|
أدعو وبِشدّةٍ إلى الترشيدِ في المصاريف، أو بالأحرَى إلى التقشّفِ فيها، عند عقدِ ندواتِ -المجتمعْ المَدَنِي-، العلميةِ أو الثقافيةِ أو السياسيةِ أو النقابيةِ
محمد كشكار
الحوار المتمدن-العدد: 6123 - 2019 / 1 / 23 - 10:04
المحور:
المجتمع المدني
عندما تدعوني جمعية من "المجتمعْ المَدَنِي" للمشاركة في ندوةٍ، وتصرف عليّ مبلغ 1000د، مقابل إقامة يومانِ وليلة واحدة في نزل خمس نجوم، فهي بـ"كرمها المبالغ فيه هذا" تُفسِدُ عليَّ نكهةَ تطوّعي من أجل خدمة جمنة، مسقط رأسي وحبيبتي الغالية، ولو كتِبت في سِجِلِّي المقدَّسِ حسنةٌ، فسوف تمحوها الملائكةُ لو ضبطوني متلبِّسًا بخطيئةِ تبذيرِ المالِ العامْ. بلدٌ فقيرٌ "كَحْيانْ"، وحكومةٌ أفقرُ، وضعٌ بائسٌ يقابله "بارادُوكْسالُّمُونْ" وَفرةٌ وتبذيرٌ في غير مَحَلَّه: تصرّفٌ أرعنٌ أحمقُ. جُرْمٌ في حق دافِعِي الضرائب ترتكبُه جميع الأحزاب دون استثناء، وجل المنظمات الحكومية وغير الحكومية، ولم يسلَمْ من هذه الخطيئة الكبرى حتى الجبهة اليسارية وحزب النهضة الإسلامي ومنظمة العمال الفقراء، الاتحاد العام التونسي للشغل.
يشتدُّ التعجُّبُ، تكبرُ الغرابة، ويزيدُ الاستنكارُ عندما نعرف أن الحلَّ الأمثلَ ماثِلٌ أمامنا ويُمارَسُ في العاصمة تونس بالذات،، والأغرَب أن هذا الحل يُطبَّقُ من قِبلِ أقوى اقتصادٍ في العالَم: دولةٌ غنية تتقشف ونحن نُبَذِّرُ! منظمة "روزا لوكسانبورڤ---" (روزا الألمانية، مُنظِّرة وصحفية مناضلة، استشهدت تحت هراوات البوليس سنة 1919، دفاعًا عن الشيوعية. أكنّ لها عطفًا خاصًّا بغض النظر عن الرِّدّة عن دين الشيوعية. أحترمُها لشجاعتها في مواجهة الزعيم لينين ومعارضتها لمفهوم المركزية الديمقراطية، هذا المبدأ الخاطئ الذي تحوّل فيما بعد إلى ديكتاتورية شمولية مع ستالينْ اللَّعِينْ). منظمةٌ ألمانية غير حكومية تَنْشَطُ في تونس وتعقد كل اجتماعاتها وندواتها وتظاهراتها في مقرّها الجميلِ الكائنِ بالحي الراقي "موتويالْ-فِيلْ": مهما صرفتْ هذه المنظمة إذن، فلن تبلغَ نصفَ ما ستصرفه لو أقامت أنشطتَها جميعًا في نُزُلِ الخمس نجوم.
السؤال: لماذا لا تنسجُ على منوالِها الفريدِ، في الحوكمة الرشيدة، منظماتُنا العتيدة؟ لماذا لا يكون للاتحادِ مقرٌّ يقِيم فيه أنشِطتُه بأقل كُلفةٍ؟ ولماذا لا يكون لقيادة النهضة مقرٌّ مماثلٌ، تعقد فيه مجالسَ شورَتِها عوض عقدها كما دأبت اليوم في نُزُلِ الحمامات؟ لماذا ذكرتُ النهضة بالذات، لا غيرَها؟ ذكرتُها، لا لأنها تدّعي أنها تخافُ ربي في أموال التونسيين أكثر من الجبهةِ، بل لأنني سمعتُ هذا اللوم نفسه من قيادي نهضاوي بارز لكن غير رسمي، أي ليس عضوًا في مجلس الشورَى ولا في المكتب التنفيذي. لن أذكرَ اسمَه لأنني لم أستشرْه مسبقًا، رغم أنني واثِقٌ تمامَ الوُثوقِ أنه لو علِمَ فلن يمانعَ. للحميمين المشتركين فقط: هو صديقي الجمني، أحسن نهضاوي في الوجود، أستاذ القرآن والحديث بباريس.
