتوجه كان من أهم مطالب الجبهة الوطنية المعارضة وأحد شروطها للحوار مع النظام الحاكم في حقبة الثمانينات .
وإذا كان الرئيس إبراهيم الحمدي 73 - 77م قد حاول إنهاء النفوذ القبلي وتكتلاته في جهاز الدولة ومؤسساتها(32) فإن الرئيس علي عبدالله صالح 78 - 90 ( كما يرى الخطيب ) قام حكمه معتمداً على قبيلة حاشد التي ينتمي إليها والاعتماد على أبناء قبيلته في أهم المناصب العسكرية والأمنية وتقليد المشائخ الآخرين مناصب هامة في الدولة(33) . في حين كان المشائخ قبل الثورة مجرد زعماء في إطار تجمعاتهم المحلية ولم يكونوا أكثر من واسطة ضعيفة بين الدولة وبين قبائلهم ولكنهم لم ينضموا للجسم السياسي للدولة وذلك يرجع إلى سياسة النظام الإمامي الذي استطاع تجاوز المشائخ وتحجيم أدوارهم السياسية .
في حين اعتمدت قوى الثورة منذ أيامها الأولى على دعم المشائخ فأعلنت في 21 أكتوبر 62م إعلان دستوري تضمن تشكيل مجلس للدفاع تنص المادة التاسعة منه على أن يتألف من شيوخ الضمان ويكون لكل شيخ مخصصات وزير دولة(34) ويتولى كل شيخ مهمة المحافظــة على أمن منطقتـــــه (35) ومن هنا بدأ انضمام المشائخ إلى بنية الدولة ومؤسساتها واحتلالهم مناصب سياسية هامة فتحولت فئة المشائخ من فئة ريفية قبلية إلى فئة ريفية حضرية ووفقاً لذلك أعادت صياغة مواقفها السياسية والاجتماعية والتزاماتها في إطار وضعها الجديد ولهذا اتسمت في تفكيرها وممارساتها العملية بالإزدواجية والانتهازية وهنا مثل المشائخ الفئة الأولى المستفيدة اقتصادياً وسياسياً من الثورة(36) .
حجم تواجد مشائخ القبيلة اليمنية في أهم مؤسسات الدولة
منذ قيام الثورة عام 62م وحتى عام 80 مصدر الجدول :
- اعتمد الباحث في تركيب هذا الجدول بشكل أساسي على : محمد الظاهري ، الدور السياسي للقبيلة في اليمن ، رسالة ماجستير ، جامعة القاهرة ، 1995م ، ص ص 127 - 157، إضافة إلى كتاب : جلوبافسكايا ، التطور السياسي في الجمهورية العربية اليمنية (62-85 ) ، ترجمة محمد عبدالله البحر ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، 1988 .
موقف القبيلة من عملية بناء الدولة الحديثة :
إن تأثير شيوخ القبائل على سياسة الدولة يمكن إبرازه من خلال ثلاثة قضايا أساسية استهدفت كلها بناء الدولة الحديثة وهي الثورة ، الوحدة ، الديمقراطية ، ففي المرحلة الأولى التي استهدفت بناء دولة حديثة في اليمن كانت عملية الإطاحة بالنظام الإمامي الملكي بداية فعالة ومهمة لولوج اليمن إلى مرحلة التحديث حيث تعتبر الثورة تاريخاً فاصلاً بين عهدين ومرحلتين متباينتين من تاريخ المجتمع اليمني .
