|
ابن رشد والسياسة: قراءة في كتاب الضروري في السياسة لصاحبه ابن رشد
وليد مسكور
الحوار المتمدن-العدد: 6127 - 2019 / 1 / 27 - 22:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة عامة:
نُظِرَ إلى التراثِ الفلسفيِّ السياسيِّ الرشدي بقليلٍ من الاهتمامِ النظري، من لدن الأبحاث و الدراساتِ التي اُنجِزتْ في الفلسفة السياسية و العلوم الاجتماعية، و نلحظ ذلك، سواء عند الكثير من المستشرقين، أو عند من اهتجسوا المسألة السياسية في الفكر الإسلامي من مفكرينا المعاصرين، اللّهم إلا فيما ندر. على أن ابن رشد إنما عُني بتحليل واقعه السياسي و الاجتماعي، الأندلسي برؤىً فلسفيةٍ، تنهل من مقاربة أرسطية، اُسُّها البرهان، كما تجلى ذلك بأبهى تجلياته في كتابه "الضروري في السياسة"، الذي تفرغ فيه لتلخيص أقاويل أفلاطون في شأن تيمة العدالة، كما وُجِدتْ في كنف محاورة "الجمهورية"، و لنا أن نعزو شبه غياب اهتمامات الفكر المعاصر بفيلسوف قرطبة السياسي، إلى غياب كتاب ابن شد نفسه لقرون، و ذلك لأن النص الأصلي بالعربية، كُتِبَ له أن يُفْقَدَ و يضيع في المكتبات العربية، لولا نسخته العبرية التي أُعِيدتْ ترجمتها إلى اللسان العربي، على يد الدكتور أحمد شحلان. تكمن أصالة فكر الفيلسوف في إخضاعهِ السياسةَ للبرهانِ و للفحصِ النقديِّ، عازما كشف مواطن الخلل، في التجربة السياسية العربية، خاصة في الأندلس، كما لو أراد أن يتفادى روح التشاؤم التي انتهى إليها أفلاطون، ليؤكد إمكان تحقيق حلم المدينة الفاضلة على أرض الواقع، لكن بطرق غير تلك التي اعتمدها صاحب الجمهورية، كما أكد ذلك محمد عابد الجابري في قوله:" إن ابن رشد ينفصل، بل يقطع مع يأس أفلاطون، ليقرر أن المدينة الفاضلة ممكنة على هذه الأرض و على وجوه أخرى، و أن الطريقة التي اقترحها أفلاطون ليست الطريقة الوحيدة الممكنة" . هذه إشارة إلى صعوبة فهم مراد ابن رشد من الكتاب، دونما تكوين نظرة ثاقبة حول المناخ الثقافي و الاجتماعي و السياسي لعصره. و ما ميز مشروعه الفكري/ السياسي مقارنة بالايديولوجيا السلطانية و الفقه السياسي، أنه قد عبر عن رفضه المطلق لكل أنماط الاستبداد في عصره، و هذا راجع إلى انشغاله بمهمة إصلاحية في مجالي العقيدة و السياسة، بمنهج فلسفي و علمي، و كتابه هذا يدخل في إطار مشروعه الإصلاحي السياسي. فعلى حين أن أفلاطون أُحْبِطَ من فشل تحقيق مشروع المدينة الفاضلة في واقعه، نجد أن ابن رشد يرى ذلك ممكنا في ظل إحداث الشروط الموضوعية المناسبة لها، و من ثمة، فهو ينفي أن يتحول عقل الفيلسوف في مجال السياسة إلى طرف مستقيل. و الحق أننا سنتعاطى في هذا البحث المتواضع، لجملة تساؤلات إشكالية، و نقاربها بشيء من الإيجاز: ما هو المنهج الذي استند إليه فيلسوف قرطبة و هو يحلل كتاب الجمهورية الأفلاطوني؟ كيف قرأ تصور أفلاطون لكل من العدالة و المدينة الفاضلة؟ ما هي أبرز شروط الرئاسة و كيف يمكن لهذه المعايير أن تتوفر في فرد أو أفراد بعينهم؟ كيف أسس ابن رشد لوشائج الاتصال بين جمهورية أفلاطون و واقعه السياسي/الاجتماعي الأندلسي؟
