|
اليوتوبيا الملموسة لأرنست بلوخ
رحيم العراقي
الحوار المتمدن-العدد: 1529 - 2006 / 4 / 23 - 12:06
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
ارنو مونستر، مؤلف كتاب ((اليوتوبيا الملموسة لأرنست بلوخ)) ، هو من مواليد بولندا عام 1942، يعمل استاذا للفلسفة في جامعة بيكاردي ـ جول فيرل» بمدينة اميان الفرنسية وهو اخصائي بالفكر الالماني الحديث والمعاصر، اهتم خاصة بـ «مدرسة فرانكفورت» الفلسفية. ومن كتبه «نيتشه والنازية» و«نيتشه وستيرنر» كما قدم العديد من الاعمال والدراسات حول ارنست بلوخ، وهذه السيرة هي آخرها. موضوع الكتاب هو سيرة حياة الفليسوف الالماني الكبير ارنست بلوخ احد اشهر فلاسفة القرن العشرين وصاحب كتاب «روح اليوتوبيا» وبعده «مبدأ السعادة».. والذي كان قد عمل لسنوات كأستاذ وكمدير لمعهد الفلسفة في جامعة «لايبزغ» (بألمانيا الديمقراطية ـ الشرقية ـ سابقا) وأرنست بلوخ هو من مواليد 8 يوليو من عام 1885 في بلدة لودويغشافن الواقعة على نهر الرين. كان الابن الوحيد لابيه الموظف في الشركة الالمانية للسكك الحديدية، وكان ابا قاسيا متشددا وصفه فيما بعد ابنه ارنست بانه كان يجسد، بالمعنى السلبي للكلمة النموذج المثالي للموظف الالماني الذي كان يثابر بشكل طبيعي على عمله، لكن دون ان يكون لديه اي طموح فكري او فني»، بل ويشير مؤلف هذا الكتاب عبر الاستقصاءات التي قام بها بأنه كان معاديا للفلسفة وللآداب وللقنون الجميلة، ولذلك غضب غضبا شديدا عندما عرف بأن ابنه يريد ان يتابع دراساته الجامعية في حقل الفلسفة. ولم تكن طباع والدة ارنست سهلة اذ كانت امرأة عصبية وقاسية.. ضمن هذا الجو الاسري المضطرب والبورجوازي الصغير ضيق الانف ترعرع ارنست باحثا عن فلسفة لحياته، وعن الفلسفة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وقد ابدى ارنست بلوخ منذ سنوات شبابه الاولى ولعا شديدا بالمعرفة وبسبل تحصيلها.. ولذلك توجه الى المكتبات وخاصة المكتبة الملكية في مانهايم ـ المدينة المجاورة ـ ليبدأ قراءاته حيث اطلع وهو في سن الرابعة عشرة على اهم النصوص الكلاسيكية في الفلسفة وخاصة كتابات كانط وهيغل وفشته وشيلنغ ونيتشه وشوبنهور وغيرهم.. وبالاعتماد على المؤشرات العديدة التي تركها ارنست بلوخ حول طفولته في كتاباته «القليلة» عن سيرته الذاتية يبدو بأنه لم يكن سعيدا ,وبأن التزاماته اللاحقة في مناهضة النزعات التسلطية والاستبدادية لم تكن بعيدة عن رفضه اللاواعي لتلك الفترة من حياته. وقد ظهرت مواقفه في مناوئة الاستبداد منذ فترة منفاه الاختياري الاول في سويسرا حيث خاض معركته كـ «صحفي» ضد الدولة البروسية ذات النزعة العسكرية في ظل حكم الامبراطور غيوم الثاني، ثم شارك مارك بلوك في مرحلة لاحقة نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي بتمرد الطلبة الالمانيين. ولم تكن المدرسة «المدرسة التسلطية البافارية ـ في بافاريا»، آنذاك تهتم كثيرا بـ «نقل المعارف» لتلامذتها وانما بالاحرى بـ «ترويضهم». يقول مؤلف هذا الكتاب كان العقاب في هذه المدارس التي تحدث عنها ارنست بلوخ دائما برعب وقرف، قائما ومتكررا مثلما كان الحال في اغلبية المدارس والمؤسسات التربوية في اوروبا خلال القرن التاسع عشر. ويشير بلوخ نفسه الى الرعب الذي كانت تثيره تلك المدارس في اعماقه ويذكر بأنه كان مهددا بـ «الرسوب في عدة صفوف وانهم كتبوا له ذات مرة على سجل علاماته ما يلي: «سلوك هذا التلميذ متغطرس ومتعال ومغرور وهذا كله يتعارض كثيرا مع مستوى معارفه المتدني» لكن هذا التلميذ «ذا المعارف متدنية المستوى» اصبح بعد خمسين عاما احد الفلاسفة الاكثر اهمية والاكثر شهرة