الثلاثاء 25 مارس 2003 04:30
تمثِّل العودة لتناول علاقة الفرد (أو العضو الحزبي) بالجماعة في سياق عمل جماعي(مؤسّسي، حزبي) عودةً للبدء أو البداية،أو نوعاً من إعادة التفكير في ألف باء العمل السياسي الحزبي أو المؤسسي. وهذه العودة للبدايات عملية شاقة،و لكنها أيضاً ضرورية لا مفرّ منها. فالأزمات العامة(والشخصية أيضاً) عندما تكون شاملة وعميقة،تدفعنا لإعادة فتح الحوار حول الأسس و المبادئ والبديهيات التي ننطلق منها، أو بالأحرى فإن الأزمات الشاملة العميقة،تفرض دائماً العودة إلى البدايات و البدهيات، لإعادة تأسيسها وبنائها من جديد في الذهن الفكري السياسي،بما ينسجم مع حصيلة التراكم التاريخي و حركة الواقع. وهكذا تكتسب المفاهيم أو البديهيات مضامين ودلالات جديدة في كل ظرف تاريخي.
هذه العودة للبدايات أو البديهيات لا يمكن خوضها بعقل(بدائي)أي بعقل ينطلق من الصفر أو من اللاشيء في مقاربة المفاهيم و الأشياء. إننا نعود لنؤسس من جديد بعقل معرفي لديه خبرة التجربة الواقعية وحصيلتها،و ليس بعقل أبيض لا يحتوي ركائز معرفية أو تصورات حول التجارب المختزنة و التجارب الواقعية.
إن إعادة التأسيس تستلزم العودة بكل ثقلنا المعرفي والحياتي،لتلك البدايات لإعادة بنائها على مرتكزات أخرى مستفيدين من حصيلة التجارب التاريخية و الواقعية،و ما أفرزته من أخطاء في التصوّر و السلوك.
يرى أصحاب العقل(التطهّري)أو(النسفي) انطلاقاً من فشل التجارب الواقعية أو من النتائج السلبية الحاصلة في الواقع،ضرورة القيام بعملية تطهيرية أو نسفية أو إجتثاثية إستئصالية لأفكارنا و تصوراتنا.
فمثلاً تصبح(القومية)فكرة هلامية و موضة قديمة عندهم،و العولمة في رأيهم لا تستوعب وجود قوميات،مثلما لا تقبل ولا تتقبّل وجود(أحزاب سياسية) و في النهاية العولمة لا تنسجم مع وجود(جماعات)بل مع وجود أفراد. و من هنا نستطيع أن نفهم شيوع الإعلاء من شأن الفرد هذه الأيام(و بالضرورة على حساب الجماعة أو أي عمل جماعي).
إن هذا الشكل من التفكير مازال أسيراً لردود الفعل،و هو يتعامل بشكل غريزي و طفولي مع أحداث الواقع أو على أحسن تقدير فإن استجابته سريعة و مباشرة للموضة الإعلامية الدارجة في هذه الأيام.
إن هذا العقل مؤهّل من جديد لتكرار التجارب الخاطئة،لأنه ما زال منفعلاً بالحدث لا فاعلاً فيه،و لأن منهجه في التفكير ما زال كما هو، مرتكزاً الى طريقة(إما / أو) في تناوله لمختلف القضايا،و يفتقد حسّ التراكم المعرفي.
الطريق الأخر المنتج هو التوجّه نحو إعادة تأسيس مفاهيمنا و مبادئنا من جديد،إذ إن مفاهيم(القومية) و(الحزب السياسي) و(الفرد) و(الجماعة) وغير ذلك،تكتسب مع كل ظرف تاريخي دلالات و مضامين أخرى. فهذه المفاهيم ليست معطىً ثابتاً،بل إنها تكتسي مع كل مرحلة حلَّة جديدة بحيث تغدو مقاربة أكثر لنبض الواقع وحركته. وبدلاً من القيام بعملية نبذ لمفاهيمنا وأسسنا،من الممكن القيام بعملية إعادة بناء لهذه المفاهيم،تستوعب جدلياً ما أفرزته التجربة الواقعية.
