|
المواجهة الاقتصادية لتجارة الأعضاء البشرية
مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي
(Magdy Abdel-hadi)
الحوار المتمدن-العدد: 6121 - 2019 / 1 / 21 - 01:58
المحور:
الادارة و الاقتصاد
خطان في الوعي الاجتماعي: --------------------- أصبحت الجريمة منذ زمن موضوعاً للبحث وليس مجرد الإدانة الأخلاقية والقانونية ؛ فظهرت دراسات الجريمة كحقل يدرسها باعتبارها ظاهرة اجتماعية تنتج عن تشكيلة متنوعة من الأسباب والدوافع، بحيث لا يمكن اختزالها في واحد فقط منها، وبصفة عامة انقسمت هذه النظريات في تفسير الجريمة كانقسام النظريات الاجتماعية نفسها ما بين خطين أساسيين، هما : خط "نظريات الفرد" الذاتية التي تنطلق مما هو عرضي وثانوي مُتمثلاً في الدوافع الفردية، وهى نظريات نفسية وفسيولوجية تعود في جوهرها لعصر ما قبل نشأة العلوم الاجتماعية، وخط "نظريات البنية" الموضوعية التي تنطلق مما هو جوهري وأساسي مُتمثلاً في البُنى والتفاعلات الاجتماعية في تجسّداتها الجماعية والفردية، وهى نظريات اجتماعية وسوسيواقتصادية تنتمي بطبيعتها تلك لعصر العلوم الاجتماعية الحداثي .
هذان الخطان في الوعي الاجتماعي عموماً، وفي دراسات الجريمة خصوصاً، تنبني على الفروق بينهما فروق جوهرية في إستراتيجيات التعامل مع الجريمة بدءً من تفسيرها ومروراً بكيفية التعامل معها ووصولاً لصياغة القوانين وتحديد آليات العلاج.
ولا شك أن الخط الأول هو خط بدائي يعود للعصور الوسطى، جوهره النظرة الأخلاقية للعالم، وتفسير الجريمة باعتبارها انحرافاً فردياً وذاتياً ؛ ما تكون نتيجته طريقة واحدة في التعامل مع الجريمة وهى العقاب بأشكاله المحتلفة، دون أي محاولة لفهم أبعاد الظاهرة قبل التعاطي معها كجريمة بالمعنى القانوني.
في المقابل يعمل الخط الثاني بطريقة مختلفة، فيبحث الجريمة – عندما تصبح ظاهرة - كسلوك اجتماعي لا يمثل الأفراد بانحرافاتهم المختلفة سوى تجليات هامشية له ؛ فيبني إستراتيجيات مختلفة للتعامل معها، لا تمثل آليات العقاب فيها سوى هامش ضئيل من مشرط صغير لقطع الأجزاء التي فسدت فعلاً ولا صلاح لها، وقطعة شاش طبي لوقف النزيف، ومُسكن لإيقاف الألم، لكن العلاج الحقيقي يكون من خلال مسارات أخرى .
وما أضطرني لهذه المقدمة الطويلة نسبياً هو التقديم لمحاولة في هذا السبيل، محاولة يفرضها خفوت صوت الخط الثاني في بلد أصبحت طريقته الوحيدة للتعاطي مع مشكلاته الاجتماعية عموماً، بما فيها ما ليس جريمةً بالمعنى القانوني، هى الطريقة البدائية للخط الأول، حتى وصلنا لحكومة تستخدم الآليات الشرطية كوسيلة وحيدة أحياناً لحل إشكالات اقتصادية، ولمثقفين (!) يختزلون العنف السياسي في مُكونه الإيديولوجي دون نظر لدوافعه الاجتماعية!
الجريمة والحاجة الاجتماعية : --------------------- وبالنظر لظاهرة تجارة الأعضاء الحديثة نسبياً يتجلى لنا أثر التكنولوجيا وكيف تُغيّر وتخلق وتُعيد صياغة الحاجات الاجتماعية، فقبل ظهور إمكانية نقل الأعضاء البشرية لم تكن هناك بطبيعة الحال تجارة أعضاء ؛ لأن لا فائدة عملية تُرتجى منها، فلا "طلب" على الأعضاء البشرية، ولا "عرض" منها بالتالي!
