|
الفساد و ظاهرة اللامبالاة
بسام العيسمي
الحوار المتمدن-العدد: 1529 - 2006 / 4 / 23 - 11:38
المحور:
المجتمع المدني
تغييّب الدور الرقابي في المسائلة والمحاسبة أوجد ظاهرة اللا مبالاة . ورسخ قاعدة الفساد في بلادنا لنتحّلى بقليلٍ من الجرأة والشجاعة التي تمكننّا من الاعتراف بأن ظاهرة الفساد المتفشية في بلادنا نخرت أدق مفاصل المجتمع . وامتدت به أفقياً وعامودياً حتى طالت كافة قطاعاته ومرافقه ومؤسساته جميعها. وأنتجت ثقافة مشوهة تبريرية ولدِت أحرفها وأخذت مسمياتها من رحم الفساد ، تقلب الحقائق. وتلتّف على عنق مبادئ وقيم النـزاهة والاستقامة حتى درجة الاختناق . وتُنذِرُ بخراب المجتمع إذا لم تتم معالجة هذه الظاهرة ، وتشخيص أزماتها ، ومعرفة مسبباتها ، وتفكيك التربة التي وفرّت نمائها. ويتبدى الفساد ويتمظهر في مجموعة من الأفعال والممارسات أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (السرقة – والاحتيال – والرشوة – وصرف النفوذ – والاختلاس – واستثمار الوظيفة والإخلال بواجباتها – والتعدي على الحرية – وإساءة استعمال السلطة واستثمارها للمنفعة الشخصية) وغيرها من الأفعال والممارسات التي تندرج في هذا السياق. ولابد من الاعتراف أيضاً بأن هذه الظاهرة قديمة قدم التاريخ . واهتمام المجتمعات بأمر مرتكبها بدأت منذ أن وجِدَتْ هذه المجتمعات نفسها، ووعت ذاتها . ونظمت العلاقة بين أفرادها ومؤسساتها . فأوقعت جزاءات على من يرتكب هذه الأفعال تندرج في الشدة والانخفاض حسب ظروف اقتراف الفعل من حيث الزمان أو المكان أو الأشخاص. ومجتمعنا السوري مثل كل المجتمعات التي جرّمت هذه الأفعال وواجهتها أحياناً بتشريعات وقوانين قاسية وشديدة من خلال رفع الحد الأدنى والأعلى للعقوبة. كما كان قائماً مثلاً في قانون العقوبات الاقتصادي قبل إلغائه. لكن هل كانت هذه المعالجة القانونية كافية وشافية لاستئصال هذه الظاهرة؟؟ الجواب طبعاً ،لا. يؤكدّه واقع وحجم القضايا والدعاوى التي سجلتها المحاكم المختصة في هذا الخصوص. ولعل الأكثر خطورة في ظواهر الفساد هي المنفلتة من رقابة القضاء والتي تبقى في منأى عن محاسبة ومسائلة مرتكبها أو مرتكبيها لأنها تأتي في إطار آلية تحميها من خلال موقعها ونفوذها وقوتها وأشخاصها. لذا لابد من طرح هذه المشكلة من زاوية أخرى. ومعالجتها والتصدي لها بإطار المجتمع بكافة شرائحه وتكويناته المختلفة. كون الفساد ظاهرة مجتمعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والقانونية لأي مجتمع من المجتمعات. وكونها ظاهرة مجتمعية فإن التصدي لها يأخذ مدلوله نجاحاً أو إخفاقاً من شكل العلاقة التي تربط بين الدولة والمجتمع. هل هي علاقة تبعية وإذعان تمرُّ عبر آليات الخضوع القسري للدولة لا يكون فيها للفرد أي دور في التفكير أو المسائلة أو المحاسبة أو في اقتراح الحلول؟؟ أم علاقة تشاركية تقوم بإطار الدولة الحامية التي تعمل على توحيد الإرادات المختلفة عبر آليات ديمقراطية تسمح للمجتمع وأفراده الاهتمام بالشأن العام وتمكنهم من تصوّر الأهداف واقتراح الحلول وتمنحهم القدرة على المسائلة والمحاسبة والإشارة إلى مواقع الخطأ والفساد والتصدي لها ؟؟