|
سراب الصناعات الصغيرة والمتوسطة!
مجدى عبد الهادى
باحث اقتصادي
(Magdy Abdel-hadi)
الحوار المتمدن-العدد: 6120 - 2019 / 1 / 20 - 06:23
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يتعلق الغريق بقشة تنقذه من الغرق ، ويلهث العطشان التائه خلف سراب يلوح لناظريه الموهومة بالماء المُرتجى ، وهكذا تفعل الأمم المأزومة والدول التائهة في معارج الزمن العاجزة عن مواجهة تحديات الواقع ، تحسب كل لائحةً في سماوات الوهم أملاً ينقذها من مأساتها ويقيلها من عثرتها .
وكم هى كثيرة تلك الأوهام التي تصدّرها المنظمات الرأسمالية الدولية للدول التي يسمونها نامية تأدباً ، المتخلفة حقيقةً ، والتي للآسف لم يتعلم أغلبها حتى اليوم من تجاربه الأليمة مع تلك المنظمات ، رغم أكثر من أربعة عقود من التجارب الفاشلة والتوصيات الحمقاء والأزمات الأليمة !
وإحدى التوصيات الرائجة هذه الأيام ، والتي تتداولها الكتابات الاقتصادية العلمية كما الصحفية ، هى التوصيات بدعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة كقاطرة للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ومكافحة الفقر ، مُستندةً لمبررات ساذجة أساسها النسبة العددية لتلك المنشآت ضمن إجمالي عدد المنشآت الصناعية ، ومساهمتها في إجمالي العمالة الصناعية ، فحسب بيانات بنك الإسكندرية مثلاً تشكّل المشروعات الصغيرة والمتوسطة على مستوى العالم حوالي 90 % من إجمالي عدد المنشآت الصناعية ، وتسهم في التوظف بما يتراوح بين 50 و 60 % من القوى العاملة ، فيما تمثل 90 % من إجمالي عدد المنشآت الصناعية في مصر بإسهام في التوظف يبلغ ثلثي القوى العاملة و 40 % من الناتج القومي وثلثي العمالة الصناعية .
ولا ننكر بالطبع أهمية أي نشاط إنتاجي ، خصوصاً إذا كان نشاطاً صناعياً سلعياً في اقتصاد سيطرت الأنشطة الخدمية على أكثر من نصف ناتجه المحلي الإجمالي ، إلا أن هذا لا يعني التسامح مع ترويج الأوهام حول إمكانية أن تكون تلك النوعية من المشروعات بذاتها "قاطرةً" للنمو والتوظف ومكافحة الفقر ، أي المحرك الرئيسي القائد ، كما تزعم المنظمات الدولية التي لا تشير التجربة التاريخية معها أنها ترجوا لنا خيراً !
وأول المآخذ على هذه الرؤية هو "شكلانيتها الساذجة" ، فإضفاء أهمية كبيرة على هذا النوع من المشروعات لمجرد نسبته العددية ضمن إجمالي المنشآت هو نوع من الحماقة الرقمية ؛ فبداهةً من الطبيعي والمنطقي رياضياً أن تكون الكيانات الصغيرة أكثر عدداً بكثير من الكيانات الضخمة والعملاقة ، فهذه بداهة إحصائية أكثر منها ظاهرة اقتصادية ذات معنى في ذاتها ؛ ما يجعلها مسألة طبيعية بغض النظر عن مستوى تطور الاقتصاد نفسه ، بل إن منطق تطور الاقتصاد إنما يعمل في الحقيقة ضد هذه الظاهرة ؛ فالتغيّر الهيكلي الذي يمثل الوجه الكيّفي للنمو الاقتصادي يفترض الاتجاه للكيانات الضخمة ولهيمنتها على مُجمل الاقتصاد في سياق تعمق عمليتي التركّز والتمركّز الرأسمالي ، التي يجمع علي ضرورتها قطبي علم الاقتصاد ، من يمين كلاسيكي ويسار ماركسي !