ولكنه لما لم يكن للضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة وقادوا النظام الجمهوري الجديد أي تصور شامل لما بعد الثورة نتيجة لاعتبارات عدة منها الاهتمام الأساسي بتفجير الثورة وإزاحة الإمامة كنظام سياسي ثم تباين الجذور الاجتماعية للضباط الأحرار كل ذلك ساهم في عدم بلورة تصور سياسي شامل لبناء الدولة الحديثة في اليمن ولم يكن أيضاً لديهم تصور واضح لكيفية التعامل مع شيوخ القبائل التي انقسمت بدورها إلى فريقين الأول داعماً للثورة ومؤيداً لها والآخر معادياًً للثورة والنظام الجديد . ووفقاً لذلك نشبت الحرب الأهلية بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة لمدة ثمان سنوات أوجد ذلك تدخلاً خارجياً داعماً لكلا الطرفين(37) . الجدير بالذكر أن شيوخ القبائل اليمنية ساعدت على عدم الاستقرار السياسي في هذه المرحلة ولعبت أدواراً مزدوجة مع وضد النظام الجمهوري في الوقت ذاته ، إضافة إلى بروز الصراع السياسي الأيديولوجي بين التيارات السياسية المتناقضة التي امتلأت بها الساحة اليمنية ، إلى درجة أنه تشكل خلال هذه الفترة 62 - 67م إحدى عشر حكومة منها حكومة مدنية واحدة استمرت ثلاثة شهور وعشرة أيام ، وهنا لعب شيوخ القبائل أدواراً هامة في استمرارية الصراع السياسي العسكري وكان موقفهم لدعم النظام الجمهوري مرتبط بشروط أهمها :
1- استمرار الدعم المادي .
2- التطلع لمراكز سياسية وإدارية هامة .
3- محاربة القوى الحزبية « التنظيمات السياسية المدنية » .
4- أن يكون المشائخ واسطة بين الدولة والقبائل .
ولذلك فإن أي إجراء سياسي لمركزة الدولة وتحديث مؤسساتها العسكرية والإدارية كان يقابل بمعارضة قوية من شيوخ القبائل حتى تلك التي وقفت في البداية داعمةً للنظام الجديد تحول موقفها وأصبحت متأرجحة بين التأييد الكامل للثورة وبين أخذ حصتها أولاً ثم الدعم المشروط والحذر للدولة الجديدة ، هذا الوضع المتميز بعدم الاستقرار السياسي أدى بالرئيس السلال إلى الإفصاح عن رفضه للحلول الوسط(38) وأنه لا يقبل التفاوض حول طبيعة النظام الجمهوري والتمسك به ولذلك اتخذ عدة تدابير منها إصدار ميثاق وطني يتضمن الدعوة والحفاظ على الجمهورية والدفاع عنها وأعلن عن إنشاء مجلس أعلى للقوات المسلحة يتولى شئون البلاد عسكرياً وفي ذلك دلالة واضحة على إقصاء تأثير شيوخ القبائل على المؤسسة العسكرية(39) .
لقد لعب شيوخ القبائل ومختلف أنصارها دوراً هاماً في إفراغ الثورة من مضمونها الاجتماعي التقدمي ساعدهم في ذلك التنازل المستمر من جانب القوى الثورية إلى درجة أن « الجمهورية التي ظهرت عام 70م كانت نسخة مشوهة من الجمهورية التي ظهرت عام 1962م(40) .
ذلك أنه بعد انتهاء الحرب الأهلية وإتمام المصالحة وفقاً لشروط الكتلة التقليدية المتحالفة عاد أنصار الملكية وأعطى لهم منصب في مجلس الرئاسة واثنا عشر مقعد في البرلمان وثماني مقاعد في الحكومة . وأعلن عن دستور دائم للبلاد في 28 سبتمبر 1970م تضمن إلغاء الحزبية وكان ذلك هدفاً أساسياً لجميع القوى التقليدية من شأنه إعطائهم شرعية لضرب القوى والتنظيمات السياسية الفعالة التي كانت نواة لمجتمع مدني حديث .
إن تأثير القوى القبلية على سياسة الدولة بدا واضحاً في هذه المرحلة « التي اتسمت بسيطرة الجناح القبلي المشيخي على جهاز الدولة » في اتجاه تصعيد الخلاف بين شطري اليمن خاصة بعد مقتل مجموعة من المشائخ في 21 / 2 / 1972م من قبل السلطة الحاكمة في عدن وهنا تجمع مشائخ الشمال حيث عقدوا مؤتمراً في منطقـــــة « ريمة حمــــيد » في 10 / 3 / 1972م (41) أتفقوا خلاله على عقد صلح شامل بين مختلف القبائل لمدة عام « عبارة عن هدنة » وأدانوا في هذا المؤتمر حكومة عدن واستمروا في توحيد صفوفهم حيث عقدوا اجتماع آخر في مدينة « تعز(42) سمي بالمؤتمر الشعبي العام في الفترة من 29 - 31 يوليو 72م طالب المؤتمر الدولة في الشمال بتحديد موقف واضح من الجبهة القومية الحاكمة في عدن وكان ذلك يعني ضرورة تأييد الدولة لمطالب المشائخ في إدانة حكومة الجنوب حيث أنه بعد شهر من ذلك التاريخ في يوم 26 سبتمبر 72م وصل تصاعد الصراع بين الشطرين إلى الصدام المسلح وكانت أول حرب نظامية بين الدولتين الحديثتين في شطري اليمن .
