|
ديناميكيات المُقدس في الدين والرأسماليّة-مُراجعات في فكر الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن (2)
محمد قعدان
الحوار المتمدن-العدد: 6126 - 2019 / 1 / 26 - 02:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المُقدس والعلمانيَة
"الكون الكاثوليكي ممتلئ بالمقدس والمعجزة والسحر" هكذا صاغ الدكتور عبد الهادي فكرتهُ حول تغلغل المُقدس في الكون الكاثوليكي وهو إرتباط مباشر بين الإنسان بالآلهة في العالم، البروتستانتية هي إفراغ المُقدس من العام وحصرهِ في مجالات الخاصّ. المُعجزات تختفي كليّا، العالم الطبيعي يحضر بقوّة إزاء العالم الإلهي. هكذا تتم علمنة الوعي، تتبلور رؤيتهم إلى العالم عبر آلياتهم الخاصة من دون إستنادات إلى التفسيرات الدينيّة، وهكذا كانت البروتستانتية قائداً حاسماً في عمليّة العلمنة.
يعتمد تفسير وسرعة العلمنة في أوروبا إلى شكل وممارسة المؤسسة الدينية، المؤسسة الكنسيّة اعتمدت في الأساس على تقسيم الكون إلى سلطتين، المُقدس والمدنس. وبذلك العلمانيّة اخترقت أوروبا من خلال قدرتها على تفكيك الثنائيّة وتلاشي المُقدس. وبذلك حدثت العلمانيّة سريعة، وممكن أيضاً رؤية ذلك من خلال كتاب مارتن لوثر المملكتان (مملكة المُقدس في السماء والمملكة الدنيوية)، ويرى الدكتور عبد الهادي أن صعود العلمانية هي مكنت شرعية لاهوتية للبروتستانتية وفقاً للمبادئ التي وضعها مارتن لوثر. ولكن يوضح أن العلمانيّة هي ليست حتميّة ومتلاصقة في الغرب، بل نتيجة لظروف تاريخيّة وإجتماعيّة أدت إلى العلمانيّة.
في العالم العربي الإسلامي يرى الدكتور أن المؤسسة الإسلاميّة وسلطة المُقدس كانت إنتشارية، حيث تنتشر في كلّ نواحي الحياة المدنيّة والإجتماعية وتُشكله بتصوراتها. إنها تدخل في العلم وتصيغ مصطلحاتهِ، وهكذا تُسيطر على الإنتاج المعرفي في العالم العربي والإسلامي. وأيضاً يُعطي المُقدس معاني كامنة للمجتمع وتبلورت هذهِ المعاني بأن تكون جوهر المُجتمع والثقافة.
"إنها تُشكل سلطة كامنة، مخزونة، تشبه آلياتها ما يدعوه بورديه بتمركز المجالات الاجتماعية. فهي مؤسسة رغم عدم قابليتها للتبادل على مستوى الآخر بإعتبار حقيقتها الكلية، لكنها تتسلل فيما يشبه عملية التراكم (أو التركيز) أو الرشح على بقية القطاعات، ولها قوة تاريخية فاعلة. وهذا ما أتاح لها وصولاً إلى السلطة في حزام جغرافي كبير في نهاية القرن، ومقاومة كبرى، أو على الأقل إنتشاراً فاعلاً في البنية الاجتماعية والثقافية، وهو ما يُعطل أي إمكانيّة حقيقية للعلمانيّة على الشكل الغربي" الفكرة الأساسيّة التي يسردها الدكتور عبد الهادي أن صعود العلمانيّة عبر صراعات بين طبقة التجارية الرأسماليّة والإقطاعيين والكنيسة الكاثيولكية في تلك الفترة، جعل من المُمكن تلاشي المُقدس، لكي يُسهل صعود رأس المال والسوق المفتوحة الحرَة، وذلك يعتمد بالضرورة على تبلور الحداثة والليبراليَة والفردانيَة وبذلك تمّ بناء بُنية إجتماعيَة تُلائم هذهِ المُتغيرات. في العالم العربي الإسلامي لم تتم عملية مادّية من أجل هدم البنى السابقة لذلك لم تتوفر الظروف المادّية من أجل هذا التغيير الإجتماعي.
المُقدس بين الديني والسياسة
المُقدس في البلدان العربية يمد أذرعهُ في المؤسسات والسُلطة وحركات المُقاومة. يبدأ الدكتور عبد الهادي في تحديد أحزمة جيوسياسيّة: الحزام الأوروبي، وحزام الوقاية والعزل يشمل تركيا ودول هلال الخصيب (الشام) وأيضاً الدول العربية في شمال إفريقيا وهذا الحزام فيهِ بؤر مُقاومة إسلاميّة (حزب الله وحماس). والحزام الثالث، حزام دول الإسلام السياسي في الأساس المملكة السعوديّة، أفغانستان مروراً بباكستان ثم إيران والخليج العربي وصولاً إلى السودان. هذهِ التحديدات تُظهر لنا الإسلام كمكوّن أساسي في الحزامين، الحزام الواقي العازل، لا يُعبر بالضرورة عن إسلام سياسي ولكن عن حركةٍ ديناميكيّة مع المكونات الإسلامية في الثقافة والسياسة والحزام الإسلامي (بؤر المُقاومة).