الذين يكتبون باللغة الالمانية خلال القرن العشرين. ويشير مؤلف هذا الكتاب الى ان ارنست بلوخ قد تأثر اثناء سنوات شبابه بالفليسوف فريدريك نيتشه كما يبدو في كتاباته الفلسفية الاولى التي بدأها منذ ان كان عمره ثلاث عشرة سنة، لكن الكتابات الفلسفية الحقيقية بدأت لديه منذ سن السابعة عشرة مع مقالة تحمل عنوان «القوة وجوهرها» وكان بلوخ قد بدأ بتحرير بعض الرسائل الى كبار الفلاسفة والمفكرين في عصره منذ تلك الفترة هذا على الرغم من انه لم يحصل على الشهادة الثانوية «البكالوريا» الا بعد ان اصبح عمره 20 سنة وذلك في عام 1905 وقد عاد ارنست بلوخ عام 1930 في كتابه الذي يحمل عنوان «آثار» الى الحديث عن سنوات دراسته الاولى وسنوات شبابه الصعبة التي امضاها في مدينة لوردويغشاتن والتي يصفها بأنها مدينة صناعية تميل الى القباحة. اما سنوات الدراسة فيقول عنها وكانت المدرسة قاسية دائما اذ انها صادرت تسع او عشر سنوات من عمرنا الشاب وليس من السهل الانتقال دائما الى الصف الاعلى. كان هناك استاذ او استاذان اقل سوءا من الآخرين لكنهما لم يكونا يشكلان ثقلا معادلا لعفن المؤسسة.. وقد كان تقدمنا نحو هويتنا يتم ببطء كبير اذ كنا نقرأ الكتيبات ونتصفح الصور الغربية التي تثبت بأن المجتمع الذي كنا نعيش فيه انما كان مجتمعا مزيفا وان العالم مجرد آلة. ولكن الم يكن هناك ما يمكن فعله ضد هذه الآلة الجهنمية؟ نعم هذا ما اعتقده ارنست بلوخ وظهر بوضوح منذ سن مبكرة في سيرة حياته كما يقدمها مؤلف هذا الكتاب الذي يجد في هذه السيرة مؤشرات على سلوك معاد للنزعات التقليدية ـ الانصياعية ـ بل وعلى بذور تمرد تدل بدورها على روح المقاومة لدى صاحبها ضد عالم قائم على القمع وضد النظام البورجوازي الذي يدعمه ويطيل حياته. وفي هذه الفترة بالذات كان مشدودا الى افكار نيتشه والى شعار «ادارة العيش» السائد آنذاك لدى الفلاسفة الالمان. وبعد ان تحرر ارنست بلوخ من سنوات السجن التي شكلتها المدرسة الثانوية حدد هدفه الاساسي في الذهاب الى مدينة ميونيخ عاصمة بافاريا آنذاك والمدينة المعروفة بحيوية وازدهار الحياة الثقافية والفنية فيها وحيث تنتشر المقاهي والمسارح والمطاعم كما في الحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية باريس مدينة النور هي الاخرى. لكن ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو ان ما جذب ارنست بلوخ الشاب الى مدينة ميونيخ لا يعود لاسباب فلسفية حصرا وانما بالاحرى لاسباب شخصية حيث انه كان قد تعرف قبل ذلك على فنانة شابة وكانت مقيمة في ميونيخ وكان هو يحب النساء والاغاني ولذلك أراد ان يلتحق بها، ولهذين السببين: العام (الفلسفي) والخاص (تعلقه بالفنانة الشابة) تسجل ارنست بلوخ في قسم الفلسفة بجامعة «مكسيميليات» الشهيرة في بافاريا ولم يكن ذلك الطالب الشاب قد ابدى حتى آنذاك اهتماما كبيرا بالسياسة. وفي عام 1906 قرر ارنست بلوخ فجأة ان يترك ميونيخ كي يسجل نفسه كطالب في جامعة ويزربورغ وقد طور في هذه الفترة عدة اطروحات تحدث فيها عن اهمية العوامل السيكولوجية الفردية والاجتماعية ـ السيكولوجية بالنسبة لحقل المعرفة ولكن دون ان ينضوي تماما تحت راية مدرسة سيكيولوجية الفكر التي كان يدافع عنها استاذه الفيلسوف اوزوالد كولب. ثم عرض بلوخ اطروحة اخرى أطلق عليها مفهوم الحاضر المعاش، والتي اعتبرها العديد من النقاد بمثابة التمهيد للفلسفات الوجودية لاحقا وقد طور ارنست بلوخ هذا المفهوم في كتابه الشهير «مبدأ الامل» الذي تمت ترجمته الى اللغة العربية منذ عدة عقود من الزمن». وخلال دراسة ارنست بلوخ في جامعة ويرزبورغ في برلين تعرف على الفليسوف جورج سيميل وتتلمذ على يديه. وكان سيميل قد نشر عددا من الكتب مثل كتابه الشهير فلسفة المال وايضا كتابه مشاكل فلسفة التاريخ. وكان بلوخ متحمسا جدا لحضور دروس هذا الاستاذ الذي كانت برلين الثقافية كلها تكن له الكثير من الاحترام بل والقداسة لا سيما وان جلساته كانت بمثابة ملتقيات يتحدث المشاركون فيها عن الفلسفة.. ولكن ليس عنها فقط وإنما يتعرضون لمشارب فكرية ومعرفية اخرى تمتد من الاقتصاد الى تاريخ الفن ومرورا بتاريخ الاديان وفلسفة الاخلاق... هذه النقاشات كلها وجدت صداها فيما بعد بأعمال ارنست بلوخ ومن الملفت للانتباه أن سيميل نفسه كان قد قدم دراسة مهمة عن الرسام الكبير رامبرانت. بعد فترة الاقامة في برلين امضى اربع سنوات من الترحال والاسفار من مدينة الى اخرى بعيدا عن اي استقرار في اماكن السكن وأماكن الدراسة وقد قام عام 1912 برحلة الى ايطاليا برفقة المفكر الكبير جورج لوكاتش ليعود بعدها الى هايدلبرغ في المانيا ويواظب على حضور الحلقات التي كان ينظمها عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر. وما بين عام 1914 وعام 1917 عمل بتأليف كتابه الشهير روح اليوتوبيا. ويصف مؤلف هذه السيرة الكتاب المعنى بأنه صعب القراءة بالنسبة لغير المتعمقين في مجال القراءات الفلسفية. لكن العديد من المعلقين وجدوا فيه حركة مزدوجة تعبر عن التمرد والامل. اما التمرد فهو ضد عالم عديم الانسانية ضحى بعظمة الروح من اجل التجارة والمصالح الانانية ولروح المنافسة والتعصب الشوفيني هذا اذا لم يكن لـ «العنكبوت والعقرب السامة» حسب تعبير بلوخ نفسه والذي حاول ان يصيغ فلسفة للأبد على قاعدة نوع من الرومانسية الثورية. ويصف ارنو مونسيتر اطروحات ارنست بلوخ في كتاب روح اليوتوبيا بأنها تعبر عن خطاب حول الداخل وحول الطرق التي تؤدي الى الداخل لكن المؤلف يشير بنفس الوقت الى ان الفصل الاخير من روح اليوتوبيا يمثل انعطافا حقيقيا في التوجه الفكري لأرنست بلوخ نحو الفكر الماركسي.. وهذا ما يتم التعبير عنه عبر الاستخدام الكبير لمرجعية روح العصر. وما ان انهى ارنست بلوخ كتاب روح اليوتوبيا حتى اضطر الى الرحيل عن المانيا التي كانت تعيش غمار الحرب العالمية الاولى للاقامة مع اخيه في سويسرا لمدة عامين تقريبا ليعود بعدها الى المانيا ويكمل انعطافه النهائي نحو الماركسية. ومع صعود النازية في المانيا عرف ارنست بلوخ طريق المنفى من جديد الى باريس ثم الى براغ وبعدها الى الولايات المتحدة الاميركية. وقد اهتم في نهاية حياته بدراسة حالتين اولهما هي ربيع براغ عام 1968 حيث اجتاحت الدبابات السوفييتية السابقة العاصمة التشيكية وثانيهما تجربة سلفادور اللندي في التشيلي او الطريق السلمي الصعب نحو الاشتراكية. ولد ارنست بلوخ يوم 8 يوليو 1885 وتوفي يوم 4 اغسطس 1977 وقد كانت اليوتوبيا الملموسة في صلب اهتماماته من البداية وحتى النهاية.
#رحيم_العراقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفضائيات العربية
-
ما بعد الرعب
-
كافكا والفتيات
-
قبل أن أنسى ..قحطان العطار ..الجزء الثاني والأخير
-
أيديولوجيا اليمين المتطرف
-
72نجمة في سماء المحبة
-
الصراع الهندي الباكستاني الذي لاينتهي
-
شارل ديغول
-
تقليد ياباني
-
مملكة الاخلاق
-
حول العولمة
-
نظرات جديدة للتاريخ الأميركي في عصر العولمة
-
النساء الايرانيات بين الاسلام والدولة والاسرة
-
العولمة، الحركات الاجتماعية، والأمميات الجديدة
-
تجربة الحروب الصليبية
-
القصة العائلية لسيغموند فرويد
-
تاريخ الفكر الفرنسي في القرن العشرين
-
بوشكين
-
أمرأة حكمت الهند..
-
في بيتنا خادمة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|