د ومجتمعاتنا العربية بشكل عام مهمّشة ومعزولة ، وبعيدة عن الاهتمام بالشأن العام. لا يُنظر لها إلاّ كونها مجتمعات لم تبلغ بعد مرحلة الرشد. وتحتاج إلى وصاية دائمة ورقابة مستمرة عليها من خلال وضع القيود على حريتها في التعبير عن ذاتها رأياً وفكراً وعقيدة مما ساهم هذا في منعها من الحراك الإيجابي . ومن أن يكون لها دوراً رقابياً فعّالاً تستطيع من خلاله المسائلة والمحاسبة والإشارة إلى مواقع الخطأ والفساد بحرية ودون خوف من النتائج التي تترتب على ذلك. إن ظاهرة تغييب المجتمع وتهميشه وإقصائه عن الاهتمام بالشأن العام أوجد ظاهرة اللا مبالاة التي قلّصت لدى الفرد الحس بالمصلحة العامة. وساهمت بتدنّي شعوره بالمسؤولية والغيرية حتى استوت لديه المتناقضات. همه ما يخدم مصلحته الأنانية والضيقة. ودلّت التجربة بأن المحاولات المتعددة لمعالجة هذه المشكلة من خلال مواجهتها بقوانين قاسية ومتشددة لم تكن رادعة بما فيه الكفاية لمنع انتشار الفساد والجريمة . ورفع الحد الأدنى والأعلى للعقوبة كما كان في قانون العقوبات الاقتصادي قبل إلغائه مؤخراً لم يكن علاجاً كافياً وشافياً. وإنما الواقع يدّل على أن هذه الجرائم كانت في تنامي مطرّد . لا بل إن تشديد العقوبة استغله المتنفذون والفاسدون والسماسرة والوسطاء لرفع تعرفتهم و محسوبياتهم أبشع استغلال. لذلك لابد من طرح هذه المشكلة من زاوية أخرى ، وهي الزاوية الاجتماعية والذهنية والاقتصادية للوصول إلى الأسباب الحقيقية للفساد ، والأرضية المُفرّخة لمثل تلك الجرائم ، وسُبل معالجتها على ضوء ذلك. فلا نحتاج لعناء كبير لنرى الصورة الواضحة والقاتمة في المجتمع وهي الركض واللّهاث في سبيل المصلحة الفردية وبأي وسيلة كانت.. وليكن من بعدي الطوفان. وأن ينجز ويحقق مكسبه ورغبته بغض النظر عن الأسلوب حتى أصبحت أخلاقية الفساد والُملوِثة والملوَثة خطراً جدياً انتشر في المجتمع كثقافة مشوّهة تهدد باغتيال الأخلاق والقيم. وعلى سبيل المثال يمكن أن يكون شخصاً ما يقوم بالاختلاس والسرقة المنّظمة لأموال الدولة تبعاً لوظيفته، أو لمركزه ، أو لنفوذه ، والبعض يعرف ذلك ، حتى أنه يعرف كيف تتم هذه السرقات. لكن يتحرج ويتهرب من إيصال الحقيقة إلى الجهة التي من المفروض أن تصلها رغم أن هذا البعض قد لا يُبرر هذه السرقة في قاموس سلوكياته وأخلاقيته وهذا برأي يعود لسببين. 1- أولهما هو ظاهرة اللا مبالاة في المجتمع والتي تكلمنا عنها تدلُّ على اغتراب المواطن عن وطنه . وشعوره بأن مؤسسات الدولة وقطاعها العام هي مواقع امتيازات لفئة قليلة من الناس تُنشئها لنفسها وتحتكر خيرها مما يُعزّز وينمّي الشعور باللا مبالاة لأن العامة تشعر بأنها بعيدة عن التمتع بخيرات الوطن فسيّان عندها من السارق والمختلس طالما لا يطالها شيء من كل هذا. 2- ثانيهما الخوف الذي ينتاب المواطن من كشف الخطأ والإشارة إلى مواقع الخلل والفساد والاختلاس. حتى لو كان قديراً على كشفها أو لو كانت واضحة أمامه لاعتقاده أن قول الحقيقة أصبح مقروناً بالمتاعب ولقناعته بأن المختلس لو لم يكن مدعوماً أو يوجد من يغطيه ويحميه لما كان بوسعه أن يفعل هذا. فينأى بنفسه بعيداً إلى بر الأمان. كما أنّ ما يشجّع ا لمختلس والمفسد من المضي قدماً في إفساده ليس فقط قدرته من وضع نفسه بعيداً عن المحاسبة والمسائلة أي فوق القانون. لكن هناك سبباً آخر يجعله مندفعاً في غيه وهو غياب الردع الاجتماعي أو المجتمعي لهذه الظاهرة نتيجة للتشويه التي أوجدتها ثقافة الفساد التي بدلت المفاهيم وشظّت الأخلاق وغيرّت مقياس القيم يرى فيها المفسد ملاذاً يغطيه اجتماعياً. فبدل أن تنظر إليه الناس بعين الريبة والازدراء وتحاصره اجتماعياً وتعريه . فهي تتزلف له. وتحترمه في مجالسها . وتنعته (بالشاطر والفهيم ، والبيك) الذي يعرف كيف يدبر رأسه . بدلاً من أن تسأله من أين لك هذا. من أين جمعت هذه الثروات الطائلة وملايين الملايين؟؟ مما ساهمت هذه الذهنية الانقلابية بالانقلاب على كل القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة في انتشار ونمو الجرائم وتردّي الحياة الاجتماعية تبعاً لذلك . مما يقودنا هذا إلى أن ظاهرة الفساد المتفشية بمجتمعنا لا يكفي أن نعالجها فقط بإطار المواد المجرمة لتلك الأفعال. علماً بأن العقوبات المقررة لمثل هذه الحالات في القانون السوري تحقق في معظمها التوازن بين الفعل المجرّم والعقاب ، وهي شبيهة بالنظم العقابية المعمول بها في أغلب دول العالم. فلابد لنا لمعالجة هذه الظاهرة من العودة لأسبابها الاجتماعية والاقتصادية لتفكيك التربة التي وفرت لها النمو. والخطوة الصحيحة في هذا الاتجاه ، هي إعادة توصيف علاقة المواطن بالمجتمع. والدولة التي هي مجسدة لروح المجتمع. والتي تُعبّر عنه من خلال توفير الحرية وسيادة القانون ، وإقامة العدالة ، وتحقيق الكفاية للجميع وإشاعة مبدأ تكافئ الفرص أمام جميع أفراد المجتمع كافة ليصح تولّي الوظائف العامة خاضعاً لشرط الكفاءة فقط ، وليس للمحسوبية أو أية حسابات أخرى . بمعنى العودة لتفعيل النصوص الدستورية في هذا المجال . وتحسين الدخول لتأمين حياة كريمة لأفراد المجتمع. ولابد في هذا المجال من إعادة الاعتبار للإنسان والحفاظ على كرامته من خلال حماية حقه في التعبير رأياً وفكراً وعقيدة دون تضييق من أحد ولا يعرضه هذا للعسف أو العنف ليدافع عن حقوقه وأهدافه ويشير إلى مواقع الفساد دون خوف في مجتمع يجب أن يكون فيه الشعب مصدر السلطات والضامن لحرية المواطنين والمعبر عنهم. كون مسألة الفساد تصيب المجتمع كافة وتنخر في مفاصله وتدمره من الداخل لأنها مرتبطة بمصالح اجتماعية وطبقية وحياتية وثقافية مما يستدعي معالجتها ومواجهتها بصورة علنية وصريحة وديمقراطية يشارك فيها المجتمع بكافة شرائحه كونه صاحب المصلحة في ذلك إضافة إلى أصحاب القرار وما لدورهم من أهمية. كما أن للإعلام بكل أشكاله دور مهم أيضاً في معالجة هذه الظاهرة وما له من مساهمة في خلق ثقافة شعبية رافضة للفساد . ولا يتأتى ذلك إلاّ من خلال الكلمة الحرة والجريئة المتحررة من عقدة الخوف . ومن كل القوانين الاستثنائية المقيدة للحرية حتى تتمكن من تأدية رسالتها بفضح الزيف ومقاومة الفساد واستنهاض طاقات المجتمع وزجّها بمواجهة كل المظاهر والظواهر السلبية. المحامي بسام العيسمي
#بسام_العيسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المرأة.. بين مطرقة التشريع وسندان المجتمع الذكوري
المزيد.....
-
ماذا سيحدث الآن بعد إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت
...
-
ماذا قال الأعداء والأصدقاء و-الحياديون- في مذكرات اعتقال نتن
...
-
بايدن يدين بشدة مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت
-
رئيس وزراء ايرلندا: اوامر الجنائية الدولية باعتقال مسؤولين ا
...
-
بوليتيكو: -حقا صادم-.. جماعات حقوق الإنسان تنتقد قرار بايدن
...
-
منظمة حقوقية تشيد بمذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائي
...
-
بايدن يعلق على إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتني
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وجالانت لأ
...
-
كندا تؤكد التزامها بقرار الجنائية الدولية بخصوص اعتقال نتنيا
...
-
بايدن يصدر بيانا بشأن مذكرات اعتقال نتانياهو وغالانت
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|