من المسائل التي تحتاج منّا عودةً متأنية وواعية،مسألة علاقة الفرد بالجماعة، أو ما يعبَّر عنها على صعيد الحزب السياسي بعلاقة الأعضاء بالمؤسسة الحزبية.
لقد تعوّدنا دائماً وضع الأمور في تقابل ثنائي مقيت، يوحي بأننا حيال خيارين لا ارتباط بينهما،ولهذه الطريقة في التناول تجسيدات مختلفة في فكرنا العربي، و منها(الأصالة-المعاصرة) و(الحرية-الاستبداد) و(السلطة-المعارضة) و(الوحدة-التعدّد) و(أنا-أنت) و(أنا-أنتم)….الخ، حتى أننا ننسى في النهاية الجدل الحاضر و الكامن أيضاً بين هذه الثنائيات على صعيد الفكر و الواقع معاً. و هذا الخطأ في التصوّر و الإدراك لا بد ّوأن يؤدي إلى مآسٍ على صعيد الممارسة و التجربة الواقعية.
في الماضي حشدت حركة الثورة العربية نفسها في طريق (جماعي)فألغت كل ما هو فردي،و اليوم بعد سلسلة الهزائم و الانكسارات لكل ما هو(جماعي)تنهض رؤى الترويج للحرية الفردية لتلتهم كل ما هو جماعي،و بالنتيجة كل ما هو إنساني،سائرة في طريق استهلاكي،تجاري،و بالمحصلة غير إنساني.
ثمة أحزاب كثيرة لفظت مبدعيها خارجها،تحت راية تحقيق الوحدة الجماعية الصخرية في الحزب،و هذه الأحزاب هي ذاتها التي ترأّسها أفراد حاولوا صياغة الحزب كما يصوغون بيوتهم.
العيب واحد و موجود في المكان نفسه، أي(الحزب السياسي)فمن جهة الحزب يقتل أفراده المبدعين،و من جهة أخرى فرد واحد يترأّس الحزب ويأخذ دوراً أبوياً فيه، مغيِّباً كل هيئات الحزب وأنظمته و قوانينه الداخلية. في نفس المكان و الزمان نقتل الفرد باسم الحفاظ على الوحدة الصخرية للحزب، ونعترف و نُقِر بدور الأمين العام التاريخي و الاستثنائي، الذي يشكل البنية الحزبية كما يشاء.
هذا ليس غريباً إذا أدركنا أن التطرّف هو ذهنية المتأخر،بغض النظر عن اتجاه التطرّف،سواء أكان لصالح تغليب وتضخيم ما هو فردي أم لصالح ما هو جماعي.
إن(التأخر)أرضية وبيئة مهيئة لنمو التطرّف بكل أشكاله، بغض النظر عن القشرة الأيديولوجية أو شكل الوعاء الفكري الحاضن للتوجهات المختلفة. مثال ذلك رجل الدين المتطرّف الذي ينشد العودة الى التراث و الماضي بكل ما فيه،و الليبرالي المتطرّف اللاهث وراء الغرب و المفتون بكل صرعة جديدة، و الشيوعي المتطرّف الذي ربط حزبه السياسي بتطلعات وسياسات خارجية. إنه ذات التطرّف و إن تنّوعت القشرة الأيديوليجية المغطية له.
ذهنية التطرّف المتأخرة هذه تتجسّد أيضاً في فهم علاقة الفرد بالجماعة، فنتطرّف تارة باتجاه الجماعة كما حدث في الماضي، و نتطرّف تارة أخرى باتجاه إعلاء شأن الفرد على حساب كل ما هو جماعي كما يحدث اليوم،لكن جذر هاتين الرؤيتين واحد هو بدائية طرائق التفكير و سطحيتها وتأخرها،مهما كانت ادعاءات الانتماء الأيديولوجي،إسلامية أم ماركسية أم ليبرالية أم غير ذلك.
