ناصر بن رجب
الحوار المتمدن-العدد: 6157 - 2019 / 2 / 26 - 22:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدّمة:
يقول ألبيرت شفيتزر، في كاتبه المرجعيّ الشهير، "في البحث عن يسوع التّاريخي":
Albert Schweitzer, The Quest of the Historical Jesus, ed. John Bowden (1906 repr., Minneapolis: Fortress Press, 2001), 478.
"كلّ أولئك الذين لهم شَغَف الحديث عن اللاّهوت السّلبي يمكنهم أن يجدوا ضالَّتهم هنا. إذ لا يوجد أيّ شيء أشدّ سلبيّة ومُخَيِّب للآمال من النتيجة التي يمكن أن تحصل عندنا من خلال الدراسة النّقديّة لسيرة يسوع. إنّ يسوع النّاصري، الذي أعْلَن نفسه على رؤوس الملأ بأنّه المسيح، ويسوع الذي بشّر بشريعة مَمْلكَة الرّب، ويسوع الذي أسّس مَمْلكَة السّماوات على الأرض ثمّ مات مُكرِّسا بذلك عَمَلَه تكريسا نهائيّا؛ يسوع هذا لم يوجَد أبدًا. وهذه الصّورة التي لازمته لقرون طويلة لم يَقَع تدميرها من الخارج، بل تهشَّمت وتفتَّتَت، وتمزَّقت إرَبًا إرَبًا بِفِعْل الإشكاليّات التّاريخيّة الملموسة التي ما فتِأَت تبرز إلى السّطح الواحدة تلوى الأخرى". [الترجمة من عندنا]
لقد كتب المفكِّر الألماني-الفرنسي رأْيَه هذا منذ أكثر من مائة عام (1906 بالتّحديد) كخاتمة لدراسته حول حياة يسوع المسيح، وإلى حدّ علمنا لم تصدُر ضدَّه أيّة فتوى كَنَسيِّة تدعو لذبْحه وقطع رأسه؛ وإلى حدّ علمنا أيضا لم يتعرّض حتّى لمجرّد السبّ والشّتم أو التّعزير، بل كان له فقط، ككلّ مفكِّر، أنصار يتّفقون مع أطروحاته، وخُصوم يعارضون آراءه. وبالتّالي، فقد كتب رأيه هذا بكلّ حريّة وطُمأنينة. وأكثر من هذا، لم يمنعه ذلك من الحصول على جائزة نوبل للسّلام عام 1952.
"الإشكاليّات التّاريخيّة الملموسة"، التي يتحدّث عنها شفيتزر، لا تقلّ أهمّية وخطورة عن نظيراتها التي تبرز كلّ يوم وساعة أمام أعين كلّ باحث أراد أن يبحث في سيرة نبيّ الإسلام بحثا علميّا جادّا ويتمحّص في شتّى الأخبار والرّوايات التي ظلّت تتضخّم ككرة الثّلج عبر العصور، وتملأ صفحات آلاف المجلّدات، غير عابئة بما تعجّ به من تناقضات ومفارقات. وهذه الإشكاليّات تقود حتما إلى نفس "النّتيجة السّلبيّة" على غرار ما توصّل إليه شفيتزر في ختام دراسته بأنّ يسوع النّاصري: "هو شخصيّة صمَّمَتها العقلانيّة، ووهَبَتها اللّبراليّة الحياة، وألبَسها اللاّهوت المعاصر ثَوْبًا تاريخيًّا".