ثاني المآخذ هو "افتراض استقلالية تلك المشروعات فيما تحققه من ناتج وعمالة" ، فكونها تساهم بنسبة غير هيّنة في كلٍ منهما لا يعطيها أهمية في ذاتها ؛ بحيث يمكن التخطيط لتنميتها في استقلال عن نمو المنشآت الصناعية الضخمة ؛ لأن غالبها الأعظم في الحقيقة إنما تعمل في خدمة / ولتغذية / وبتمويل تلك المشروعات الضخمة ، فإذا تعثرت الأخيرة أو لم تنم بالدرجة الملائمة ؛ فإن تلك المشروعات الصغيرة غالباً ما تخسر وتتقلص ؛ وهو ما يعني أن ما تحققه تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من ناتج وعمالة ليس نتاجاً مستقلاً لها تحققه بمعزل عن المشروعات الضخمة ، بل هو يتحقق كنتاج لنشاط الأخير وفي ارتباطه بها ؛ ما يكشف وهم أن تكون قاطرةً ، أي محركاً مستقلاً ، لأي شئ في الاقتصاد !
مآخذ ثالث يتمثل في "خطأ قياس اقتصادات متخلفة كالاقتصاد المصري على اقتصادات متقدمة كالاقتصاد الياباني أو حتى الصيني" ، انطلاقاً من الانخداع بمعيار شكلي كحجم المنشأة عمالياً ، والوقوع في فخ تجاهل مستوى تطور الاقتصاد بمُجمله وتلك المنشآت نفسها ؛ فلا وجه للمقارنة ولا سبيل للقياس بين منشآت صغيرة ذات طابع حرفي متخلف ، أي غير رأسمالي أساساً ، ومنشآت رأسمالية صغيرة متطورة أساس صغر حجمها عمالياً هو كثافتها الرأسمالية واعتمادها للتكنولوجيات المتطورة !
أما المأخذ الرابع فجوهره تجاهل أن "الاعتماد على تلك المنشآت إنما يعبر عن اليأس من التنمية لا السعي لها" ؛ فالتنمية بمعناها الحديث إنما تتحقق بالتعبئة المُمركزة لرأس المال ، والتراكم المُستمر له ؛ لتحقيق أعلى نتاج مُتنامي ممكن ؛ بما يوسع جانبيّ السوق من عرض (سلع وخدمات) وطلب (استهلاك واستثمار) ؛ وهو ما لن تقوده سوى المشروعات الرأسمالية الضخمة ، لا الصناعات الصغيرة الحرفية ولا المتوسطة مُنتجة السلع الوسيطة في الغالب ، وهكذا فالتركيز على الأخيرة إنما يدفعه السعي للتوفير الإجرائي العاجل لفرص عمل ، عجز النظام الاقتصادي القائم عن توفيرها ؛ نتيجة لنموه المُشوه العاجز عن تحقيق التنمية الاقتصادية بنمط تطورها الطبيعي ، الذي يشمل تراكماً كمياً لرأس المال في إطار تغيّر كيفي في التنظيمات الإنتاجية ، يجمعهما الاتجاه للتركّز والتمركز الرأسمالي ؛ بما يرفع الإنتاجية والكفاءة ، ويحقق التوظف كنتيجة طبيعية بشكل مباشر أو غير مباشر .
يرتبط بما سبق مأخذ خامس ، هو "تصوّر إمكانية مكافحة الفقر بمعزل عن معالجة قضية الإنتاجية" ؛ فواحدة من أكبر مشكلات الاقتصاد المصري هى ضعف الإنتاجية به ؛ نتيجة – مع أسباب أخرى - لغلبة المنشآت المتوسطة والصغيرة الحرفية عليه ، بما تتميز به من ضعف رأسمالي مادي وبشري ؛ وهو ما يعني أن ما ستوفره تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة من فرص عمل ستكون فرص عمل رديئة منخفضة الإنتاجية والأجر .
