أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - كتبٌ تعيشُ ولا تموت














المزيد.....


كتبٌ تعيشُ ولا تموت


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 6127 - 2019 / 1 / 27 - 12:37
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


هُناك كتب تعيش بيننا وتكتسب كل يوم يمرُّ على صدورها جدَّة وطرافة، وجدارة بالقراءة، لأن ما فيها من مادة، ولأن ما تناولته من مواضيع، باقية ما بقي فكر الإنسان. ولا شك في أن هذه الحقيقة الماثلة في هذه الكتب التي تصدر في طبعات تخلف طبعات تُجدد علاقتها بالأجيال وتدفعهم للقراءة من جديد. لأن ما يمس شغاف القلب الإنساني لا بد أن يمس جميع القلوب. لذلك هل يسعنا القول بأن حضارة أي أمة هي ثمرة تفكيرها وما تُنتجه من كتب لا تموت.
1
هذه شهادتي. إنها شهادة شخصية، عن هذه النوعية من الكتب التي ساهمت في تشكيل وعيي المبكر، ومن ثمَّ رسمت بما لا يدع مجالاً للشك أُفقي المعرفي وفتحت دروب الفكر أمامي، وأصبحت الآن جزءاً من أفكاري ووجودي. وآمل أن أُحسن التعبير عما تركته في وجداني من ثقافة كونية-لا أُحب كلمة ثقافة- لنقل معرفة كونية تنصبُّ في العقل المعرفي الذي يمسح الغشاوة عن البصيرة التي ترى في البشر ذلك الجانب من السراط المستقيم والهادي إلى العمل. ويحضرني هُنا قول كونفوشيوس: لا أدري ما أفعل بالإنسان الذي لا يُسائل نفسه عما يجب أن يفعله.
2
بعض الناس يظنُّ أنه يعرف طريقه إلى البيت. أؤكد لكم أنني لا أعرف هذا الطريق دائماً، فكثيراً ما كنتُ أرتقي السياج بدل الدخول من الباب، لأنك قد تجد الحكمة في طبعة كتاب رثِّ مُغبرِّ مغمور ممزق مدفوع بالأبواب أكثر مما تجدها في كتاب أنيق الطباعة مذهَّب الحواشي يرتاح على رفِّ مكتبة فخمة في شارع أنيق.
3
يتقدَّم هذه الكتب بجدارة واقتدار كتاب (أصل الأنواع)، ففي زيارتي الأولى لمدينة دمشق صيف عام 1977، أنا القادم من بلدة ريفية صغيرة في الشمال السوري، تعرّفت إلى تشارلز داروين وكتابه المشهور، والمفارقة المذهلة أن هذه المعرفة جرت بالمصادفة، فقد أنهيت اختبارات مرحلة التعليم الإعدادي بنجاح، وأراد والدي مكافأتي، فأرسلني لزيارة أخي الكبير الذي يدرس الصيدلة في جامعة دمشق.
4
قادتني المصادفة في ذلك النهار الصيفي للسير في الطريق الذاهب مباشرة من ساحة الحجاز باتجاه شارع 29 أيار، وبعد تخطي جسر فكتوريا، الذي كان يشيَّد آنذاك، رأيت على الرصيف الأيمن قبل خطوات من مقهى الهافانا والذي يجمع الله فيه شمل الكتاب والأدباء وأهل الثقافة، مشهداً أدهشني وبقيت صورته مطبوعة في مخيلتي إلى يومنا هذا: وقفتْ على ناصية الشارع عربة خضري بثلاثة عجلات وبدل أن تكون مليئة بالخضار والفاكهة استبدل البائع بضاعته نسخاً مرصوفة فوق بعض من كتاب داروين (أصل الأنواع) وقد لفت البائع انتباه السابلة عن طريق نداء غريب غرابة بضاعته، فقد أمسك نسخة من الكتاب، رفعها بيده اليمنى، وصاح بأعلى صوته: يا شباب أصل الأنواع بثلاثين ليرة سورية – هي بضاعة على كل حال- وفعلاً اجتمع الناس حول بضاعته.
5
كانت النسخة المعروضة للبيع في الشارع العام من طباعة مكتبة النهضة بفرعيها في بيروت وبغداد ترجمة الكاتب والمفكر المصري إسماعيل مظهر. وقد ترجم الفصلين الأخيرين الرابع عشر والخامس عشر الدكتور محمد يوسف حسن، أستاذ الجيولوجيا المساعد بكلية العلوم جامعة عين شمس وذلك بعد وفاة إسماعيل مظهر. رسم غلاف الكتاب جمال قطب الرسام المصري المشهور والمتخصص برسم لوحات الكتب. وقد أمعن الرسام في جعل غربة الكتاب شديدة برسمه صورة داروين وعن يمينها رسم وجه قرد مبتسم.
6
تألفت النسخة من سبعمئة وأربعة وثمانين صفحة من القطع الكبير، وجاءت مقدمة المترجم في مئة صفحة، أضاء من خلالها أهم أفكار نظرية التطور الغريبة عن الفكر اليومي للقارئ العربي يوم ذاك-وأظن إلى يومنا هذا وأكثرنا ما زال يتخبط في عصر ما قبل داروين- وفي لفتة ذكية استحضر إسماعيل مظهر ما في التراث الإسلامي والمسيحي من أفكار حول تطور الكائنات الحية ودمجها مع فكرة التطور عند داروين كي يزيح الوحشة والغربة عن الأفكار التي يُترجمها.
7
هذه النسخة من كتاب أصل الأنواع والتي صدرت أول مرة في ثلاثينيات القرن العشرين، رافقت مسيرة حياتي العلمية من تلك الأيام ولم أتخيل يوماً أن هذه الواقعة ستكون مدخلاً للكتابة عن ذكرياتي مع هذا الكتاب الذي حاجج فيه داروين علماء عصره بثقة وروية. ظهرت الطبعة الإنكليزية الأولى لكتاب (أصل الأنواع) في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1859في لندن في مئتين وخمسين نسخة فاخرة، بيعت في ثلاثة أيام.
8
بقيت نسخة إسماعيل مظهر الترجمة العربية الوحيدة الكاملة لكتاب (أصل الأنواع) المتداولة في الوطن العربي أكثر من خمسة وسبعين سنة إلى أن أصدر المجلس الأعلى للثقافة في مصر ترجمة جديدة في عام 2004 ضمن مشروعه القومي للترجمة. تصدى لهذه الترجمة الدكتور مجدي محمود المليجي عن الطبعة السادسة لكتاب (أصل الأنواع) الصادرة في آذار سنة 1872 وهي الطبعة التي أضيف إليها الفصل السابع المحتوي على الاعتراضات التي قامت ضد نظرية التطور والردود عليها ليصبح الكتاب مكوناً من خمسة عشر باباً.
9
اليوم لا يستطيع أحد أن ينكر أن كتاب (أصل الأنواع) قد أحدث انقلاباً حقيقياً، كثيراً ما يوصف بأنه أهم الثورات العلمية جميعاً. ففي هذا الكتاب العديد من الشواهد المؤيدة لفكرة استمرار تطور الأحياء عبر الزمان. وفي العقود التالية لنشر كتاب (أصل الأنواع) اكتشف البيولوجيون مزيداً من الشواهد الدالة على أن هذا التطور قد حدث بالفعل. ولمدة أزيد من قرن ونصف القرن على صدور كتاب (أصل الأنواع) لم تعد هناك حاجة إلى إثبات التطور، فقد انتهى الحديث عنه كنظرية لأنه أصبح حقيقة راسخة رسوخ حقيقة كروية الأرض ودورانها حول الشمس. لأن لا شيء في علم الأحياء يمكن أن يكون له معنى إلا في ضوء التطور. إن تشارلز داروين لم يكن أول من فكر بالتطور، ولكن إنجازه الحقيقي هو أنه جعل الفكرة محترمة، ففي أوائل القرن التاسع عشر كان مفهوم التطور غير مألوف تماماً. وقد كتب داروين لأحد أصدقائه عن حقيقة الاعتراف بفكرة التطور: إنه يشبه اعترافاً بجريمة قتل.



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنوسة الوعي...حواء النمط المبدئي للجنس البشري
- تعلَّم الحريَّة في سبعة أيام
- ثلاثية الخروف السوري والدولار الأمريكي
- لا تنشر بيدك غصن الشجرة الذي تجلس عليه
- الحُكّام يأكلون الحصرم
- ثلاثية الكلاب
- علي الشوك وداعاً ... هل كتبتَ روايتكَ الأخيرة؟
- الفلسفة في جذورها اللغوية
- أُفّ من الحُكّام
- أنا لا آكل أحداً
- المعرّي فيلسوفاً
- قضيَّة المرأة الساكتة
- من هي السيدة ديمقراطية؟
- شيوعيون في المساجد
- أنا أحبُّ سقراط
- حاشية من تاريخ مصر الحديث
- أفسحوا الطريق
- إذا قطعتم أصابع كفي سأرسم بأصابع قدمي
- سنة الشاعر الفلسطيني معين بسيسو في العراق
- ثمن السُّكر الذي تأكلون


المزيد.....




- الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و ...
- عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها ...
- نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
- -ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني ...
- -200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب ...
- وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا ...
- ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط ...
- خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد ...
- ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها ...
- طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبدالرزاق دحنون - كتبٌ تعيشُ ولا تموت