ولكنّ الفرق كلّ الفرق يكمن في مدى نضج المجتمعات وتقبّلها للنّقد واحترامها لحريّة الرأي والتّعبير دون خوف أو وجل، وتخلّصها من جثمان ماض متحجِّر لا يزال يرزح تحت أعبائه حاضر كئيب كما هو حال مجتمعاتنا ليس اليوم فقط، كما يظنّ البعض، ولكن منذ قرون، منذ تأصَّلت الأصول، وخُتِم كلّ شيء، ولم يعد بالإمكان أفضل ممّا كان. ففي حين أنّنا نشاهد، مكتوفيّ الأيدي، الباحث الغربي يتمتّع بكامل حريّته، وله "بطاقة بيضاء" في تناوله للتّاريخ والتّصريح جهرا وأمام الجميع بالنّتائج التي قد يتوصّل إليها في بحوثه؛ نرى، بكلّ لوعة وأسى، أنّ الباحث في البلاد العربيّة والإسلاميّة، أو مَن تُسوِّل له نفسه منهم أن يتجرّأ ويُبدي رغبة في البحث بجديّة في المسائل التّراثيّة وخصوصا منها السّيرة النبويّة والشخصيّة المحمّدية، مستخدما المناهج العلميّة المعاصرة، يظلّ يعاني، أو يخشى أن يُعاني، من العنف اللّفظي وحملات التشويه والتّكفير إن لم نقل التّحريض على التّصفية الجسديّة. هناك، مع ذلك، أشياء ليس من مصلحة بعض الباحثين أن يُفصِحوا عنها، هذا على الاقلّ إن كان لِحِرْصٍ منهم على عقيدتهم أو إرضاءً لِوَليِّ نعمة أو لكسب منصب رفيع يطمحون ويجدّون لتبوُّئِه.
وكمثال للبحث المُنافِح العقيم، ما يقوم به أحمد صبحي منصور وغيره كثيرون، مع كلّ احتراماتنا لشخصه ومجهوداته، منذ عشرات السّنين ولا يزال يفعل ذلك كلّ يوم، في موقع الحوار المتمدّن وفي مواقع أخرى، في سلسلة "تدبّراته" التي لا تنتهي ولا تفضي إلى أيّ شيء، لا سلبي ولا إيجابي، سوى ترديده الببّغائي لما قاله "ربّ العزّة"، وشتم "أهل السنّة والحديث"؛ في تناقض يوميّ مستمرّ مع نفسه، إذ أنّه، حسب رأينا، يُدرك ويعي تماما أنّه لولا السنّة والحديث لما عرفنا شيئا عن مواصفات النبيّ محمّد وملامح شخصيّته ولا كان هناك أصلا دين إسلاميّ كما نعرفه اليوم؛ فلا "ربّ العزّة" يُسعِفنا في هذا المجال بشيء ملموس صريح، ولا آياته المحكمات تروي لنا أخبارا واضحة عنه غير تلميحات خاطفة لا نعلم يقينا، في كلّ الأحوال، إن كانت تتحدّث عن النبيّ بالذّات صراحة أو أنّها تلمّح لأيّ نبيّ كان.
والمثال الثّاني هو بحث هشام جعيّط "الوحي والقرآن والنبوّة"، وهو حسب اعتقادنا أفضل ما كُتِب بالعربيّة، إلى حدّ الآن وفي حدود علمنا، في هذا الموضوع. ولكن هذه المحاولة، بالرّغم من بعض الجرأة التي أبداها صاحب الكتاب من حيث المنهجيّة المعتمَدة والمقارنات بين الأديان التي تنمّ عن علم وافر ومعرفة دقيقة في هذا الميدان، تظلّ في جوهرها قراءة "إيمانيّة" أكثر منها قراءة "علميّة"، وذلك خلافا لما صرّح به النّاشر في صفحة ظهر الكتاب حيث يُصرّح: "هذا الكتاب وما سيتبعه من أجزاء، كتاب علمي وليس بالدّراسة الفلسفيّة...". يقرأ قراءة لا تاريخيّة إذ يقارن مثلا محمّد ونبوّته بأنبياء بني إسرائيل دون أن يأخذ بعين الإعتبار الفارق الزّمني بينهم وبينه، ولا السّياق الاجتماعي والثّقافي والسّياسي، كما أنّه يبدو وكأنّه يتجاهل أنّ بين أنبياء بني إسرائيل ومحمّد، بين اليهوديّة الأولى والإسلام، عدّ قرون انبثق خلالها دين توحيديّ جديد من رحمها أي المسيحيّة التي طوّرت مفهوم "الرّسول". ثمّ أنّه يقرّر أشياء وكأنّها