الوجه المقابل أو الرؤية البديلة للتطرّف تتمثل بضرورة إدراك علاقات التآثر و التبادل و التنافذ و التشارط و التعاضد و التضاد ما بين الثنائيات المختلفة. فالمسألة ليست اختيارا ما بين الفرد و الجماعة، بل هي عملية تكامل وتضافر و تآثر ما بين الذات الفردية و الجماعة، أو بالأحرى هي عملية جدلية، فكما نحن بحاجة لإطلاق فرديتنا و ذواتنا من إسارها و عمقها الداخلي، بحاجة أيضاً لتعميق أحاسيسنا و وعينا بجماعية الحياة و بالتالي إنسانيتها.
لقد شاع في فكرنا العربي و ممارساتنا السياسية النظر للمعاناة الذاتية و مشاكل الفرد النفسية و خصوصياته الحياتية على أنها أمور بسيطة ينبغي الترفّع عنها، أو هي أمور برجوازية،سطحية و غير جوهرية يمكن تنحيتها و إلغاؤها. لكننا اكتشفنا في النهاية أن كثيراً من الأزمات الذاتية للأفراد و مشاكلهم الشخصية انفجرت داخل أحزابهم و زادت أزمات تلك الأحزاب تعقيداً و إرباكاً.
لقد كان اهتمام الأحزاب السياسية و أعضاء هذه الأحزاب متوجِّهاً بشكل كلّي نحو الكليّات و الأهداف و الشعارات العريضة،متنكرين للتفاصيل و الجزئيات و الأفراد وخصوصياتهم و بيئاتهم الاجتماعية.
في رواية(عالم بلا خرائط) لعبد الرحمن منيف و جبرا إبراهيم جبرا يصل بطل الرواية (الفنان و الروائي علاء الدين نجيب) صاحب التجربة السياسية الفاشلة،الى نتيجة مفادها أهمية القضايا الصغيرة التي كان يهملها سابقاً،عندما يكتشف أن هذه الجزئيات و القضايا الصغيرة هي التي حدَّدت حياته فيما بعد و كان لها الدور الحاسم والرئيسي، خاصة عندما وصل بتجربته السياسية الحزبية الى أفق مسدود.
كذلك نستطيع أن نفسِّر توجه الكثيرين ممّن عملوا في أحزاب سياسية، إلى كتابة مذكراتهم أو نحو العمل الأدبي المحض، بعد أن أثبتت التجربة الواقعية الهّوة الواسعة ما بين الأحلام و الطموحات التي يحملونها و النتائج الواقعية الحاصلة. وتكون هذه المذكرات والأعمال الأدبية ميداناً خصباً لتفريغ شحناتهم الذاتية التي حبسوها أو تم حبسها داخلهم لدى انخراطهم في أعمال سياسية جماعية لذلك لا بدّمن استشعار أهمية القضايا الصغيرة و التفاصيل الحياتية و تأملات الفرد و إشكالياته الذاتية الخاصة،إذ من خلال رؤية بسيطة للتجارب السياسية و الحزبية السابقة كافة،نرى أن الذات الفردية و خصوصياتها و مكنوناتها الداخلية كانت تموت أو تُسحق باسم المشروع الوطني الجماعي لذلك نقول هنا:إن المشروع الوطني لا يغتني إلا بالفرد،و العمل الجماعي الذي يسحق الفرد لن يُكتب له النجاح.
