|
/ ماضوية الشاعر / جدلية الأغتراب
بلاسم الضاحي
الحوار المتمدن-العدد: 1528 - 2006 / 4 / 22 - 08:48
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
من أوائل من استولى على السلطة الشعرية في ستينيات وسبعينيات القرن الفائت وعلى الرغم من ولادة أجيال وتعاقبها بعيدا عن وجوده ظل يشغل كل حيّزها الذي غادره( بمرجعيته السياسية ) التي هربته أو حاولت دون جدوى فظلت شاعريته الكبيرة تحفّز تلك الأجيال ـ بعد خروجه جسدا من الوطن ـ فسجلته ضمن مفضلاتها التي تشكل مرجعياتها الشعرية . وبعيدا عن الخوض في الأبعاد المعرفية والإبداعية التي أنتجتها تجربة الشاعر الكبير سعدي يوسف سأقف عند اللحظة الآنية في بنية النص وشؤونها الأيدلوجية والماورائية والعلاماتية ومدى تأثير ماضوية الشاعر على هذه الآنية المنتجة ، وقراءة المناطق الغيبية للنظام النصي لـ ( المتاهة ) كونها نصا حديثا نسبيا حسبما ذيّل في 22 / 12 / 2005 ولكونها أحدثت ( فجيعة ) في ذاتي انبثقت من تحسسي بفجيعة الشاعر التي دبّت نحوي من بياضاتها الفنية والإبداعية ومعالجته الدقيقة عبر تحولاتها الاستذكارية وإعادة ( زمكنة ) الذات عبر الاستغاثة والاستحضار لماضي مخيلة مازالت فتية ، خصبة ، منتجة ، تشيئ ذاتها على انها كائن آخر بمظهر دلالي للاوعي ذات مقتبسة انعكاسات زمنها من خارج نمط الزمن الآني ومحاولة استقدام ذلك الزمن في كل آن بدافع حيوي راع لهذا الاقتباس بفعله الإنساني الضاغط على آلية إنتاج النص وعلى انه مصدر أساسي لمكونات الشاعر المعرفية التي لم تغادره رغم زمانها ومكانها البعيدين فظل وجوده الجديد صدى ذلك الباعث لعمليات المخيلة وتظل ( الذاكرة المسبقة ) تفرض هيمنتها على خيارات الشاعر متحولة إلى أزمة يومية تتسلل إلى انساق النص الجديد حتى لو اختلفت تقنيات الشكل والمضمون فيه . وحسب المفهوم الفيزيائي ( لا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمان ) يظل تمثيل الفعل لزمن ما يعني إعادة تشكيل الفعل لمكان ما وتظل إعادة ترتيب هذا الفعل ( حاكما ) لزمان ومكان منطق الصورة الشعرية التي يخلقها الشاعر في زمان ومكان جديدين كونه شكّل هذه الصورة من زمان ومكان ضاغطين باتجاه الآني المهمّش . من هنا نذهب إلى سؤال : هل الشاعر مستوطنة أزلية لهواجس ( الماضوية ) التي اكتنزت افتراضات أنشأت وعيه وان اختلفت آليات حواضره ؟؟ نجد الشاعر ( سعدي يوسف ) يزاوج بين ما أثثته الطفولة وما لم ترسخ تأثيثه المرحلة التالية بعد باستعادة أجواء الكينونة الأولى لاستقبال وبث الحاضر عبر حنينه لمكونات الطفولة وهيمنة استرجاعها مهما كانت قاسية ومرة قياسا بآنه الحالي وكأنها هي الحقيقة الأزلية المقدسة ، تنطلق منها حقائق خطابه الشعري الجديد . السلة الخوص تدنو من القصب اللدن والسلة الخوص تدنو هي السلة الخوص تدعو تناديك ... ما أجمل الرحلة السلة الخوص حقا ولكن، أتحسبك الطفل ؟
هذه الاسترجاعات لطفولة غابرة صنعت من ( السلة الخوص ) كونها حاضنة أزلية لكثرة استخداماتها في الحياة الجنوبية نمت تحت سقوف القصب بيت الشاعر وموطن نشأته ( الجنوبية ) الأولى المؤثثة من الخوص والقصب ، ولتؤكد هيمنتها كررها أربع مرات بتكرار تلاعب بتكوينه ألسطري داخل النص فنجد سلة الخوص تدنو مرة من القصب اللدن وأخرى من حاضره الهرم تدعوه للرجوع إليها لتظل ( ما أجمل الرحلة ) وباستخدام أسلوب التعجب ( ما ) فيستدرك هذا التعجب : ولكن ، أتحسبك الطفل ؟ / وبمداخلة مكانية تعد امتدادا استرجاعيا للسلة الخوص فهي : هي أبعد من جامع القيروان ومن سور مراكش اللانهاية ( القيروان ) و( سور مراكش ) هذه الأمكنة التي أنتجت ( الأخضر بن يوسف ) أبعد من زنجبار البهار ومن كل شاطئ شرقي أفريقيا أمكنة مرت بها رحلة الشاعر فشكلت ذاكرة إضافية إلى ذاكرته الأولى المؤثثة بطقوس قروية وأجواء روحانية شفافة شكلت تلك الذاكرة الشعرية التي استثمرها النص داخل تأسيسات حديثة لم تشكل لاوعي الشاعر بعد فطغت أجواء مفرداتها وايحائياتها الوعظية في نهاية النص ( يابني ) ... وتكرارها الترتيبي المتناوب مع فعل الأمر ( اتئد ) لتتحول إلى وصايا بان عليها تعب الشاعر من متاهته ، هذا البناء الهرمي الذي شكلته هندسة السطر الشعري بأجواء روحانية تبث شعاعاتها المنحنية من خلف السطور أسوة بإيحائية ( الفسح الفراغية ) ، المسكوت عنه ، الأداء البرقي ، البياضات التي تركت لتملأ من قبل المتلقي لا كما يشاء وإنما كما تمليه متاهة النص التي فرضها الشاعر : ولكنها يابني ، العزيزة فاتئد يابني واتئد يابني ... ورجوعا إلى افتتاحية النص المتسائلة بضمير المتكلم: أين أذهب في مهبط الليل ؟ قد هبط الليل : ولكن أي ليل ذاك الذي هبط وفيه ( امرؤ القيس ) يقرأ معلقته اللامية ، ليل كأن نجومه .... و ( النابغة ) الهارب من ( النعمان بن المنذر ) من هذه الإحالة استفاد النص من فعاليتين : الليل الذي لاينقضي ، الطويل ، الثقيل ، بثقل الرصاص وهذه استفادة من شائعية ثقل الرصاص في الموروث الشعبي وربطها بثقل ليله الذي لا ينقضي واستفادة أخرى من الفعل السلطوي الذي مورس ضد ( النابغة ) ليقول عينيته المعتذرة ثم أراد أن يعطي فاعلية لمساحات هذا الليل فأشار إلى ( ليل طويل ، ليل عريض ) لتوكيد هذه الهيمنة : ليل طويل ( وفيه امرؤ القيس ) ليل عريض ( ونابغة فيه ) ليل / رصاص / ثقيل ... .............................. .............................. .............................. قليل من الليل يكفي . هذه الفسح الفراغية المنقطة جاءت بثلاثة انساق متساوية هندسيا ومتعامدة في النسق الشكلي التي تكررت ثلاث مرات على عموم النص لتفرض علينا ما نريد أن نقوله في المسكوت عنه . وبعد أن اخبرنا عن مهبط الليل اكتفى في المقطع الثاني بالتساؤل الحائر : إلى أين اذهب ؟ حيث وحدته وغربته التائهة ففي الحانة يدعو الزبائن أشباههم ثم أورد مفردة ( المعسكر ) بغرائبية تظهر للوهلة الأولى على انها غريبة عن سردية النص لكنها تظل تشكل تناغما من خلال إيحائها الدلالي كون ( المعسكر ) مكانا للأستذكارات والتهويمات وذكر النساء وليله الطويل القاسي والوحدانية الموحشة التي توحي بها أجواؤه الخانقة المشابهة للأجواء الباعثة للنص ضمّن هذه الجملة بأداة التعجب إشارة إلى عجائبية الغناء في أجواء العسكرة : في حانة القرية، الآن ، يدعو الزبائن أشباههم ويغنون أغنية المعسكر ! أو للنساء اللواتي انتهين ... في المقطع الثالث انتقال السرد من مستوى الضمير المتكلم إلى الضمير المخاطب للدلالة على تشيئ الذات ومخاطبتها على انها كائن منفصل : استرح لحظة ولنفكر قليلا : إلى أين تذهب ؟ هذا المستوى الجديد بالتخاطب ينتقل بنا إلى أجواء جديدة عبر مفردة المحطة، القطارات، السفر الذي أشاد بجماليته ـ رغم مرارته ـ بأداتين للتعجب ( ما ) وعلامة ( ! ) ما أجمل السفر ! وفي المقطع الأخير الذي يبتدئ بـ ( بيت القصيد ) كما احسبه بما خلّق صورة مدهشة جاءت من ربط ثلاثية الليل ، المتسول ، القطار ، فجعل من الليل كائنا متحركا يجلس كالمتسول اعتمد على تأدية تركيب التشبيه ( الكاف ) فالمشبه هو الليل والمشبه به المتسول الذي كان منشغلا بريافة ثيابه المبللة وعطف القطار بحرف ( الواو ) - العطف على نية تكرار العامل - الذي معناه ( مطلق الجمع والتشريك في الحكم ) على تركيب الجملة الأولى فشابه القطار بالمتسول لاستمراريته بالرحيل منذ عشرين عاما مما أدى إلى تهرؤ كيانه ليعود ويرفو كيانه أسوة بالمتسول والليل فأنتج صورة شعرية مدهشة ولو جربنا إن نحذف ( واو ) العطف لوصلت إلينا الجملة هكذا ( قطار مضى منذ عشرين عاما ) ولأختل المعنى واهتزت الصورة ، ( الواو ) هنا نقلت الجملة من المباشرة إلى الشعرية تدعمها ( الفسح الفراغية ) التي تلت هذه الصورة : الليل يجلس، كالمتسول، يرفو ثيابا مبللة وقطارا مضى منذ عشرين عاما ! ........................................ ........................................ ......................................... ما يلبث إن يعاود السؤال بعد إن يشيئ ذاته ليسألها مرة أخرى : إلى أين تذهب ؟ واستفاد من الفعل ( يفضي ) استفادة إيحائية لإنتاج المعنى ليس بمعنى ( جغرافي ) ، يؤدي وإنما بمعنى إباحة السر : تلوح ضفاف البحيرة ... إن البحيرة تفضي إلى النهر والنهر يفضي إلى البحر ما أجمل الرحلة ! حسب ( فور ستر ) ( إن الحبكة هي أيضا سرد مع التركيز على الأسباب ) بمعنى وجود علة وإنتاج معلول ، علة هذا النص هو الاغتراب والمتاهة في مفازاته القاحلة ومدى تأثيرها على تصحر روحية الشاعر فأنتج حبكة بنص شعري لا يظهر به السرد إلا من خلال إخفاقات تلك الروح الهائمة التي تناثرت على مساحات النص الشعري ( المتاهة ) . ( المتاهة ) تعج بسردية شفافة ممتنعة للوهلة الأولى لا تلبث أن تبوح بأسرارها المعذبة وحنينها لماضيها الذي استباحه الاغتراب ألقسري الذي ملّ الشاعر من متعه الزائفة وحنينه لألوان ( سلة الخوص ) وبيوت القصب ومن جدولة إحصائية لدوال النص الأساسية وتكرارها الموزع على المساحة النصية التي أحالت ما سواها إلى أدوات ساندة وأوجدت دلالاتها المقطرة من احتباس العنوان ( المتاهة ) ، الليل ، القطار ، المحطة ، السفر ، الرحلة ، سلة الخوص ، بغض النظر عن عدد تكرارها في النص . هامش: 1 – ( المتاهة ) قصيدة للشاعر سعدي يوسف منشورة في جريدة ( الأديب ) العراقية بعددها 112 في 29 – 3 – 2006
#بلاسم_الضاحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخطاب الثقافي العراقي .. وقدرته على ادارة الأزمة
-
موت المؤلف واعتماد نسق السرد ..قراءة في رواية كليزار أنور
المزيد.....
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
-
الدفاع الروسية تعلن إسقاط 8 صواريخ باليستية أطلقتها القوات ا
...
-
-غنّوا-، ذا روك يقول لمشاهدي فيلمه الجديد
-
بوليفيا: انهيار أرضي يدمّر 40 منزلاً في لاباز بعد أشهر من ال
...
-
في استذكار الراحل العزيز خيون التميمي (أبو أحمد)
-
5 صعوبات أمام ترامب في طريقه لعقد صفقات حول البؤر الساخنة
-
قتيل وجريحان بهجوم مسيّرتين إسرائيليتين على صور في جنوب لبنا
...
-
خبير أوكراني: زيلينسكي وحلفاؤه -نجحوا- في جعل أوكرانيا ورقة
...
-
اختبار قاذف شبكة مضادة للدرونات في منطقة العملية العسكرية ال
...
-
اكتشاف إشارة غريبة حدثت قبل دقائق من أحد أقوى الانفجارات الب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|