بديهيّات مطلقة كقوله مثلا، في حديثه عن الأديان التوحيديّة الثلاثة: "وبما أنّها أديانُ خلاص أو شقاء، فهي تنزع إلى تكفير كلّ من لم يتّبعها وتتوعّده بالعذاب الخالد. وليس هذا شأن البوذيّة(1). لكنّ الواقع أنّ المسيحيّة والإسلام هما أكثر الأديان انتشارا في العالم. ولا يُمكِن البتّة أن يُعزى هذا إلى صرامة المعتَقَد فقط بل إلى وجاهة المحتوى. فالقرآن لا يُضاهيه كتاب دينيّ آخر، وأخلاقيّة الإنجيل رفيعة جدّا" (ص 71-72). أترك للقارئ أن يحكم بنفسه على هذه الأحكام المطلقة التي تُلقى جزافا "وجاهة المحتوى"، "لا يُضاهيه كتاب دينيّ آخر"، و "أخلاقيّة رفيعة". متى كان العلم والبحوث العلميّة تُطلق هكذا أحكاما مطلقة؟ في حين أنّ المنهج العلمي القويم يعتمد أساسا على تَنْسيب الأشياء وردّها إلى سياقاتها، ووضعها في أُطُر تطوّرها ورفع اللّثام عن التّأثُّرات التي خَضَعت لها في الزّمان والمكان، ورصْد الرّهانات الإجتماعيّة والسّياسيّة والإقتصاديّة والثّقافيّة التي أحاطت بها. كما أنّنا نقف مشدوهين عندما يصرّح جعيّط دون أن تطرف له عين: "فرؤيا محمّد لروح الله تجربة ذاتيّة وفي نفس الوقت حقيقة واقعيّة إلاّ أنّها تعلو على عقل الإنسان العادي"(ص 72).
لاحظوا كلام المؤرِّخ جعيّط مع ما يقوله مؤرِّخ آخر، روبرت فونك، بخصوص شخصيّة المسيح: "إنّني كمؤرِّخ، لست على يقين إذا ما كان يسوع قد وُجِد حقّا أم لا، أو أنّه كان شيئا آخر يختلف عن مجرّد نسيج حبكته بعض المخيّلات النّشِطة نشاطا مُفرَطا.. في رأيي، لا يوجد لدينا بخصوص يسوع النّاصري شيء يمكن أن نقرّ بمعرفته معرفة قطعيّة. في الحياة البشريّة لا توجد إلاّ الاحتمالات [كلّ شيء نسبيّ]. والمسيح الذي كوّن العلماء شخصيّته وعزلوها من الأناجيل القديمة، أناجيل مشحونة حتّى النّخاع بإرادة الإيمان، يمكن ألاّ يكون سوى صورة أخرى تعكس ببساطة آمالنا القابعة في أعمق أعماقنا" (2) [الترجمة من عندنا].
ولهذا فإنّنا نعتقد جازمين بأنّ عددا لا يستهان به من بين الباحثين المُختَصّين بالتّراث في بلادنا، وخاصّة منهم أولئك الّذين عبّوا من معين المناهج الدّراسيّة الحديثة وانفتحت عقولهم على آخر مستجدّات النّقاشات الأكاديميّة في العلوم الإنسانيّة بشتّى فروعها، يعرفون الكثير والكثير ولكنّهم، شأنهم شأن أبو الهول، يظلّون صامتين "حَذَر الموت"، لا حول لهم ولا قوّة، أمام هذا المدّ التكفيري الجاهليّ المرعِب، من ناحية، ومن ناحية أخرى ظلّوا ضحيّة تراث تكبّر وتجبّر، لا يتزحزح ولا يُريد لنفسه بديلا.
نأخذ هنا مثالا آخر بعجالة ذكره الرّاحل محمّد أركون عدّة مرّات، سبينوزا والسّيوطي اللّذين عاشا تقريبا في فترة زمنيّة متقاربة نسبيّا. ففي حين كان الأوّل، في هولندا، قد بدأ يهوي بفأسه على جذوع اليهوديّة والمسيحيّة نقدا وتشريحا مُدشِّنا بذلك بداية مسار لقطيعة معرفيّة واعدة يجني اليوم الغربُ ثمارها، نرى الثّاني، في أرض الكنانة، يُحبِّر كتابه "الإتقان في علوم القرآن" الذي جمع فيه ولاك كلّ أخبار وآراء سابقيه دون أن يزيد أيّ شيء يُذكر من عنده، أي دون أن يقدِّم لنا قيمة مُضافة حقيقيّة من شأنها أن تُحدِث تراكما معرفيّا يدفع بعجلة البحث في التّراث الإسلامي إلى الأمام.