أستذكر هنا حديثاً لسعد الله ونوس يقول فيه: (إن المشروع الوطني بما يعنيه من تحرّر و تقدم و حداثة لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا و نوازعنا و وساوسنا و حاجتنا الملحّة للحرية،و لقول الأنا دون خجل…بل بالعكس إن هذا المشروع الوطني لا يمكن أن ينجح و يتحقق إلا إذا تفتّحت هذه (الأنا) و مارست حريتها وقالت نفسها دون حياء و دون مراءة أو تعوّذ. أُضيفَ إلى المهّمة النقدية التي يجب أن يضطلع بها المثقف مهمة أخرى و هي أن يحاول ممارسة حرّيته،و أن يحب فرديته، و ألا يعتقد أنه إذا ما اغتنى كوجود فردي إنّما يمزّق شمل الجماعة). بذلك فقط نكون أمام نظرة أكثر شمولية للسياسة،نظرة أكثر إنسانية، و أكثر احتراماً للذات الفردية التي كانت تُؤكل عندما نكون أمام عمل جماعي من طراز سياسي أو حزبي، وبهذه الرؤية نكون أكثر لُصوقاً بالحقيقة الواقعية التي كانت تُغيَّب باسم الأهداف الكبيرة و المشاريع العريضة.
إن احترام الفرد يعني الاعتراف بدوره المؤثِّر ايجاباً أو سلباً على مجريات الأمور،هذا الاعتراف يجعلنا نضع أيدينا بشكل صحيح على الحقائق الواقعية في تفسيرنا لبعض إشكاليات العمل السياسي و الحزبي،حيث كانت تتم عملية تفسير بعض الإشكاليات الحزبية البسيطة بشكل واهم،إذ يتم وضع أسباب كبيرة وراء تلك الإشكاليات البسيطة،فمثلاً كان يتم تفسير خلل أي لقاء حزبي بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي و أوربا الشرقية و غيرها من الأسباب الكبيرة وحسب .
هذا لا يلغي من اعترافنا بتأثير هذه الأحداث الكبيرة في جميع الأفراد(خاصة في الأحزاب التي ربطت سياستها بالاتحاد السوفياتي)،لكن هذه الأسباب الكبيرة وجدت تربة خصبة عند تلك الذوات الفردية لتفعل وتؤثِّر، هذه التربة الخصبة تتمثّل في المستوى الفكري السياسي للفرد،و مدى النضج النفسي أو التوازن الإيجابي لشخصية الفرد.
من جانب آخر نستطيع أن نلمس ظاهرة تجاوز الأفراد لمجتمعاتهم أو جماعاتهم _ وهذا دور الثقافة و المعرفة عندما تشكِّل إضافة نوعية لما سبق _ حيث يبرز الفرد كشخصية متفرِّدة أصيلة في بحر المعتقدات الشائعة للجماعة، وهذا يؤدي لحالة تصادم ما بين الفرد و الأنماط السائدة المغلقة و الرافضة لتفتّح الإبداعات و التغيير.
لكن بالمقابل يجب الانتباه إلى أن اكتشاف و نمو الجانب الإنساني و الإبداعي للذات الفرديّة لا يمكن أن يتم إلا في سياق اجتماعي أو في سياق عمل جماعي أو من خلال رؤية الآخر و التعامل معه.بمعنى آخر لا يمكن اكتشاف أو تجسيد حرية الذات الفرديّة إلا في سياق اجتماعي عام.
أي حتى تستطيع الذات الفردية تحقيق نفسها و حرّيتها لا بدّ لها من الاعتراف بما هو جماعي أو اجتماعي كمنطلق أساسي للفعل والتأثير فيه. وبالتالي فإننا عندما نؤكِّد على ضرورة فتح المجال لطاقات الفرد كي تعبِّر عن نفسها و تأخذ حيّزها من الاهتمام،فإن هذا لا يعني أن يتم ذلك في اتجاه نبذ المجتمع أو أشكال الحياة الجماعية أو العمل الجماعي المنظّم أو أن يتم على حساب(السياسة)بوصفها الشأن العام أو الجماعي في المجتمع.
أما وجهات النظر التي تضع الفرد في مقابل الجماعة أو ضدّها _ كما نرى اليوم _ فليست أكثر من رد فعل سلبي على تلك الجماعة التي سحقت الفرد فيما مضى. و هنا يجب أن نلاحظ أن هذه التوجّهات السلبية و التي تدافع عن الفردّية في مواجهة كل ما هو جماعي،قد انتهت في كثير من الأحيان إلى تبرير محاولات الكسب المادي السريع أو التحلّل الجنسي أو العزلة الاجتماعية و ضعف التأثير في المحيط الاجتماعي و السياسي للذات الفردّية،و هكذا يعكس فقر الرؤية أو عدم مصداقيتها على أقل تقدير.
