|
هل يخسر البصاروة كثيرا لأنهم يعيشون قليلا؟
محمد عبد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 6127 - 2019 / 1 / 27 - 23:46
المحور:
الصحافة والاعلام
توطئة لابدّ منها: في منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ نشر الصديق القاص والكاتب الأردني الأستاذ (عبد المهدي القطامين) مقالًا في صحيفة (الرأي) الأردنية تحت عنوان: "هل يخسر الطفايلة كثيرًا لأنهم يعيشون قليلًا؟"! و"الطفايلة"، كما يُطلق عليهم هناك، هم سكان محافظة الطفيلة.. إحدى محافظات جنوب الأردن. وهي المدينة التي ينتمي إليها الأستاذ (القطامين).. حيث كان، وقتها، مديرًا لثقافتها. ولخصوصية (الطفايلة)؛ فإنّ لهم حيًّا خاصًا باسمهم، في عمّان العاصمة، يُعرف بـ(حي الطفايلة). والطفيلة مدينة ولّادة.. تبوأ كثير من أبنائها مناصب وزارية حساسة. كما أنها رفدتْ الحركة الإبداعية في الأردن والوطن العربي بأسماء مميزة؛ لم يكن آخرهم الشاعر والروائي الراحل (تيسير سبول).. الذي يقول في روايته (أنت منذ اليوم): "أمة نحن أمْ حشية قشٍ يتدرّب عليها هواة الملاكمة منذ هولاكو حتى هذا الجنرال الأخير". هذا الاستطراد يبرره شغف الروح بتلك المدينة التي ألقتْ جبالها معاطفها(1) علينا لتحفظنا.. ليس من البرد وحده. عنوان المقالة تلك نجا من منخل الذاكرة المتسعة ثقوبه. وها أنا أستعيده، كلّه، مستبدلًا بـ(الطفايلة) جنوبيين آخرين.. هم (البصاروة). (1) ربما نكون نحن، جيل النصف الأول من عقد ستينيات القرن الماضي ولادةً، آخر مَنْ أدرك ما كان قد بقي من شواخص البصرة وعلاماتها، التي تنفرد بها، قبل أنْ تهجم عليها الحروب لتستبدل ثوبها الخاكي بألوانها الصافية.. وآلاتها ومعداتها، متجهمة الوجوه، بالبواخر و(أبوام) الهنود الملونة المطمئنة في رسوّها قرب الجرف.. ورائحة البارود بعبق طريق حكاياتها(2).. وأكياس الرمل والتراب وحُفر الخنادق والمواضع بصفوف نخيلها. يرتبط البصري بكلّ ما كان له في مدينته: شطها الكبير وأنهارها.. نخيلها وبساتينها.. سينماتها القريبة منه.. حدائقها العامة ومتنزهاتها. وهو إذ يفقد ذلك، وكثير غيره، إنّما يفقد بعضًا منه؛ فيذوي.. ويذوب.. ثم يتلاشى حين يعجز جسده النحيل عن جمع كلّ أشيائه تلك لجعلها تعيش فيه بدلًا من أنْ يعيش هو فيها. (2) لم تكن المدينة، ونحن معها، نعرف الحرب.. وما علق في الذاكرة من حروب دارت بعيدًا؛ لا يتعدّى جثامين ضحاياها وهم يُحملون إلى هذا الحيّ أو ذاك. والحرب لا تشبه، في شيء، التمرينات التي كانت تجريها القوات، بمختلف صنوفها، في نهاية الستينيات أو بداية السبعينيات من القرن الماضي.. حيث كنّا نبقى متحلّقين حول دائرة ضوء شاحب مركزها لسان فانوس أو لهب شمعة مرتجف، خوفًا ربما، وأكفنا معقودة بأذيال أمّهاتنا. وحين يداهمنا الضوء؛ كنّا نجد كلّ شيء في محلّه. لم نكن نعلم أنّ الحرب قريبة منّا كلّ هذا القرب.. ولم ندرك ذلك حتى ونحن نرى رجالًا شهبًا ينصبون في ساحات مدارسنا منشآت صغيرة عرفنا، فيما بعد، أنها صفّارات إنذار. (3) للموت في البصرة حضور طاغٍ لا يستطيع أحد إغماض العين