فإذا كان روبرت فونك يمثّل اليوم إحدى حلقات التّراكم المعرفي السبينوزي وعصر الأنوار فإنّ هشام جعيّط يمكن اعتباره، حسب رأينا، انتكاسة كُبرَى للتّيار الفلسفي الإنساني العربي الإسلامي؛ فهو يمثّل بالأحرى امتدادا للمدرسة السلفيّة المتحجِّرة التي كان السّيوطي أحد أعلامها، وليس حفيدا لأبي بكر الرّازي (250 هـ/864 م – 311 هـ/923 م)، مثلا، الذي اتّخذ في مسالة الوحي والنبوّة، التي يعتبرهما جعيّط ظاهرتين تَعْلُوان على "عقل الإنسان العادي"، موقفا عقلانيّا معارِضا حين يُجادل كلَّ من حاول إقناعه بهذه القضيّة مُصرِّحا: "مِن أين أوجَبْتم أن الله اخْتَصّ قَومًا بالنبوّة دون قوم، وفضَّلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومِن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك، ويُعْلي بعضَهم على بعض، ويُؤكِّد بينهم العداوات، ويُكثِر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟". ثمّ يقدِّم الرّازي موقفا أكثر تناسُقا مع مقولة أنّ الله عادل رحيم لا يُفرِّق بين عباده، فيقول أنّ الأولى: "بحِكْمَة الحَكيم ورحْمة الرَّحيم أن يُلْهِم عِبادَه أجمَعين مَعرفةَ مَنافِعِهم ومَضَارِّهم في عاجِلهم وآجِلهم، ولا يُفضِّل بعضَهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيَهْلَكوا، وذلك أحْوَط لَهُم مِن أن يَجْعَلَ بعضَهم أئمَّةً لبعض، فتُصَدِّقُ كلُّ فِرْقَة إمامَها، وتُكَذِّبُ غيرَه، ويَضْرِبُ بعضُهم وجوه بعض بالسَّيف ويَعمُّ البَلاء"(3) [وكأنّي أقرأ بندا من بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان]. ثمّ يختِم رأيه، وما أروَعه، وكأنّي به يُخاطب المجتمعات العربيّة الإسلاميّة المعاصرة وخاصّة الشّعوب، يحذِّرها مغبّة التعصّب والدَّجل حين يخلص إلى أنّ انتشار الدّين بين النّاس راجع بالأساس إلى: "طول الإلف لمذهبهم، ومرّ الأيام، والعادة، واغترارهم بِلِحِيِّ التُيُوس المُتَصَدِّرين في المجالس، يُمَزِّقون حُلُوقَهم بالأكاذيب والخرافات". فهل لنا من رازي جديد!؟
إنّ الرّهان الرئيسي المطروح اليوم هو أوّلا وقبل كلّ شيء الإبتعاد، قدر الإمكان، عن تداخل البحث التّاريخي والموقف الإيديولوجي، ضدّ الدّين أو مع الدّين في المطلق، بل الوقوف موقفا مُتريِّثا، وتقديم الوثائق، وإجراء استقصاء واسع ودقيق للمصادر التي بحوزتنا، استقصاء يبقى بعيدا، قدر المستطاع، عن مجرّد الجري وراء الحصول على منفعة شخصيّة. وهذه هي غايتنا هنا، من خلال هذه المحاولات البسيطة، وكلّ ما نطمح له هو رجّ العقول التي تغطّ في سبات عميق، وحفز الهمم لخوض المعركة المستقبليّة المصيريّة، وهي أمّ المعارك بامتياز، معركة فهم الماضي بكلّ تجرّد واعطائه حقّ قدره، دون تعصّب وتشنّج، حتّى نستطيع أن نتسامح مع حاضرنا وأن نستَبْشِر بغَدِنا، لا أن نَعيش عيش التائهين الغرباء اجْتُثّوا من ماضيهم، وتيتّموا عن حاضرهم، ولا بصيص مستَقبلٍ يلوح لهم في الافق.