لماذا نحشر أنفسنا دائماً في اتجاهين متضادين،إما اتجاه تضخيم الفرد و دوره،و إما سحق الفرد و اعتباره كائناً مهملاً؟
أستعرض الآن بعض الأمراض الفردية التي نلمسها خاصة في سياق عمل جماعي من طراز سياسي أو حزبي. كثيرة هي الشخصيات أو الأفراد الذين ينظرون للعالم الخارجي و مشاكله، رؤىً ذاتية قاصرة،من خلال العقد الفردّية النفسية التي يسبغونها على العالم الخارجي، حيث يتصوّر الفردُ العالمَ الخارجي على أنه عالمه الخاص،فيسقط عليه(أناه)مع ما تحفل به من أهواء و رغبات متطرِّفة. و بالتالي تتم الإساءة لمفاهيم (الموضوعية)و(الحرية) في العمل السياسي و الحزبي.
إن (الموضوعية)تعني في جوهرها تحرراً من النرجسية الفردية،أكثر مما تعني اتباعاً لقواعد شكلية أو أكاديمية يمكن أن تقود الباحث إلى الحقيقة. و الفرد الذي لم يُعالج(أو على الأقل أدركَ) عقده الداخلية و إشكالياته النفسية لن يفيده صراخه المستمر تجاه مطالبته بالحرية ،خاصة في سياق عمل جماعي. نسمع كثيراً اليوم بعض الأفراد يعتبرون أن العمل الجماعي هو ما قيّدهم طوال حياتهم،و وقف حائلاً أمام ممارستهم لحريتهم و تفتّح طاقاتهم الفرديّة، و قد يكون هذا صحيحاً في بعض الحالات،لكن في الغالب الأعم نجد أن هؤلاء الأفراد مقيّدون من دواخلهم بالدرجة الأولى،و ما تفسيراتهم تلك سوى شكل من أشكال رفع المسؤولية عن الذات و تحميلها للجماعة.
لقد عهدنا كثيراً من الذوات الفرديّة التي وصلت عُقدها و إشكالياتها النفسية الداخلية إلى حد لا يمكن استيعابه من خلال الرؤية الجماعية أو الحس الجماعي للفرد، و بالتالي تنفجر الذات الفرديّة أول ما تنفجر بوجه الجماعة محمِّلة إياها كل المسؤولية،بدلاً من أن تتوجّه هذه الذات نحو داخلها أولاً تحاولُ ترتيبه من جديد، عن طريق ملاحظة أن ظاهرة (نقص التمثّل) للأفكار المحمولة في الذهن تُعدّ سبباً رئيسياً لظاهرة الانفجار المرضي للفرد، حيث يحمل الفرد في رأسه أفكاراً حديثة لم يتم فسح المجال لها لتغزو حالته النفسية و روحه، ليصبح الفرد في وضع فصامي ما بين الأفكار الحديثة المحمولة في الرأس و ما بين الحالة النفسية المتأخرة. بمعنى آخر لم تسكن تلك الأفكار روح الفرد و ثنايا وجدانه الداخلي، و لا شكّ أن هذه العملية معقّدة و مستمرة، إذ ليس بإمكان فرد من الأفراد مهما كانت درجة المصداقية المتوفرة لديه الادعاء بأنّه تخلّص من كل ما يمت بصلة للرؤى والعلاقات المتأخرة السائدة. يعتقد البعض أن أي عمل جماعي،شئنا أم أبينا،سوف يقتل حرية الفرد: أعتقد أن الفرد عندما يتنازل عن جزء من حريته طوعياً في سياق عمل جماعي،فإنما يفعل ذلك عبر قناعته بالقانون الجماعي الذي وضعته الجماعة،و شارك هو بشكل ما في صياغة هذا القانون.