إعادة إنتاج المُقدس كيف تمت في ظل هذهِ التحديدات الجيوسياسيّة؟ في ظلّ الصراعات الدوليّة والكولنيالية التي أنتجتها الرأسماليّة. تتم من خلال عمليّة تمركز ثقافي غربي مُقابل الجغرافيا الغير غربية، وكردّ فعل على هذا التمركز الغربي، ينتج تمركز ثقافي معكوس. ثورة الجزائر نموذجاً: "أما في الجزائر، فبدت الحركة مفاجئة وهي تُنجز على مستوى الفعل في الشارع وفي الجبال، وتحولت المسألة إلى شبه حرب أهلية كانت صورة الدم هي الغالبة في الصراع الذي رغم شكله الإسلامي كان يستند إلى قاعدة طبقيّة تأسست داخل المجتمع الجزائري بعد الإستقلال وقسمته إلى قسمين متعارضين. هذا في الوقت الذي خلقت فيه عملية التعريب وإنشاء الجامعة الإسلاميّة مرجعيّة دينية مؤطرة بدت رافضة لكل القيم الغربية التاريخية داخل الجزائر (مثل الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية). فعملية التعريب السريعة، وإن بدت هدفاً وطنياً أساسياً، إلا أنها كانت أرضية أساسية للإنقسام داخل الهوية الجزائرية، وإن كانت بذور هذا الإنقسام بدأت بقوة في حرب التحرير ذاتها: فلقد كان الفرنسيون يدعون في اللغة الشعبية بال «كفار»."
ما يريدُ قولهُ هُنا أن اللغة العربية التي تمّ تعلمها لم تناسب بعد الأرضية الفرنسيّة التي تمّ إنشاءها في الجزائر. بدت اللغة العربية قديمة ومهترئة وتعود للقرون الوسطى وبذلك ظهر إرتباط الجزائر بعد التحرير، في أدبيَات ومفاهيم التراث أكثر من مفاهيم الحداثة والثورة. الإنتقال من ثورة ترتبط مُحفزاتها في الثقافة المحليّة إلى موقع آخر وهو الدولة الحديثة المُستقلة، هل بالضرورة أن تكون الدولة تعتمد على نفس المُحفزات، بمعنى ما يريدُ قوله هل بالضرورة إعادة إنتاج المُقدس في الثورة والتحرير وبناء الدولة الحديثة المُستقلة؟
الكولنيّاليّة وجودها في العالم الثالث والبلدان العربية خاصّة صاغت بُنيةٍ اجتماعية ثقافيّة عبر العلاقات المادّية مع المركز الغربي الكولنيالي. يقول الدكتور عبد الهادي أن هذهِ العلاقات صاغت في البلدان العربية «اللا-عقلانيّة» إزاء «عقلانيّتها» هي البيروقراطيّة وتراكم الربح. نُشرت فوضى الرأسماليّة في البلدان العربية، كيف حدث ذلك؟ في البداية كانت الثورة الصناعيّة في أوروبا، كانت ثوريّة (يمعنى كسر نمط الإنتاج الإقطاعي) خلال صراعها هي مع الكنيسة. عندما أرادت تصدير المُنتج الصناعي مع بداية الفترة الاستعمارية، وإخضاع أنماط الإنتاج في البلدان العربية إليها عبر رسملة هذهِ الأنماط ولكن بآليات قديمة وإستعارات من أنماط سابقة، وبذلك تمّ دعم الإستبداد السياسي واستفيد منهُ والثقافة السائدة، كأداة يصب في إزدياد وتراكم رأس المال الدول الغربية.
الرأسماليّة استخدمت أدوات ما قبل رأسماليّة من أجل ضمان الحفاظ على استمراريتها، هكذا تتم إعادة إنتاج المُقدس في الثقافة العربية. المثال الأكثر بروزاً هي دول الخليج، وبقية السُلطات العربيّة أيضاً من خلال الملكيّة-الرئاسيّة-العشائريّة، علاقات ما قبل رأسماليَة من أجل تثبيت نمط إنتاج رأسمالي كولنيالي. وفي المُقابل عمليّة بناء الدولة الحديثة (الولايات المُتحدة نموذجاً) من خلال آليّات ما قبل حداثيّة(العبوديّة والقتل والإقتلاع)، يُبرز الدكتور عبد الهادي العلاقات الديالكتيكيّة والتناقضات في داخل المنظومة الحداثيّة بين الآليّة والأسس الماديّة التي تقوم عليها النظريّة والدولة الحديثة. وتعمل على تثبيت التخلّف في الأطراف من خلال آليّات حداثيّة رأسماليّة.
***
مراجع - عرشُ المُقدس. عبد الهادي عبد الرحمن.دار الطليعة بيروت. الطبعة الأولى 2000 -الشر وموقعه ضمن التصور الميتافيزيقي للعالم عند إبن سينا. محمد الصادقي. مجلة تبيّن العدد 16. 2016 -حنّة آرندت. الحقيقة والسياسة(مُترجمة للعربيّة). مجلة يتفكرون العدد6. 2015
#محمد_قعدان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة: عن النساء، الرأسماليّة والقتل
-
ضرورةِ النفي: مُلاحظات عن مُقاطعة الكنيست بالداخل الفلسطيني
-
سؤال الحزب بالداخل الفلسطيني(4): حركة أبناء البلد وإشكاليّة
...
-
سؤال الحزب بالداخل الفلسطيني(3): عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي
-
في تناقضات الأطراف: العدوان على سوريا
-
سؤال الحزب بالداخل الفلسطيني(2): عن الفقر والجريمة
-
سؤال الحزب بالداخل الفلسطيني(1): صفقة القرن وقانون القوميّة
المزيد.....
-
بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
-
رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا يعلق على فتوى تعدد الزوجات
...
-
مـامـا جابت بيبي.. حـدث تردد قناة طيور الجنة 2025 نايل وعرب
...
-
بابا الفاتيكان يصر على إدانة الهجوم الاسرائيلي الوحشي على غز
...
-
وفد -إسرائيلي- يصل القاهرة تزامناً مع وجود قادة حماس والجها
...
-
وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل
...
-
استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان
...
-
حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان
...
-
المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
-
حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|