يحق لِلائِمٍ أن يلومَني بشدة ويقول: ما دمتَ ضد تبذيرِ المالِ العام، فلمذا تذهب، تشارك، تتمتع، بل تتجرأُ وتصفُ لنا متعتَك بالتفصيل المُمِلِّ؟ أجيبُك، يا سائلي أجيبُك، وبصدرٍ رحبٍ أشْفِي غليلَك: في أكثر الحالات أذهب متطوِّعًا تلبيةً للواجب: جنديٌّ متحمِّسٌ، تكلفني "جمعية حماية واحات جمنة" بتمثيلها والدفاع عن قضيتها العادلة عندما يتعذّرُ على أحدِ أعضائِها السفرُ (تَكَرَّرَ هذا الواجبُ ستة عشر مرة خلالَ ثمانِ سنواتٍ من عُمرِ التجربةِ الرائدةِ)، وذلك لطولِ المسافةِ بين جمنة والعاصمة (500كلم)، أو أذهبُ مدعوًّا محاضِرًا مجّانًا في صُلْبِ اختصاصي العلمي. واجبان لا يمكنني التنصُّلَ من تأديَتِهِما، سببانِ اثنانِ يشرِّفانِ، لا ثالث لهما. لا أذهبُ طمعًا في طعامٍ أو شرابٍ أو رغبةً في ترفٍ لم أعتدْ عليه طيلة حياتي. تقولُ لي: أنتَ تكذبْ، أنتَ "جيعان"! وبكل ثقةٍ وهدوءٍ، أردُّ عليك وأقول: صحيحٌ، بيولوجيًّا أنا جَوعانْ، لكن روحيًّا أنا شبعانْ. لا أعرفُ من الأطباقِ في داري إلا البركوكش، العصيدة، الرفيسة بالدڤ---لة وخبز الطاجين، الفْتاةْ، المقرونة الجارية، المحمّصة، الملوخية بالعلّوش (مرة واحدة في الشهر هي والعلوش)، الجلبانة بِصدر الدجاج، الروز باللوبيا، السردينة حُكّة وبحر، الورقة المربّية (السلعة الوحيدة غير المدعّمة في تونس التي لم يرتفع ثمنها بعد الثورة، 10-14د. دائمًا أسألُ جلسائي، في مقهى الشيحي ومقهى الأمازونيا، عن السببِ، ولم أعثرْ حتى اليوم على جوابٍ مقنِعٍ. اللهم سُترٌ خصّني به الله لأنه يعرف أنني لا أقدر على بنت البحر والقاروص!)، وحتى الأطباق الخمسة الأخيرة لم أعرفها إلا في ڤ---ابس في المبيت المجاني وأنا في سن 13 عامًا في سنة 1965. أطباقِي الشعبية، المعتادة في داري، كلها، لم أصادفها ولو مرة واحدة في نُزُلِ الخمسة كواكب.
الجوعُ الإراديُّ هو صديقي، وأتشرّفُ بصداقته. ألسنا قومٌ لا نأكلُ حتى نجوعُ وإذا أكلنا لا نشبعُ؟ خبِرتُه في الطفولة مكرَهًا، واخترتُه في الكهولةِ طواعيةً وفي الشيخوخةِ منهجًا: كنتُ وأنا أعدُّ دكتورا في تعلّميّة البيولوجيا في جامعة كلود برنار بليون 1 (2000-2007)، كنتُ في الغداء كل يوم، أكتفي بِتناوُلِ كأسٍ من البسيسة الدياري وبَسْ، جلبتُها معي من تونس للغرض. جلبتُها حتى أوفِّر من مبلغِ المنحةِ كثيرًا، أشتري به عند "المرواح" قليلاً من الشكلاطةِ الرفيعةِ وثيابًا "صُنِعَ بفرنسا" لأبنائي وزوجتي الذين ينتظرون عودتي كصغار الطيور. الجوعُ البيولوجي يا سيدي، صفةٌ حيوانيةٌ طبيعيةٌ جينيةٌ وراثيةٌ، أما التعففُ والسموُّ، فهما صفتانِ إنسانيتانِ نبيلتانِ تُكتَسَبانِ بعد عَناءِ مجاهدةِ النفسِ الطمّاعةِ، وَكبحِ جِماحِ جوادِ الشهواتِ الغريزيةِ الضروريةِ في حدِّها الأدنَى فقط.
لو سألني منظمو الندواتِ يومًا وقالوا لي: "ماذا تريدُ أن نوفِّرَ لك يا سي محمد؟". لأجَبتُهم كالآتي: عبارةُ "سي محمد"، وحدُها، تُشبعُني لثلاثةِ أيامٍ متتاليةٍ! أريدُ يا سِيدي بن سِيدي: في فطور الصباح: أريدُ شاميةً ومعجونَ كرموسٍ. غذاءَان لذيذان حرّمتُهما على نفسي بسببِ داءِ السكرِي المزمنِ. أشتهيهما وأجيزُ لنفسي تناولهما في المناسبات، وخاصة عندما يكونا "بَلُّوشِي". في الغداء: أريدُ وجبةً صحيةً متوازنةً موحدةً. تُتعبني حيرةُ الاختيارِ على موائدَ "الخِدمةِ-الذاتيةِ" الفاخرة الكافرة (self-service)، وإذا أمكن "كعيبة" بنانْ، ضيفٌ مبَجَّلٌ لا يزور بيتَنا إلا كل مطلعِ الهِلالٍ. في العشاء: أريدُ طبقًا خفيفًا. التُّخْمَةُ تتسبّبُ لي في كوابيسَ ليليةٍ، وإذا أمكن "كعبة" تفاح بِلونِ خدودِ الصبايا الغجريةِ، افتقدتُه هذه الأيام عند خضّار الحومة بحمام الشط. المبيت: أريدُ غرفةً فرديةً محترمةً + فرشًا وثيرًا (ظهري دومًا يؤلمني) + "مَلاحِفَ" نظيفةً. والله لا أشتهي أكثرَ، وأظن أن جلَّ المشاركين في الندواتِ يشاطرونني الرأيَ. نجمة واحدة، اثنتان، ثلاث لا يهم، المهم في راحة البالْ والخاطرْ.