لذلك يجب التعامل مع هذه المسألة كمعطى تاريخي و موضوعي،إذ لا مفّر من أن أي عمل جماعي لا بدّ له من أن يحدّ من الحرية الفردية،حيث ببساطة إن القانون الجماعي أو أي قانون عام يتفق مع توجهات الجماعة في زمان و مكان معينين , ولكنه لايتطابق مع التوجها الفردية لكل فرد ,على الرّغم من أن كل فرد من الأفراد ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تكوين قانون الجماعة.
ما يجب التفكير فيه بشكل جدّي هو أولاً:كيف يمكن أن نجعل إعادة التفكير بهذا القانون و مدى مقاربته للمرحلة و الواقع عملاً روتينياً،بدلاً من أن يتم ذلك في مناسبات متباعدة زمنياً (المؤتمرات الحزبية مثلاً) أو في مناسبات استثنائية و اضطرارية (خاصة ما حدث في الأحزاب العربية بكافة أشكالها و تلاوينها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي)، و ثانياً:كيف يمكن أن نحقق رقابة أعضاء الجماعة أو الحزب السياسي أو المؤسسة الاجتماعية (عبر آليات دائمة و روتينية) على ممارسة القانون الجماعي على نحو سليم بحيث لا تبقى هذه المهمّة بأيدي أفراد في قمة الهرم التنظيمي،قد يتعاملون مع القانون الجماعي عبر رؤى ذاتية أو انطلاقاً من مصالح شخصية. وثالثاً: كيف يمكن أن نجعل حرية الفرد محدودة فقط بحدود القانون الجماعي و ليس بأي حدود أخرى،إذ يمكن تقبّل الحد من الحرية الفردية بالقانون الجماعي،و لا يمكن تقبّل حدّ الحرية الفردية(خاصة فيما يتعلق بالحياة الشخصية للفرد) بالوسائل الأخرى التي نصدفها في مؤسسات و أحزاب كثيرة ،مثل استبداد بعض الأفراد أو تعاملهم الذاتي مع القانون الجماعي. باختصار يجب البحث في آليات و وسائل ممكنة التطبيق،يمكن أن يتضمّنها القانون الداخلي للجماعة أو المؤسسة أو الحزب،من أجل أن تكون حرية الأفراد محدودة بقانونه الداخلي و ليس بالوسائل الأخرى. هذه الآليات هي ما يجب البحث عنها،و نعتقد أن من ضمنها إعادة التفكير بحقوق و واجبات العضو الحزبي و أشكال ممارستها في المؤسسة الحزبية. حيث الحقوق و الواجبات في الأنظمة الداخلية لكافة الأحزاب عائمة و غائمة،و ليس ثمة آليات واضحة لأشكال تقدير قيام العضو الحزبي بواجباته،و ليس ثمة آليات واضحة أيضاً لأشكال ممارسة العضو الحزبي لحقوقه على نحو سليم و لا وضوح لطرق نضال العضو الحزبي النظامية في حال الحد من هذه الحقوق و التضييق عليها.
لا نريد أن نقول إن المشكلة كاملة هي بسبب عدم وضوح القانون الداخلي للحزب السياسي،لكن يمكن القول أن إيضاح حقوق و واجبات العضوية و آليات ممارسة الحقوق و آليات الرقابة على الواجبات،من شأنه أن يخفِّف من المشكلة. ففي التجربة الحزبية العربية وجدنا على سبيل المثال أن(واجبات العضوية)كانت سيفاً مسلّطاً على رقاب أعضاء الحزب،يحاسبون عليها بشدّة و بحسب رأي قيادة الحزب و أمينه العام،من خلال تقديرات ذاتية أو رؤية مصلحيه ضيّقة. من هنا نستطيع أن نفسِّر اليوم الرؤى الجديدة التي تدعو لنسف واجبات العضوية و إلغائها من الأنظمة الداخلية للأحزاب،في مقابل تضخيم حقوق العضوية،هذه الرؤية القائمة على رد الفعل السلبي،تنسى التلازم ما بين الحق و الواجب،و أنه لا حق بدون واجب،و لا واجبات بدون حقوق،في أي شكل من أشكال الممارسة الاجتماعية،ابتداءً من الأسرة و مروراً بالنقابة و الحزب السياسي،و وصولاً لمؤسسة الدولة بشكل عام.