منهج الفيلسوف: البادي، أن فهم اطلاع ابن رشد على جمهورية أفلاطون، إنما يتحقق بالعودة إلى مصدرين اثنين: أولهما الإشكاليات التي تنهل من الواقع العربي الأندلسي، و التي جعلت الخطاب السياسي الرشدي، فلسفة عاكسة للسان حال المدن التي كانت تعيش تحث وطأة الطغيان و الاستبداد، و هنا إشارة إلى وحدانية التسلط، بحسبانها سمة ينفرد بها أولئك الذين تُسند إليهم مهام الحكم في البلاد الإسلامية، و يضيف الدكتور الجابري هنا قوله:" و أخيرا و ليس أخرا فالسبب الحقيقي في نكبة ابن رشد هو ما ورد في هذا الكتاب من تنديد بمدينة "وحدانية التسلط"(الاستبداد) ، و التبشير بإمكانية تشييد مدينة الفضيلة و العدالة مكانها." أما ثاني هذين المصدرين فيمكن إيعازه إلى التأثير الأرسطي في فلسفة ابن رشد، و يبدو ذلك على نحو أوضح في محاولة تنقيح المنظومة السياسية الأفلاطونية مما لا اتصال له بالعلوم المنطقية المعتمدة على البرهان، فَبَيِّنٌ إذن، أن تعامل ابن رشد مع النص الأفلاطوني كان باختصار المفيد منه و الضروري لتأسيس علم مدني، له مقوماته و ضوابطه، ليغدو الغرض المتوخىَّ استنطاقًا لكلِّ ما له صلةٌ بالعلم و البرهانِ، و تخليًا عن القضايا الجدلية. ويحظى العلم المدني في فلسفة ابن رشد، بنفس مقام العلوم النظرية، و لئن كان يختلف معها في المبادئ و الأسس، فإنه يبقى واحدا من أهم العلوم المستفاد منها في الواقع المعاش، و لذلك صنفه ضمن العلوم العملية، التي لا تُطلب لذاتها و إنما لغاية عملية. و ما يميز العلم المدني كذلك، كونه يدخل في دائرة الإرادة و الاختيار و يستحضر عنصر النوايا البشرية، عكس ما وُجِدت عليه العلوم النظرية. الواقع، أن ابن رشد كان قد ألَّف هذا الكتاب، بطلبٍ من أبي يحيى، أخ الخليفة المنصور، و كان لغياب كتاب السياسيات لأرسطو- الذي كان مفقودا وقتذاك- ما يبرر اعتماد ابن رشد جمهورية أفلاطون، لتأسيس مشروعه الإصلاحي. على أن كتاب السياسة لصاحبه أفلاطون، أُريد به فحصٌ علميٌّ و تحليلٌ نقديٌّ للواقع و المجتمع السياسين، اللذين كان ينحدر منهما ابن رشد، و عليه تم الوقوف فقط عند القضايا، التي يرى فيها استجابةً لمعيار البرهان، فاستغنى عن كل ما وظفه أفلاطون من حكايات و أمثولات، ليحول الخطاب من محاورة جدلية إلى نص نسقي، قوامه التحليل و التركيب، ولنا قول رشدي في هذه الفرضية بما مؤداه:" قصدنا في هذا القول أن نجرد الأقاويل العلمية التي في كتاب السياسة المنسوب لأفلاطون في العلم المدني، و نحذف الآراء و الأقوال الجدلية، سالكين سبيل الاختصار كما هي عادتنا في ذلك." و كل هذا يمكن اختزاله إلى سؤال سنعتبره بوابة رئيسًا، نحو مشروع ابن رشد السياسي: كيف نرتقي بالسياسة من مستوى الجدل إلى مرتبة العلم؟ و كبداية لمقاربة هذا السؤال، كان لا بد من البدءِ بسؤال أخر في غاية الأهمية، له ارتباط بموضوع العلم المدني، و هو مسألة الاجتماع: فكيف يَنْظرُ الفيلسوفان -أفلاطون و بعده ابن رشد- إلى الاجتماع البشري؟ ضرورة الاجتماع البشري: تحوي العدالة في نظر ابن رشد فكرة الكمال، بما هي تَحَلِّي الإنسان بفضائل أربع(العفة، الشجاعة، الحكمة، العدل)لا يمكن للاجتماع أن يتم عنها بمعزل، و ذلك لأن الإنسان، في أمَسِّ الحاجة إلى من يعينه على بلوغ الفضيلة، و هذا ما قصده الحكيمان، أفلاطون و أرسطو في اعتبارهما الإنسان كائنا يميل بطبعه إلى الاجتماع، " و لذلك قيل بحق عن الإنسان: إنه مدني بالطبع." بل و حتى في المسائل الضرورية، كالأكل على سبيل المثال، يحتاج الإنسان إلى بني جنسه كلما تَمَلَّكَتْهُ رغبةُ تحصيلها، و عليه، يمكن تقسيم هذه الحاجات إلى أنواع نذكر منها: الضروري، أي قوام العيش، الذي يحتاج فيه الإنسان إلى أخيه الإنسان، من أجل الاستمرار في الحياة. الحاجي و يعني به ابن رشد الشيء الذي إذا أنجزه الإنسان حصل لديه الرضا، و إذا لم ينجزه لن يَضُرَّهُ ذلك في شيء. و أخيرا التحسيني، بمعنى العمل على تحسين ظروف العيش و الارتقاء بها نحو الأجود. و عندما تحضر هذه الحاجات التي يكون فيها الإنسان ميَّالاً إلى غيره من الناس، تَبْرُزُ أهمية التعاون في تحصيلها، و بما أن المهام الإنسانية هي مما لا حصر له، فليس يتيسر في نظر أفلاطون على الفرد الواحد أن يُلِمَّ بكل الصناعات، لأن ذلك غير ممكن التحقق، في ظل وجود أناس كُثرٍ تُقَسَّمُ المهام فيما بينهم. تَبَيَّنَ إذن، أن الملكاتِ التي ذُكِرَتْ فيما سبق، إنما هي موجودة بشكل متفرق بين الناس، و لا يمكن للواحد منهم أن يستوفي كل هذه الفضائل، الأمر الذي أوجب تأسيس اجتماع مبني على التعاون،" و هذا أحد الأسباب التي جعلت أفلاطون يرى أنه لا ينبغي لأهل المدينة أن يتعلم الواحد منهم أكثر من صناعة واحدة" .و تُفصح نواميس الطبيعة عن استحالة قيام الفضائل و الكمالات، بمنأى عن التعاون، إذ ليس بحسب أفلاطون كل الناس مهيئين بالفطرة للقيام بنفس الصناعات. و لمَّا كان الأمر كذلك، توضح لابن رشد أن العدالة كما تصورها أفلاطون، أضحت وقفا على هذه الفضائل وهي متجسدة في كل شرائح المجتمع، فإلى أي مدى يمكن الحديث عن التداخل ما بين العدالة و الفضيلة داخل المدينة؟
في مفهوم العدالة الأفلاطونية: إن الهندسة الأفلاطونية لفضائل المجتمع، رافقها نقد رشدي لجزء منها، يتعلق بما ادعاه أفلاطون من إمكانية احتكار اليونان للفضائل دون غيرهم من الأمم و الأجناس، لأن هذه النظرة التعصبية للسياسة، أنجبت إقصاءً قسريًا لغيرِ الإغريق من دائرة العدالة، مع سابق العلم أن المنطق يُقِرّ بالطابع الكوني للفضائل. أما بخصوص توزيع المهام بين فئات المدينة بما تُقره نواميس الطبيعة، فذاك ما لم يرفضه ابن رشد، لأن العقل لا يسمح بأن نُعَلِّمَ امرئً مهاراتٍ و معارفَ كثيرةً، فواحدة منها تكفي لكي يُحَصِّلهَا و يمارسها بإتقان، بدليل أن الفضيلة كما سبق و قلنا، لا تكتمل إلا بالفعل و الممارسة، و