لكن بمجرد ظهور الإمكانية التكنولوجية طبيًا ؛ ظهرت الحاجة الاجتماعية ؛ فنشأ "طلب اقتصادي" على الأعضاء البشرية كسلعة أصبحت ذات "منفعة"، طلب سيجد طريقه للإشباع أياً كان الوضع، قانونياً كان أو غير قانوني ؛ لأن الدوافع الاقتصادية تؤمن بتنظيم تدفقاتها، لا إعاقتها بالكلية ؛ إنها كالنهر الدافق، يمكنك في أحسن الأحوال أن تنظمه بسدود وقنوان فرعية تعيد توجيه مساراته وتضعف إندفاع تدفقاته، لكنك لا تعدو أن تكون مراهقاً غبياً إذا تصورت قدرتك على أن تغلق مساره وتوقف تدفقه كلياً دون أن يغرقك بفيضانه ..، أو بجرائمه!
وبصفة عامة الجريمة وثيقة الصلة بالحاجة الاجتماعية، فهى مرتبطة بها سواءً من جهة إشباعها (مثلاً إشباع الطلب على سلعة مُجرَمة)، أو ناتجة عنها من جهة عدم إشباعها (مثلاً جرائم الفقر وإفرازاته الاجتماعية والنفسية)، ولعل هذا الارتباط بين الاثنتين هو ما دفع بعض كبار علماء الاجتماع مثل إيميل دوركايم لوصف الجريمة بأنها مفيدة وضرورية لتطور القوانين والمؤسسات والمفاهيم الأخلاقية ؛ كونها تعبّر أحياناً عن أصالة فردية وتبشر بتغيّر اجتماعي كامن !
ولئلا تستغرقنا التفاصيل بعيدًا عن موضوعتنا الأساسية في هذه المقالة، رغم اهتمامي بالتأكيد على بعض النقاط المنهجية كالتي ذكرت، سأدخل مباشرةً في وصف أبعاد المواجهة الاقتصادية المُقترحة لتجارة الأعضاء البشرية، الإجرامية بلاشك في تجسّداتها الواقعية من سرقة وخطف وقتل وإتجار!
إشباع الطلب لخنق العرض: --------------------- تعني المواجهة الاقتصادية التعامل مع "الأعضاء البشرية" كسلعة لها سوق، تصبح سوقاً سوداء إجرامية حال عدم إشباع حاجتها ؛ ما يفرض مواجهةً للقضاء عليها، وهو ما لن يتم بالأساليب الأمنية الساذجة ؛ فوسائل الرقابة والأمن مهما كانت – وفضلاً عن تكلفتها - لا يمكنها منع الجرائم كليةً، وإلا ما كانت جرائم السرقة والقتل والفساد بأشكالها المختلفة باقيةً معنا رغم قرون من استخدام تلك الأساليب، وما كانت أميركا أكثر دول العالم تقدماً علمياً وثراءً مالياً وتكنولوجياً لتملك أكبر منظومة سجون في العالم !
المهم، هذه السوق هى "وسيط لعرض وطلب"، ما يعني أن المواجهة الاقتصادية ستكون عبر ثلاثة محاور :
* محور العرض : وله مصدرين هما من يبيعون أعضاءهم في تلك السوق غير الرسمية بسبب الفقر غالباً، والمنظمات الإجرامية التي تسرق أعضاء المرضى أو تخطف الأصحاء لتفككهم أعضاءً تبيعها في تلك السوق . * محور الطلب : ومصدره الأصيل هو المرضى الذي يحتاجون لتلك الأعضاء، والمُستعِدون لدفع عشرات ومئات الآلاف للحصول على عضو بشري سليم يكمل وظائف أجسامهم الحيوية الضرورية . * محور الوسيط : أي تنظيم العلاقة بين العرض والطلب المذكورين لضمان تدفقات عادلة بين طرفي التبادل، لا تتضمن إكراهاً أو سرقةً حيث تتمفصل الممارسات والتكوينات الإجرامية .
والتعامل الواقعي هنا لا ينكر مشروعية الطلب وحتميته مادام إشباع الحاجة الاجتماعية التي يلبيها ممكناً، كما لا يرفض العرض المُحتمل مادام عرضاً عقلانياً لا يُشتبه فيه الإكراه أو الاستغلال؛ ما يعني مبدئياً ضرورة إيجاد تشريع مؤسسي ينظم المحورين بشكل شفاف ونزيه بعيداً عن التلاعب والإذعان المُغلف بالقبول القانوني !