عنه منذ أنْ عاش (البصاروة) الحرب بكلّ تفاصيلها ومفرداتها كما لم يعشها غيرهم. وهي، وإن ابتعدتْ قليلًا، ما زالت تترك بصماتها في المدينة.. ليس انتهاءً بيافطات نعي شهدائهم المنتشرة في كل الشوارع والأزقة.. ولا بدءًا بما بقي من نخيلهم، مقطوع الرؤوس ومنكسها، وصحاريهم المملوءة بمخلفات حربية مثّلتْ، وما زالت، موتًا مؤجلًا. وعندما خلع (البصاروة) ثياب الحرب، ليغسلوها ويخبئونها إلى حرب لاشك قادمة، وجدوا أنّ مياه الصرف الصحي كانت قد غزتْ أنهارهم، واحتلّ دخان النفط الأسود الكئيب زرقة سمائهم، واستولى الإسمنت، بلونه الشاحب، على ما زهدت به الحروب من أراضيهم الخضراء. كثرتْ طرقهم المقطّعة وأراضيهم المستباحة. وسُجن شطّهم الكبير خلف جنبات (دوب) ما زالت رائحة النفط المهرب، أيام حصار التسعينيات الظالم، تنبعث من بعضها. في مقابل ذلك.. لم يقدّم لهم أحد: لا من مسؤوليهم.. ولا أكادمييهم.. ولا أولئك الذين يملكون حصانة أو (حصانًا).. لم يقدّم لهم أحد ما يمكّنهم من تلافي امتلاء مستشفياتهم بالمصابين بأمراض الفشل الكلوي.. والتسمم.. والربو. لم يخبرهم أحد عن سرّ انتشار الأورام السرطانية حتى بين أطفالهم لدرجة أنّ بعضهم قد لا يجد سريرًا؛ فيضطر إلى أخذ جرعة علاجه على الأرض. لم يفسّر أحد لماذا بقيتْ منطقة (القصور الرئاسية) تُدعى كذلك محتفظة بكلّ تحصيناتها بعد أكثر من عقد ونصف على سقوط النظام؛ ليبقى اسم (متنزه السرّاجي) حاضرًا، فقط، في ذاكرة أبناء المدينة الذين راوغوا الموت والقتل بشتّى صنوفه. بعد كلّ ذلك؛ ترى: هل يخسر (البصاروة)، أو من بقي منهم، كثيرًا لأنّهم يعيشون قليلًا؟ ----------------------------------------------------------------------------------------- (1): محمود درويش/ قصيدة أحمد الزعتر:"ورمتْ معاطفها الجبال وخبأتني". (2) محمد خضير/ بصرياثا / أبو الخصيب طريق الحكايات.
#محمد_عبد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكرسي الهزاز
-
في انتظار غودو (قصة قصيرة)
-
جماعة البصرة أواخر القرن العشرين (شهادة)
-
جماعة البصرة أواخر القرن العشرين في -المشهد الثقافي لمدينة ا
...
-
روايات بمداد مالح
-
الطريق إلى الحلم
المزيد.....
-
إسرائيل تُعلن تأخير الإفراج عن فلسطينيين مسجونين لديها بسبب
...
-
الخط الزمني للملاحقات الأمنية بحق المبادرة المصرية للحقوق ال
...
-
الخارجية الروسية: مولدوفا تستخدم الطاقة سلاحا ضد بريدنيستروف
...
-
الإفراج عن الأسير الإسرائيلي غادي موزيس وتسليمه للصليب الأحم
...
-
الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها أغام بيرغر تلتقي والديها
-
-حماس- لإسرائيل: أعطونا آليات لرفع الأنقاض حتى نعطيكم رفات م
...
-
-الدوما- الروسي: بحث اغتيال بوتين جريمة بحد ذاته
-
ترامب يصدر أمرا تنفيذيا يستهدف الأجانب والطلاب الذين احتجوا
...
-
خبير: حرب الغرب ضد روسيا فشلت وخلّفت حتى الآن مليون قتيل في
...
-
الملك السعودي وولي عهده يهنئان الشرع بمناسبة تنصيبه رئيسا لس
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|