من ثمة، وجبت مراعاة استعدادات الناس الطبيعية، قبل أن يُشْرَعَ في تربيتهم و تنشئتهم. و يستحضر هنا ابن رشد مثال"الحفظة" الذين إذا لم تتوفر فيهم شروط القوة الجسمانية، و قوة الإحساس و إمكانية التفاعل الإيجابي مع كل ما يجري داخل المجتمع و خارجه من أحداث، صَعُبَتْ عليهم حراسة المدينة و الحفاظ على أمنها، كما يلزم هؤلاء الاتصاف بسمة الغضب، ويزاوجوا بين الحب و الكراهية، و ذلك بأن يحبوا ذويهم، أي أهل المدينة، و أن يكرهوا من هم خارج المدينة، شأنهم في ذلك شأن الحكام، الذين ينبغي أن يتوفر فيهم شرطا العلم و الحكمة من جهة، و كره الجهل من جهة أخرى، و ما دام حديثنا شديد الاتصال بالفضائل التي لا تتم إلا بالتمكن من جملة مهارات و صناعات، فليس من المنطقي في شيء أن تُسْنَدَ إلى فرد واحد مهام كثيرة. تقتضي ماهية العدالة تفصيل القول في الفضائل الأربع، بما هي الاُسُّ العملي لها كقيمة أخلاقية، بداية بتبيان فضيلة الحكمة داخل المدينة، و مَنْ مِنَ الناس أجذر بها و أهلٌ لها، لأن نظام المدينة الفاضلة يحتاج إلى من يحسن تدبير الشأن العام بعقلانية و بِعلم مُحْكَمٍ، و إلى من يقتفي أثر الحكماء الفضلاء في تبني الحكمة، و فرض الآراء السديدة، و بعبارة أوضح، يتعين على من تُسند له زمام الحكم أن يستوفي شرط العلم النظري، و أن تكون له دراية شاملة و دقيقة بثوابت العلم المدني. و في نُدرة هذا الصنف من الناس القادرين على القيام بهذه المهمة العسيرة، ارتأى أفلاطون أن يكون الفلاسفة بما هم قلة أنسب فئة لهذا الغرض بالذات، و حجته في ذلك أن الفيلسوف إنما يرى عدالة المدينة و كمالها، في مقدار فُشُوِّ الفلسفة النظرية بين أرجائها. على أن فضيلة الحكمة، و إن كانت ضرورية لتحقيق العدل، فهي وحدها لا تكفي، إذ المدينة في أًمَسِّ حاجة كذلك إلى من ينفرد بفضيلة الشجاعة و يتقمص دورها، و هنا ما من بد من القول، إن المدينة يَتَعَصَّى عليها الاستغناء عن الجند، من حيث قدرتهم على حفظ أمنها الداخلي و الخارجي، و هؤلاء وجب اختيارهم بمقتضى فضيلة الشجاعة، و إلى أي مدى هم مستعدون للصمود أمام ما قد يخيف عامة الناس أو يفزعهم، ناهيك بأن فئة الجند هذه، هي في غنى عن الشهوات لأنهم هذبوها بفضيلة الشجاعة، و في هذا السياق يقول فيلسوف قرطبة:" و بين كذلك من جميع ما تقدم أنه يجب أن يكون الحفظة و ذوو البأس حكماء بالطبع، محبين للعلم كارهين للجهل، شجعانا سريعي الحركة." . و لأجل اكتمال مشروع العدالة، كان لا بد من توفر فضيلة العفة في المدينة بأكملها، و بين كل فئاتها دونما استثناء، فالعفة بما هي وسطية و اعتدال، توجب تحلي كُلاً من الرؤساء و الجند و الجمهور بها، ففي ذلك يحصل الانسجام و التناغم، و أخيرا و ليسا أخرا، تتحقق فضيلة العدالة في المجتمع ما إن يقوم كل جزء منه بالعمل المنوط به. فما الذي يقصده أفلاطون بالمدينة الفاضلة؟ و من هو الرئيس الفاضل؟ المدينة الفاضة و الرئيس الفاضل: من المُسَلَّمِ به سواء عند أفلاطون أوعند ابن رشد، أن نشوء مدينة فاضلة يترأسها رئيس فاضل، يقتضي توفر جملة من المعايير و الأسس النظرية و العملية، بما هي شرط لقيام العدالة، " أما في أي جزء من المدينة تكون الحكمة؟ ف(الجواب) أنها تكون في أقل أجزائها عددا أعني: الفلاسفة. و ذلك لأن طبائع هؤلاء وجودها أندر وجود بين سائر الطبائع، أعني طبائع أهل الصنائع العملية. فبديهي إذن أن الحكمة يجب أن تكون على رأس المدينة، و أن تكون المدبرة لأمورها." و من هنا اهتدى صاحب الجمهورية إلى عقد مماثلة بين طبقات المدينة الفاضلة، و بين ما يوازيها في النفس البشرية من أصناف، فكما أن فضائل المجتمع تتوزع إلى حكمة و شجاعة و عفة، بالكيفية و بالمقدار الذي يجب، كذلك تتألف نفس الفرد من قوة عاقلة و هي الجزء الصالح فيه، و من قوة غضبية و أخرى شهوانية باعتبارهما الجزء الأفسد فيه. على أن العدالة في النفس لا تتحقق إلا بخضوع القوتين: الغضبية و الشهوانية لسلطان العقل، حتى يتم تهذيب الشهوة و يصير صاحبها عفيفا، و يَضْبِطَ الغضب و الانفعالات ليصبح مهيئا لفضيلة الشجاعة، و يتوقف هذا الرهان الأخلاقي على تولي العقل دور الحكمة. و هذا هو حال المدينة، بحيث لن تسود العدالة ما لم يحكم الفلاسفة. ليس من قبيل الصدفة، أن يحدد أفلاطون ماهية المدينة الفاضلة، من زاويتي الانسجام و التناغم، فبحسب اعتقاده يكون العدل داخل النفس أمرا ضروريا لتتحقق العدالة في المدينة، و طالما أن العقل هو من يقود النفس، فإن للحاكم مركز السيادة في المدينة، و ذلك لأن الانسجام الذي يطبع قوى النفس هو ذاته موجود داخل المدينة. و من هنا نَعَتَ ابن رشد مدينة الفضلاء هذه بالرَّجُلِ السوي، إذ يبدأ بالفرد و يقول بما مؤداه، إن فضيلة النفس تكمن في التوافق و الانسجام، أما الرذيلة فهي عينها غياب هذا التوافق، و بالتالي، كلما فقد الإنسان ما به يَحْدُثُ التناغم، اُصِيبَتْ نفسه بالعلَّة و الأمراض، و كما أن الصحة واحدة و الأمراض هي مما لا حصر له، فكذلك إن الفضيلة واحدة و الرذائل كثيرة، و نفس الشيء على مستوى الاجتماع الإنساني، فالمدين الفاضلة واحدة، في حين أن ما يقابلها من مدن جاهلة كثيرٌ. ينتقل بنا ابن رشد من علاقة النفس بالمدينة إلى حديثه عن مكانة المرأة في الاجتماع الإنساني، والحال أن من بين ما تستوجبه سياسة المدينة الفاضلة في نظره، أن نُؤَصِّلَ لمفهوم المساواة في الأعمال بين النساء و الرجال، يقول هذا، و أن الطبيعة لا تمنع الأنثى من امتهان نفس المهام التي كان يحتكرها الرجال، كالحكم و المشاركة في الحروب ..... أما سبب تراجع قيمة و مكانة المرأة في محيطه الاجتماعي، الأندلسي، فيعزوه ابن رشد إلى العشوائية في التدبير آنذاك في ولاية المنصور، إذ كُلِّفَتِ النساء فقط بالصنائع التي تجعل منهن ربات بيوت، لا يقوين سوى على الإنجاب و التربية، و مستبعدات من الشأن السياسي، الأمر الذي كانت له تداعياته السلبية، و من ثمة، قصور المرأة في تطوير المجتمع، و السبب