ففي الوقت الذي تنخفض فيه مياه الأديان في أماكن عدّة من العالم تاركة وراءها مستنقعات أو ترعا ضحلة في سيرورة متواترة لا رجعة فيها، اللّهم إلاّ بعض الهزّات لمعركة خاسرة هنا وهناك بين الفينة والأخرى؛ نرى على العكس في بلادنا تغوّلا للدّين يقف أمامه المثقّف، والباحث، والعالم ورجل السّياسة، والأميّ، والرّجل، والمرأة، والشيخ، والصّبيّ، كلّهم أمامه يؤدّون له الطّاعة "وهم صاغرون".
نعود الآن إلى مواصلة موضوعنا. فبعد تناول بعض أقدم الأحاديث حول سيرة نبيّ الإسلام، سنتناول فيما يلي العلاقة بين الحديث والمغازي كما رآها قُدماء الرّواة.
5- العلاقة بين المغازي والحديث عند رُواة الإسلام الباكِر
تنطلق الدّراسات والبحوث الإسلاميّة من مبدأ مفاده أنّ مَيدانَيْ السّيرة والمغازي من ناحية، والحديث، من ناحية أخرى، هما ميدانان مرتبطان بعضهما ببعض بصورة وثيقة ولذلك يجب دراستهما معا. فإذا كان من البديهي أنّ الميدانيْن يشتركان في عدّة نواحي سواء من حيث المحتوى، والشّكل وطريقة النّقل، فإنّ طبيعة العلاقات التي تربط بينهما تظلّ محلّ نقاش. يهدف هذا المقال إلى المساهمة في النّقاش المتعلِّق بالتطوّر المبكِّر لهذين الميدانيْن، وبخصائصهما المميِّزة وكذلك تأثيرهما المتبادل الواحد في الآخر.
للتّبسيط قدر الإمكان، سنشير دائما في كامل النّص إلى كلّ ما يتعلّق بحياة محمّد بلفظة "مغازي"، هذا على الرّغم من أنّ المصادر تستخدم ألفاظا مختلفة كبدائل عن بعضها البعض مثل "سيرة"، "سِيَر" و "مغازي". ولكنّ التّسمية هنا لا تهمّ كثيرا، بالنّسبة إلينا، سواء أُطْلِق على الموادّ المتعلّقة بحياة النبيّ "سيرة" أم "مغازي".
في القرن العشرين تمّ تقديم رؤيَتيْن متباينتيْن بشكل جذريّ عن العلاقة التي تربط بين المغازي والحديث. فهناك وجهة النّظر التي تقول بأنّ المغازي هي ببساطة عبارة عن أحكام فقهيّة وتفسيريّة وقع ترتيبها كرونولوجيّا. وهي وجهة النّظر التي قدّمها هنري لامّانس(4) وتبعه في ذلك جزئيّا كارل هاينريش بيكر(5). ويُلخّْص هذا الأخير وجهة نظر لامّانس على النّحو التّالي: "إنّ السّيرة، برواياتها التفصيليّة، والتي غالبا ما يكتنفها اللُّبس والغموض، ليس مصدرا تاريخيّا مستقلاّ. إنّها مجرّد مادّة وقعت هيكلتها ضمن ترتيب بيوغرافي. إلاّ أنّ المعتقدات الشخصيّة إمّا أن تكون عبارة على تفاسير للإيحاءات القرآنيّة، أو اختراعات لاحقة ألحقتها بها المذاهب الفقهيّة الدغمائيّة. [...] أمّا المادّة التّاريخيّة الفعليّة فهي ضئيلة جدّا. لذلك يتمّ تناول تلميحات القرآن والتوسّع فيها ثمّ، أوّلا وقبل كلّ شيء، يقع جمع الأحاديث المتعلِّقة بالعقيدة والفقه والموجودة فعليّا وترتيبها ترتيبا كرونولوجيّا. ونتيجة كلّ ذلك هي "السّيرة".
وبناء على هذا، حسب وجهة النّظر هذه، تكون الأحاديث التفسيريّة والفقهيّة، قد وُجِدَت قبل أن يتمّ استعمالها في مأثورات المغازي، وتكون موادّ المغازي متحدِّرة من الحديث التفسيري والفقهي. وعلى حدّ علمي، فإنّ وجهة النّظر هذه أصبحت شائعة اليوم حصريّا تقريبا بخصوص الأحاديث التفسيريّة وبأقلّ درجة فيما يتعلّق بالأحاديث الفقهيّة(6).