وهكذا يكون على الدولة أن تتمركز هى في المحور الوسيط من خلال "بنك للأعضاء البشرية" وصندوق لتمويله، يستقبل الطلب على الأعضاء البشرية بمقابل وبدون ؛ فيمنعه عن السوق السوداء الإجرامية، ويوفر العرض من خلال المُوصين بجثثِهم سواء بالتبرع أو بالبيع، كذا قتلى الحوادث وما شابه !
إن جوهر المواجهة الاقتصادية هنا هو إشباع الطلب – مادمنا اتفقنا على مشروعيته أو حتميته أو الاثنتين معاً – لإنهاء وجود العرض غير الشرعي الذي يمثل سبب وجود الممارسات الإجرامية ؛ سواء بتوفير السلعة موضوع العرض أو بخفض سعرها لدرجة لا تبرر المخاطرة بإرتكاب الجريمة، وهذه المواجهة الاقتصادية لا تستبعد طبعاً الأشكال الأخرى من المواجهة، لكنها تضعها في حجمها الطبيعي وسياقها الفعّال !
ولا شك أن نظاماً كهذا يحمل بعض الثغرات، منها احتمالات الفساد، فهي احتمالات قائمة بالطبع كما هو الحال في كل شئ تقريباً، إلا أنها لا تنفي أهمية تنظيم من هذا النوع مكاسبه أكبر من خسائره، ووجوده أفضل من ترك المجال للسوق السوداء الإجرامية وللتبرعات غير المنظمة غالباً، كما أن حلها في بحث ومواجهة الفساد نفسه كقضية أخرى مُستقلة نعانيها في كافة أبعاد ومستويات وجودنا الاجتماعي.
#مجدى_عبد_الهادى (هاشتاغ)
Magdy_Abdel-hadi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سراب الصناعات الصغيرة والمتوسطة!
-
نظرة اجتماعية تاريخية في جدل المواريث بين الرجل والمرأة
-
الرهاناتُ الخاسرة لسياسةِ الهيكلة بالتقشّف
-
الصراع حول العولمة..تناقضات التقدم والرجعية في توسّع رأس الم
...
-
ما وراء منظومة الإفقار
-
هل انتهى القرن الأمريكي ؟
-
التنظيم النقابي في ظل الرأسمالية المُعاصرة
-
أزمة العولمة الرأسمالية وبريكس العالم الثاني
-
الاقتصاد المصري بين الناصرية والساداتية - حوار لجريدة الكرام
...
-
عجز المثقف وخيانته..مقدمة لتحليل سوسيواقتصادي
-
أميلكار كابرال مُثقفاً ثورياً - موسى ديمبل
-
إشكالية التحوّل الرأسمالي في مصر القرن التاسع عشر
-
التنمية والحرية .. في البدء كان الإنسان
-
الدورات الاقتصادية .. مسح جدلي مُوجز
-
عشرة مزاعم لألا تكون اشتراكياً !!
-
في فهم الاستبداد الستاليني
-
تجديد نماذج التنمية للقرن الحادي والعشرين - سمير أمين
-
الاقتصاد السياسي لثورة الياسمين - حكيم بن حمودة
-
الإنحطاط الحتمي للرأسمالية
-
كفاءة التخصيص الرأسمالية كقاعدة للإفقار المُطلق
المزيد.....
-
كم سعره اليوم؟.. أسعار عيارات الذهب اليوم في العراق الجمعة 2
...
-
بعد اجتماع البنك المركزي بتثبيت سعر الفائدة .. سعر الدولار ا
...
-
بسعر المصنعية .. سعر الذهب اليوم بتاريخ 22 من نوفمبر 2024 “ت
...
-
بعد اجتماع البنك المركزي بتثبيت سعر الفائدة .. سعر الدولار ا
...
-
بسعر المصنعية .. سعر الذهب اليوم بتاريخ 22 من نوفمبر 2024 “ت
...
-
سؤال يؤرق واشنطن.. صنع في المكسيك أم الصين؟
-
-كورونا وميسي-.. ليفاندوفسكي حرم من الكرة الذهبية في مناسبتي
...
-
السعودية: إنتاج المملكة من المياه يعادل إنتاج العالم من البت
...
-
وول ستريت جورنال: قوة الدولار تزيد الضغوط على الصين واقتصادا
...
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|