نستطيع الأن مقاربة حرية الفرد في سياق عمل جماعي من منطلق آخر،و هو نقاش مسألة الحرية بحدّ ذاتها و مفهومنا لها.
ما نعتقده هو أن للحرية الفردية مستويات متعدِّدة،متفاعلة فيما بينها،و نعني بذلك المستوى الداخلي للشخصية الفردية و المستوى الخارجي أو الظرف أو البيئة المحيطة بالفرد.
و لقد تعوّدنا دائماً تسليط الضوء على رغبة الذات الفردية بتجاوز الحدود الخارجية التي تضعها الجماعة أمامها،وإهمال المستوى الداخلي للذات الفرديّة،مع العلم أن هذه المستويات تكون في تفاعل جدلي معقّد و مركّب ودائم.
صحيح أن حرية الفرد أو كل الأفراد تكون محدودة بحدود عامة و واحدة هي حدود الظرف الموضوعي و اللحظة التاريخية التي يعيش فيها هؤلاء الأفراد , بما تتضمنّه من درجة التقدم المادي و السياسي و غيره،فهذه الحدود الموضوعية الخارجية واحدة تقريباً(مع اختلاف في الدرجة)بالنسبة للعدد الأكبر من الأفراد في مجتمع ما(نعني هنا الأفراد الحاملين للوعي و المندرجين في إطارات مؤسّسية كالأحزاب السياسية)و بالتالي نستطيع أن نرى مدى تأثير المستوى الداخلي للفرد على إدراكه و فهمه لآلية تطوير ممارسته لحريته الفرديّة.
إن الذي لا يتم الانتباه إليه في سياق عمل جماعي، هو قدرة الفرد على بناء حريته الداخلية،حيث من لا يستطيع بناء هذه الحرية الداخلية لن يكون بإمكانه تفهّم و استيعاب و تجاوز و تطوير الحدود الخارجية لحريته. و بالتالي ستتشكل لدى هذه الشخصية (المقيدّة من داخلها) ردود فعل سلبية و ذات طابع مراهق تجاه كل ما هو خارجي و تجاه كل ما يحدّ من حريتها،و تصل هذه الشخصية إلى مواقف لا تقبل فيها بأية حدود خارجية جماعية للحرية الفردية،و يكون من السهل استفزاز هذه الشخصية من المحيط الخارجي بأسباب بسيطة و صغيرة.
إن الحرية الفردية _ بالنسبة لأفراد خاضعين لظروف موضوعية متقاربة و مندرجين في إطار عمل جماعي _ تتعلّق بشكل أساسي بالتوازن النفسي الإيجابي للشخصية،و مدى قدرة هذه الشخصية على فسح المجال للأفكار الحديثة أن تغزو البنية النفسية الداخلية و تؤثّر فيها على حساب تأثيرات البيئة المتأخرة في تربية الفرد و تنشئته. إذاً فالحرية الداخلية للشخصية تتشكل عندما تتجه هذه الشخصية نحو محاولة تفهّم و إدراك و إزالة عقدها الداخلية الموروثة و مكبوتاتها الداخلية بما تتضمّنه من عجز نفسي قديم التكوّن والتشكل،و هذه العملية معقّدة و مستمرة و مفتوحة على الدوام , إذ كيف يمكن لشخصيّة مرتبكة،خجولة،فاقدة للثقة الذاتية،حاملة لعقد نفسية متعدِّدة،أن تنادي بالتحرر من الحدود الخارجية،مالم تتجه هذه الشخصية نحو داخلها تحاول إدراكه و تفهّمه وترتيبه ؟
إن مطالبة هذه الشخصية بالحريّة،و حساسيتها المفرطة تجاه كل ما هو خارجي،يعكس فقراً داخلياً مزرياً،وإن سلوكها في أحد أبعاده محاولة للهرب من الداخل الهش إلى الهجوم على كل ما هو خارجي و جماعي.