ووفقا لوجهة النّظر الأخرى، فإنّ التطوّر أخذ منحى معاكسا: كانت مادّة المغازي أقدم كثيرا من غيرها ثمّ جُرِّدَت أحاديثها من سياقها التّاريخي واخْتُزِلت فقط في الجوانب الفقهيّة واللاّهوتيّة التي كانت تحتوي عليها ليتمّ استخدامها بعد ذلك كأحاديث تشريعيّة. هذا الإنتقال من المغازي إلى الحديث كان قد اقترحه جون وينسبرو، الذي لاحظ: "تطوُّرا من سَرد غير منَظَّم إلى أنموذج مُقتَضب [ومهيكَل]"، ثمّ خلص إلى أنّ: "المرور من السّرد إلى الأنموذج يُوضِّح تماما الفرق في الأسلوب بين السّيرة والسنّة، بين الإهتمامات الأسطوريّة والتشريعيّة للأدب الإسلامي القديم"(7). ثمّ أضاف بعد ذلك بأنّه من الممكن تعقُّب مرور موضوع مّا "من أدب السيرة-المغازي، أين تمّ التمفصل تاريخيّا، إلى أدب السنّة-الحديث، أين أصبح مثالا نموذجيّا وبالتّالي نُزِع عنه بُعدُه التّاريخي"(8). إنّ حجّة وينسبرو الأساسيّة، المتمثّلة في أنّ أهميّة السّرد البيوغرافي لمحمّد سبقت الأهميّة التي يحملها [محمّد] كمرجعيّة فيما يتعلّق بالمسائل الفقهيّة، لا تعنينا هنا. هذا مع أنّ وينسبرو احتجّ كذلك بأنّ هذا التطوّر يمكن ملاحظته عند دراسة أحاديث مُنفَردة. وقد كان تيلمان نايجل قد شاطره نفس الرّأي: فقد لاحظ في أدب الحديث توجّها نحو إزالة السّياقات التّاريخيّة والقضاء عليها وإحلال محلّها أقوال صالحة لكلّ زمان ومكان(9). من جهته، يبدو مارتن هيندس، على العموم، متّفقا مع وجهة نظر وينسبرو، ولكنّه يرى الإنتقال قبل كلّ شيء بمثابة العبور "من المغازي إلى السنّة مرورا بالسِّيَر ثمّ السّيرة"(10).
هذان الرّأيان يدلاّن ضمنيّا على أنّ الأحاديث تنشا في مجال مُعيَّن ثمّ يتمّ بعد ذلك نقلها إلى مجال آخر، ثمّ يتمّ بعد ذلك أيضا إعادة صياغتها وتكييفها. وبالرّغم من أنّ هذه العمليّة تبدو مُحتَمَلة إلاّ أنّه من الصّعب إقامة الدّليل على صحّتها. ونحن نعرف منذ أمد طويل أنّ الأحاديث لم تكن ثابتة ومستقرّة وأنّها خَضعت لتغييرات مُهمّة خلال عمليّة النّقل، وأنّ هذا المسار يمكن إثباته بسهولة بمقارنة عديد الرّوايات المختلفة للحديث الواحد. الصعوبة الرئيسيّة تكمن في تحديد أوّل مكان نشأ فه هذا الحديث أو ذلك والذي يمكن أن نعثر عليه في مختلف الأصناف الأدبيّة. فإذا أمكن لنا إثبات أنّ أحد الأحاديث صدر عن مجال واحد ولم يُستَخدم في مجالات أخرى إلاّ في وقت لاحق، فقد نتمكّن بذلك على الوصول إلى فَهْمٍ أفضَل بشأن الآليّات التي تَحكُم هذا النّوع من النّقل.