في 18 / 6 / 1974م عقد مؤتمر قبائل اليمن « مؤتمر المعمر »(43) أيدوا فيه سياسة الرئيس « الحمدي »(44) لكنهم أشاروا إلى خطورة أي محاولة لإزاحتهم أو التقليل من أدوارهم وفي هذه الأثناء أفصح الرئيس الحمدي عن مشروعه التحديثي لبناء دولة مركزية تعمل على تحديث المؤسسة العسكرية وتقويتها وأزاح الرموز المشيخية من مناصبهم السياسية والإدارية وأعلن الحمدي صراحة أن علاقة الدولة بالشعب ينبغي أن تكون مباشرة لا من خلال واسطة الشيوخ الذين اعتبرهم أيضاً معيقي تحقيق الوحدة اليمنية ، ورداً على ذلك انعقد مؤتمر السلام الثاني « بخمر » 11 - 12 نوفمبر 75م وعقد أيضاً في نهاية 76م مؤتمر في منطقة « السر » تضمنت تلك المؤتمرات قرارات تحض الدولة على وجوب احترام القاعدة الشعبية التي تمثلها القبائل وأعلنوا معارضتهم لسياسة الحمدي الذي أدرك بدوره أن هناك مؤامرات ضده وضد مشروعه التحديثي . لكنه لم يتخذ احتياطات وتدابير وقائية بل زاد من هجومه على الشيوخ بقوله « إن مراكز القوى قد تساقطت ولن يُسمح بعودتها وأن المؤامرات ضد الدولة تحاك من قبل أصحاب الميزانيات(45) الضخمة والبطون المنتفخة الذين احترفوا التجارة بالشعب » ووسع الحمدي دائرة صداماته مع البرجوازية الناش !!ومركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان يتخذ المركز من مدينة تعز في الجمهورية اليمنية – مقر رئيسياً له
هو مؤسسة مدنية خاصة غير حكومية وغير ربحية تعمل بحيادية سياسية تامة ولا تتبع أي جهة حزبية أو غير حزبية، وهو هيئة علمية فكرية تستهدف تعزيز قيم حقوق الإنسان في اليمن والعالم العربي ملتزماً بكافة المواثيق والعهود والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة
والمركز متخصص في نشر الوعي بحقوق الإنسان عن طريق الأنشطة والدورات التدريبية واللقاءات الفكرية والأرشيف المكتبي والمطبوعات والنشرات الدورية.
* حاصل على الصفة الاستشارية في المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأمم المتحدة .
#محمد_النعماني (هاشتاغ)
Mohammed__Al_Nommany#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزمة الحوار بين الحضارات تدفع إلى التطرف
-
آثارُ مأرب..في اليمن !!!
...
-
إنتشارُ الأسلحة والتهاوُنُ مع المختطفين وغيابُ العدالة أهَمّ
...
-
العلماء الروس حول دور الدين في الحياة السياسية للشرقين الأدن
...
-
اليمن الحضارة الاثار والانسان
-
زيارة للسجن المركزي بصنعاء في الجمهوريه اليمنيه
-
قمه الدول الثمان في روسيا واهميه بلورة رويه واضحة لضمان امن
...
-
التهديدات.. للريئس اليمني علي عبدالله صالح !!!بين الشرعية ال
...
-
قي اليمن 75%من اليمنيين يعانون من امراض تتعلق بتلوث البيئة
-
روسيا والاتحاد الاوروبي ..الخلافات قايمه ...لكنها ليست عائقا
...
-
انتكاسة ثورة الاتصال والديمقراطية نحو المزيد من الفردية والع
...
-
الولايات المتحدة الأمريكية تفقد حلفاءها
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|