إذا قاربنا المسألة ذاتها على صعيد الشعوب و الأمم،فإننا نقول:إن الأمة الفاقدة لمقوّمات الحياة الصحيّة و الإيجابية،ستتعامل مع كل ما هو خارجي بردود أفعال سلبية،فمرّةً تتعامل باللهاث وراء كل ما هو خارجي،ومرة تتعامل معه كوافد يجب محاربته،و كلتا الطريقتين لهما نفس الجذر و هو عقدة النقص تجاه الخارج و الإحساس بتفوّق الكائن الخارجي (الغرب مثلاً)و انسحاق هذه الأمة و فقدانها الثقة بالذات. و بالتالي لن يفيد هذه الأمة صراخها المستمر بحاجتها إلى الحريّة و التحرّر،مالم تدرك أن تجاوز تأخرها الداخلي هو الحلقة المركزية في ارتقائها نحو حرّيتها و مَنَعتها،مثلما لن يفيدها إلقاء اللوم و التبعة على الاستعمار الخارجي،لأن هذا الأخير لا يستعمر إلا الأمم(ذات القابلية للاستعمار)كما يقول المفكِّر الإسلامي مالك بن نبي .
إذاً يجب إدراك المصدر الداخلي للحرية الفردية بما هو ضروري للتعامل بشكل أكثر موضوعية و حرّية مع كل ما هو خارجي(أي مع الحدود التي تضعها الجماعة و قانونها على حرّية أفرادها)،فلتتحرَّر الذات الفردية من كل ما يقيِّدها داخلياً،و من ثمّ سيكون بإمكانها التعامل مع ما هو خارجي بشكل إيجابي و متوازن.
إن تعرّضنا لعلاقة الفرد بالجماعة أو لعلاقة العضو الحزبي بمؤسسته الحزبية التي ينتمي إليها بهذا الشكل التفصيلي _ مع ما يتضمّنه من قصور_ يأتي نتيجة رؤيتنا لاتساع دائرة (الكافرين)بكل شكل جماعي للحياة،و بكل عمل مؤسّسي أو حزبي أو سياسي،هؤلاء الذين أراحوا ضمائرهم و ألقَوا كل التبعة على الجماعة،و برّأوا أنفسهم من كل مسؤولية،كي يريحوا أنفسهم من عناء نقد الذات و محاولة إعادة ترتيب الفرد لداخله الذي خلخلته الهزائم المتكرِّرة الشخصية و العامة.
حقاً إن هذه المعركة مع الداخل صعبة و شاقة للغاية،لأنها تتطلب إحساساً عالياً بالمسؤولية مثلما تتطلب الشجاعة النادرة. و هي ذات المعركة التي يجب أن تخوضها المؤسسات الحزبية المختلفة في داخلها،و هي أيضاً المعركة نفسها التي يجب أن تخوضها الأمة المهزومة إن أرادت أن تنهض و يكون لها فعل و تأثير في المستقبل.
هذه المعركة ذات المستويات المتعدَّدة(بين الفرد و نفسه،الحياة الداخلية للحزب السياسي،العلاقات بين قوى الأمة الفاعلة و القادرة،العلاقات بين السلطة و المواطن و بين السلطة و قوى المجتمع المختلفة)عنوانها بسيط وهو إعادة ترتيب الداخل في كل مستوى من المستويات السابقة.
أما شروط نجاح المعركة و سلامتها فهي الإحساس العالي بالمسؤولية من جهة،و توافر الشجاعة النادرة و الاستثنائية من جهة ثانية.
(كاتب سوري)
إيلاف خاص