ليس في ضعف النساء، و إنما في عدم الامتثال للقانون الطبيعي الذي يُقِرُّ بالمساواة بين الجنسين." فإن كان الأمر الأول فقد يصح أن تقوم النساء في المدينة بأعمال هي من جنس الأعمال التي يقوم بها الرجال، أو بعينها، فيكون من بينهن محاربات و فيلسوفات و حاكمات و غير هذا." تبين مما تقدم إذن، أن للنساء كامل الحق في أن يُكَلّفْنَ بالأعمال نفسها التي كُلّفَ بها الرجال، نظرا لتكافؤ المؤهلات الطبيعية بين الجنسين، و عليه يمكن التساؤل حول كيفية قيام التزاوج بين الحكام، و ما هي المعايير التي اشترط أفلاطون توفرها في تلك العملية، لكي تكون في صالح المدينة؟ بداية، إن التزاوج ليس يتوجب أن يحصل لمجرد الجنس فقط، و إنما حسب ما تتطلبه الحاجة، و بالقدر الذي يجعل من التوالد نعمة لأهل المدينة لا نقمة، ثم إن الأمر لا يصح أن يتم مع أيٍّ كان، بل مع من يشبهن الحكام في الملكات و يتقاسمن معهم ذات الخصال، و يؤكد هنا أفلاطون، أن شيوع المسكن و الثروة بين الحكام ، ينضاف إليه شيوع النساء و الأولاد بينهم، حتى لا يُسمحَ للأب معرفة ابنه و لا للابن معرفة أبيه، لكي يعتقد الوالد أن كل الأبناء ينحدرون منه، طالما أنه جامع كل النساء. علاوة على ما تقدم تبيانه، يؤكد أفلاطون أن مثال المدينة الفاضلة مستحيل التحقق على أرض الواقع، ما لم يكن الحاكم فيلسوفا، و هذا الأخير إنما يتخلص من المحسوس(الهيولى على حد تعبير ابن رشد) ليرقى الى المثل العليا(الصور) بواسطة الجدل الصاعد. فما هي الشروط التي إذا توفرت في الرئيس صار فيلسوفا؟ حدد ابن رشد تلك المعايير على النحو الأتي: الإلمام بالعلم النظري و امتلاك القدرة على تعلمه عن طريق البرهان. الجمع بين ما هو نظري و ما هو عملي، فالفيلسوف إنما يتعاطى للفلسفة من حيث ما هي علم نظري، و يمتهن السياسة بما هي علم عملي إلى جانب الأخلاق. قدرته(أي الرئيس) على التعاطي للمسائل النظرية بمقتضى الفطرة، بمعنى أن يكون مؤهلا بالطبع لدراسة الفلسفة. أن تكون لديه رغبة دقيقة في تحصيل كل العلوم، و العمل بها بما يخدم المدينة. أن يميل إلى الصدق و الحق، وأن لا يكون عبدا لشهواته، و لا مهووسا بجمع الأموال و الثروة. أن يتحلى بالفضيلة و الشجاعة، و أن تكون لديه قوة التأثير في من يحكمهم.
لائحة المراجع:
ـ الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، المقدمة التحليلة للدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية. ـ ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، تعريب الدكتور أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية. ـ
#وليد_مسكور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الفلسفة الدينية إلى فلسفة الدين
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن صاروخ -أوريشنيك- الذي استخدمته روسيا لأول مرة ف
...
-
زنازين في الطريق إلى القصر الرئاسي بالسنغال
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|