أما سادس المآخذ فهو "تجاهل مسألة التخطيط الضرورية لأي إستراتيجية تنمية جادة" ، والذي يصعب ويكاد يستحيل لاعتبارات إدارية واقتصادية عديدة مع ذلك التوجه نحو تسييد ذلك النمط القزمي من المنشآت الصناعية ، فإذا كانت الحكومة المصرية عاجزة عن توجيه بضعة منشآت ضخمة احتكارية – وهذه قضية أخرى – ولو بتخطيط تأشيري لما فيه صالح الاقتصاد القومي ، فهل تستطيع توجيه وإدارة مئات آلاف وحتى ملايين المنشآت المتوسطة والصغيرة ؟!
المأخذ السابع والأخير هو "التعامي عن أن الطريق الوحيد لنجاح تلك الإستراتيجية هو تعميق التبعية للمنشآت الرأسمالية الدولية" ؛ فالإمكانية الوحيدة لتوفير طلب حقيقي على منتجات تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة هو الارتباط الذليل باحتياجات الشركات متعدية الجنسيات ، والذي يغدو بحد ذاته حلماً لا يتحقق سوى برفع مستوى كفاءة وتأهيل تلك المشروعات ؛ ليصبح السعي للتبعية – الشر الأعظم بالنسبة لأي اقتصاد - منتهى أملنا ومبلغ سعينا !
وهكذا لا تعدو إستراتيجية دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة أن تكون سراباً يحسبه الظمآن ماءً ، فيما هو سراب ووهم لن نجني من ورائه سوى مزيد من الفقر والمذلة محلياً ودولياً !
#مجدى_عبد_الهادى (هاشتاغ)
Magdy_Abdel-hadi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة اجتماعية تاريخية في جدل المواريث بين الرجل والمرأة
-
الرهاناتُ الخاسرة لسياسةِ الهيكلة بالتقشّف
-
الصراع حول العولمة..تناقضات التقدم والرجعية في توسّع رأس الم
...
-
ما وراء منظومة الإفقار
-
هل انتهى القرن الأمريكي ؟
-
التنظيم النقابي في ظل الرأسمالية المُعاصرة
-
أزمة العولمة الرأسمالية وبريكس العالم الثاني
-
الاقتصاد المصري بين الناصرية والساداتية - حوار لجريدة الكرام
...
-
عجز المثقف وخيانته..مقدمة لتحليل سوسيواقتصادي
-
أميلكار كابرال مُثقفاً ثورياً - موسى ديمبل
-
إشكالية التحوّل الرأسمالي في مصر القرن التاسع عشر
-
التنمية والحرية .. في البدء كان الإنسان
-
الدورات الاقتصادية .. مسح جدلي مُوجز
-
عشرة مزاعم لألا تكون اشتراكياً !!
-
في فهم الاستبداد الستاليني
-
تجديد نماذج التنمية للقرن الحادي والعشرين - سمير أمين
-
الاقتصاد السياسي لثورة الياسمين - حكيم بن حمودة
-
الإنحطاط الحتمي للرأسمالية
-
كفاءة التخصيص الرأسمالية كقاعدة للإفقار المُطلق
-
الإفقار المُطلق والنسبي في الرأسمالية المُعاصرة
المزيد.....
-
مفاجأة غير متوقعة سعر الذهب اليوم الجمعة 31-1-2025 بعد أخر ا
...
-
تراجع سعر العملة الأفغانية يزيد الضغوط على المواطنين
-
صعود النفط متأثرا بتهديدات ترامب
-
عائلات بلا معيل.. السوريات في مواجهة آثار الحرب
-
اختلاف مسارات البنوك المركزية: الولايات المتحدة ثابتة وأوروب
...
-
الجزائر وموريتانيا توقعان على مذكرة تفاهم لاستكشاف وإنتاج ال
...
-
أسهم أوروبا عند ذروة قياسية بعد خفض الفائدة
-
رابطة الكُتاب الأردنيين في -يوبيلها- الذهبي.. ذاكرة موشومة ب
...
-
الليرة السورية تسجل 9900 أمام الدولار في السوق الموازية للمر
...
-
20 مليار دولار صادرات تركيا إلى أفريقيا العام الماضي
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|