إنّ إلقاء نظرة سريعة على المّادة موضوع البحث تُبيِّن لنا بأنّ جميع الملاحظات المرتبطة بالعلاقة بين المغازي والحديث لا تنطبق إلاّ على جزء من هذه المادّة. فهناك عدد هائل من الأحاديث تحتوي عليها المصنّفات الحديثيّة لا نجد أشباها لها في كُتب المغازي، نذكر منها على سبيل المثال كلّ الأحاديث التي تتعلّق بالشّعائر والطّقوس. من جهة أخرى، نرى أنّ كتب المغازي تشتمل على أكثر بكثير من مجرّد أحاديث: فبصرف النّظر عن الرّوايات التي تتضمّن سلسلة أسانيد، والتي ضُمَّ بعض منها إلى المجموعات الحديثيّة، فإنّنا نجد في المغازي اقتباسات من القرآن، وقصائد، وقوائم تسرد لنا أسماء اشخاص كانوا قد شاركوا في أحداث مختلفة، وكذلك بعضًا من الوثائق (التي لن نناقش هنا قيمتها التّاريخيّة) والتّعليقات وجَمَلا تقدِّم وتُمهِّد للحديث عن مواضيع أخرى. ولا نَجد أثرا في كتب الحديث لأيّ صنف من أصناف هذه الوثائق التي ذكرناها.
بطبيعة الحال، تعتمد رؤيتنا للموادّ التي تشتمل عليها مدوّنات المغازي اعتمادا شديدا على المصادر المتاحة لدينا، ولكن توجد مؤشِّرات تُفيد بوجود موادّ مختلفة لعبت دورا في تقليد تدوين المغازي في الفترات السّابقة وهي موادّ مطابقة لنموذج أدب المغازي. مثلا، هناك العديد من المتبحّرين في المغازي يكونون قد أدخلوا قصائد شعريّة في أعمالهم. ومِن بين مؤلِّفي المغازي الذين اشتهروا بولَعِهم بالشّعر أو استخدموه في مؤلَّفاتهم: أبّا بن عثمان، وعروة بن الزّبير، ووهب بن منبّه، وعبد الله بن أبي بكر، وبطبيعة الحال ابن إسحاق والواقدي، وبدرجة أقلّ ابن سعد. وينسَحب ذلك أيضا على قوائم أسماء المشاركين في الغزوات الذين زُعِم أنّ رُواة المغازي الأوائل كانوا قد احتفظوا بها، وكذلك الشّأن أيضا فيما يتعلّق بالوثائق كرسائل النّبيّ التي أدرجها البعض في مغازيه كعروة بن الزّبير وعبد الله بن أبي بكر وموسى بن عُقْبة. وهكذا، يمكن أن نفترض بأنّ قدماء رُواة المغازي ومدوِّنيها كانوا قد جمعوا عدّة أصناف من مختلف الوثائق يُضاهي حجمها واتّساع نطاقها تلك التي وقع استخدامها في أعمال ابن إسحاق، والواقدي وآخرين اللاّحقة.
قد يكون من المُجدي تحديد نطاق التّقاطع الحقيقي بين الموادّ المستَخدَمة في كُتب المغازي وبين تلك التي جاءت في المجموعات الحديثيّة، ولكن هذا ليس مجال اهتمامنا هنا. خدمة لغرضنا في هذا المقال، سوف نركّز اهتمامنا بالأحرى على الموادّ التي وردت في نفس الوقت في كتب المغازي وفي المجموعات الحديثيّة. ونظرا للأهداف المتباينة لكلّ من المحدّثين وكتّاب المغازي فإنّه من المتوقَّع أن نرى كلاًّ من الفئتَيْن تتعاملان تعاملا مختلفا مع هذه الموادّ. فقد كان همّ المحدّثين منصبّا في المقام الأوّل على عمليّة النّقل وحفظ المواد وفقا لمعايير مُعيّنة ووفقا لدرجة أهميتها من النّاحية الفقهيّة والشعائريّة. فقد كان يُعتدّ بهم ويُعوَّل عليهم بخصوص تقييم بعض الرّواة وبعض سلاسل النّقل، ومعرفة ما إذا كان هذا الحديث أو ذاك صحيحا أم لا، مُلْزِما فقهيًّا أم لا، وأيضا التّدقيق في صحّة صياغة بعض الأحاديث، والتّأكُّد من الرّاوية الأصلي للقصّة.