خاتمة: تبذيرٌ في غير موضعِه كمَن يتدفّأ على "العافية في الڤ---ايلة". أين يوجدُ موضعَه الشرعي إذن؟ يوجدُ في الأعيادِ والأفراحِ التقليديةِ فقط. نَمَطُ حياةٍ ملعونٌ، مستورَدٌ بِنيةٍ خبيثةٍ مُبَيتةٍ. نمطٌ لا يستفيدُ منه إلا مَن ولّده فينا قصدًا وأنسانا عاداتَنا التقشفيةَ، عاداتَنا التقليديةَ البربريةَ-الإسلاميةَ-العربيةَ السليمةَ. نَمَطٌ يستفيدُ منه فقط، أصحابُ النزُلِ وبعضُ الانتهازيين القائمين على مثلِ هذه الندواتِ "الفاخرةِ دون سببٍ منطقيٍّ مقبولٍ".
إمضاء مواطن العالَم "النقدُ هدّامٌ أو لا يكونْ"، "المثقّفُ هو هدّامُ القناعاتِ والبداهاتِ العموميةِ" فوكو، و"إذا كانت كلماتي لا تبلغُ فهمَك فدعْها إلى فجرٍ آخَرَ" جبران.
#محمد_كشكار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا تثورُ الشعوبُ؟ لماذا الآنَ وليس غدًا؟
-
حوارٌ وقع البارحة بين الطبوبي والشاهد، ونُشِرَ على صفحات الت
...
-
-احْنِي طِبّاءْ وماقْرِيناشْ الطِّبْ-، نحن في جمنة تضامنيّون
...
-
في مقهى الشيحي، قال لي طارقْ، أحد أصدقائي اليساريين السنبَتي
...
-
بماذا كنتُ أشعرُ وأنا منزوٍ في ركنٍ فسيحٍ بمقهى الشيحي، أقرأ
...
-
سيناريو مَحْضُ خَيالٍ: لنفرِض جدلاً أن حزب الجبهة أخذ مكان ح
...
-
لسنا رُضّعًا حتى نرضَى بمصّاصةٍ، نريدُ - من صُنعِنا - حليبًا
...
-
هل عصرُنا، عصرُ واجباتٍ أم عصرُ حقوقٍ؟
-
هل أصبحنا سجناءَ شهواتِنا؟ (Nos désirs sont-ils nos faibless
...
-
قبل المخ، أين كانت تسكن الأفكار والعواطف؟
-
عشرةُ مبادئَ ساميةٌ، لو كنتُ ماركسيًّا تونسيًّا ملحِدًا وأرد
...
-
سأحدّثكم اليوم على لغز حيّرني: ما هو -الشيء- المتسببُ الأولُ
...
-
مفاجأة: سأحدّثكم اليومَ عن كائنٍ تونسيٍّ غريبٍ، اسمه -عَمَّا
...
-
التّذَوُّقُ عند البشرِ، هل هو فطريٌّ أو مكتسبٌ (Le goût)؟
-
يا شُعْبَوِيّو العالَم، اتّحِدوا واصمُدوا ضدّ المثقفينَ الان
...
-
ليلى كتبتْ روايةً جديدةً: كلامٌ في الثورة والحب، كلامٌ ممنوع
...
-
كيفَ استغلَّ الرأسماليونَ الجشعونَ المتربصونَ كارثةَ إعصارِ
...
-
صرخةٌ تونسيةٌ مُدَوِّيةٌ ضدّ كارِثةِ -الغزوِ الرأسمالي الغرب
...
-
أختلفُ معهم، أحترمُ ذَواتِهم، لكنني، وبكل لياقةٍ وودٍّ، أحاو
...
-
قال لي أحدُ القراءِ الأصدقاءِ: بعضُ كتاباتِك تصلُ إلى حدِّ ا
...
المزيد.....
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا
...
-
إعلام إسرائيلي: مخاوف من أوامر اعتقال أخرى بعد نتنياهو وغالا
...
-
إمكانية اعتقال نتنياهو.. خبير شؤون جرائم حرب لـCNN: أتصور حد
...
-
مخاوف للكيان المحتل من أوامر اعتقال سرية دولية ضد قادته
-
مقررة أممية لحقوق الانسان:ستضغط واشنطن لمنع تنفيذ قرار المحك
...
-
اللجان الشعبية للاجئين في غزة تنظم وقفة رفضا لاستهداف الأونر
...
-
ليندسي غراهام يهدد حلفاء الولايات المتحدة في حال ساعدوا في ا
...
-
بوليفيا تعرب عن دعمها لمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت
-
مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|