من ناحية أخرى، كان الشّغل الشّاغل لدى علماء المغازي هو إعداد قصّة مستمرّة ومتّسقة فيما بينها عن حيا محمّد. وبلوغ هذا الغرض، كان عليهم أن يعقدوا روابط بين مختلف الأحاديث وإقامة علاقة سببيّة فيما بينها. وكما رأينا سابقا، فقد لجأوا أيضا إلى استخدام موادّ من أصناف مختلفة. وقد اشتهروا بخبرتهم لا فيما يتعلّق بصحّة المادّة المستَخدَمة، ولكن قبل كلّ شيء بخصوص قضايا السّياق الذي تدور فيه الأحداث. فقد كان أهل المغازي يعرفون -أو على الأقلّ يُشترط فيهم ذلك- متى وقعت الحادثة مّا، وما هي أسبابها وهل سبقت حاثة أخرى ام لا. وكانوا أيضا مشهودا لهم بخبرتهم في معرفة الأشخاص المشاركين في تلك الحادثة؛ فهم يقدرون على تحديد مَن كان حاضرا في المعركة مثلا وكم كان عددهم، وما إذا كانت شخصيّة مُتميِّزة قد شاركت فيها، ومَن كان من الأنصار ومَن كان من المهاجرين، ومَن تُوفّي قبل أو بعد هذه المعركة أو تلك؛ وهذا النّوع من المعلومات لا يمكن عادة الحصول عليه من حديث واحد، كما لا يمكن نقله بالإعتماد فقط على الأحاديث.
_______________
الهوامش
(1) وهذا في رأينا غير صحيح كلّية، فما يتعرّض له المرء البوذي في حياته الرّاهنة من أذى بدني أو عقلي هو عقاب على افعال سيّئة قام بها في حياة سابقة؛ فالفرق بين النّوعيْن من العقاب هو زمن حدوثه؛ فالدّيانات التوحديّة تؤجِّله إلى الآخرة، في حين تسلّطه البوذيّة في الزّمن الرّاهن وتعيد تسليطه عدّة مرّات إذا لزم الأمر. فالبوذيّة تعتمد على مفهوم "الكرمة" الذي يقول بأنّ كلّ ظاهرة تنتج عن أسباب سابقة لها، وهي بدورها تُنتِج ظواهر جديدة. إذن، لا يوجد أيّ دين على وجه الأرض لا يمتلك ترسانة من المفاهيم والأحكام التي تُمارس الرّدْع، تُرهِب بها الفرد والمجتمع بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة من حيث الوحشيّة. فالنّسبة للجزء الأعظم من سكّان المعمورة ما زالت الجريمة، والعقاب، والتّوبة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمفاهيم الدّنيّة حول الخطيئة، والحِساب، والغفران.
(2) أنظر:
Robert W. Funk, Jesus Seminar Founder and Co-Chair (From The Fourth R, January-February 1995, page 9)
(3) رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي، باول كراوس، القاهرة، 1939 م، ص 17 وما بعدها. لقد اعتمدنا هنا على مقال عادل الصاري: "موقف الفيلسوف أبو بكر الرّازي من النبوّة والقرآن"، وهو منشور على الإنترنيت.
(4) أنظر:
Henri Lammens, “Qoran et tradition, comment fut composée la vie de Mahomed”, Recherches de Science Religieuse 1, 1910, 27–51.
(5) أنظر:
Carl Heinrich Becker, “Prinzipielles zu Lammens’ Sīrastudien”, Der Islam 4, 1913, 263–9.
(6) أنظر:
Patricia Crone, Meccan Trade and the Rise of Islam (Oxford: Blackwell, 1987), 214 f.: “[I]t should be plain that much of the apparently historical tradition is in fact of exegetical origin”
(ينبغي أن يكون من الواضح لدينا أنّ الكثير من الأحاديث التّاريخيّة على ما يبدو هي في الأصل أحاديث تفسيريّة)
(7) أنظر:
John Wansbrough, The Sectarian Milieu. Content and Composition of Islamic Salvation History (Oxford, 1978), 77.
(8) نفس المصدر، ص 87.
(9) أنظر:
Tilman Nagel, “Ḥadīt – oder: Die Vernichtung der Geschichte”, in XXV. Deutscher Orientalistentag vom 8. bis 13.4.1991 in München. Vorträge (Stuttgart, 1994), 118–28, 126f.
(10) أنظر:
Hinds, ‘“Maghāzī’ and ‘Sīra’ in early Islamic scholarship”, 63 ibid., “al-Maghāzī”, in EI2, V, 1161–4.
#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