|
كاروشي وكاروجيساتسُ
منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 6107 - 2019 / 1 / 7 - 17:30
المحور:
السياحة والرحلات
بعض الأصدقاء سألني عن سبب إطلاق تسمية «كوكب اليابان» على هذا البلد، وهل يُعقل أن لا يكون هناك سلبيات! بالطبع. هناك الكثير منها، وتسمية كوكب اليابان تبدو سخيفة ومبالغ فيها كما هي العادة العربية.
قبل أيام أُرتكبت جريمة في مدينة إماباري (قريبة من مكان إقامتي). وإماباري شهيرة عالمياً بصنع مناشف حمام عالية الجودة. سيدة خمسينية قامت بخنق سيدة ثمانينية وفشلت في خنق إبنة السيدة العجوز، لتذهب إلى البيت وتنتحر. هل تعرفون ماذا استعملت كسلاح للجريمة؟ منشفة بالطبع! بينما ظلّت البلاد في حيرة من أمرها حول دوافع الجريمة، خاصة وأنها أول جريمة قتل في المدينة منذ ستينات القرن الماضي.
بدايةً، خبرتي في اليابان لا تتعدى مجال الصور التي إلتقطتها ناقلاً سحر الطبيعة الإستثنائي، وأطباق المأكولات المتأنقة من خلال تسكّعي بين مقاهيها ومطاعمها وباراتها، مثيراً حفيظة الحُسّاد والكثير من الأحقاد من قبل الأصدقاء. أما عن القليل من اللغة التي «أعرفها»، فإنها ليست كافية سوى لطلب كأس بيرة. حتى هذه تُثير فضول اليابانيين، لأنني ألفظها بطريقة أنثوية. ولهذا سبب منطقي، لأنني وببساطة، تعلمّتها من الجنس اللطيف. ولهذا أيضاً سبب، لأن التواصل مع النساء أسهل وأريحيٌّ أكثر. الرجال هناك محافظون ويخجلون من الإحتكاك بالغرباء. خلال السنوات العشر الأخيرة، أقمت في البلاد، على نحو وسطي، مدة خمسة عشر أسبوعاً في السنة، وهذا يعني أن المدة الإجمالية تربو على السنتين. قد يسألني أحدهم: أليست هذه المدة كافية لتتعرف على مشاكل البلد، وليس فقط حاناتها؟ - لا، ليست كافية، لأنها متقطعة ولم تسنح لي تعلم اللغة، التي هي المدخل الرئيسي في فهم المكان والناس والبلد.
اليوم سأذكر حالتين فحسب، دون التطرق إلى مشاكل الجريمة المُنظّمة (المافيا اليابانية والتي تُسمّى ياكوزا) والفساد والإختلاس والرشاوي، وهما: الموت والإنتحار بسبب الضغوط.
وللإنتحار صلة بالموروث الحضاري للبلاد، فالساموراي كان ينتحر ببقر بطنه أمام الجمهور في إحتفالية خاصة، إذا ما ارتكب خطيئة ما. إستمر هذا إبّان الحرب العالمية الثانية حينما جعل الطيارون أنفسهم وطائراتهم بمثابة طلقة نارية حين الهجوم على الأمريكان في پيرل هاربر، أو إنتحار الجنود والضباط كيلا لا يتعرضوا إلى مذلّة الأسر.
أبدأ بطلاب المدارس الذين ينتحرون بسبب كثرة الواجبات من المدرسة والعائلة، مُشكّلين النسبة الأعلى في العالم. المدرسة صارمة وساعات الدراسة وحلّ الواجبات تبدأ في الصباح الباكر وتمتد، أحيانا، حتى الثامنة مساءً. هذا يشمل أيضاً ساعات ممارسة الرياضة أو العزف على آلة ما. معظم الطلاب يُمارسون أنشطة اخرى خارج نطاق المدرسة، قد تكون أنشطة رياضية، رقص باليه، عزف في فريق موسيقي، وهكذا. رأيت أطفالاً في سن السابعة ينهون دروسهم في مدرسة باليه حوالي الساعة العاشرة ليلاً. ممارسة الهوايات المختلفة تستمر أيام العطلة الأسبوعية أيضاً. والضغط ليس فقط من المدرسة، بل من الأبوين، لأن مجموع علامات التخرج العالية يُتيح لأولادهم الإنتساب إلى أفضل وأغلى الجامعات في البلاد، وهذا بدوره يفتح الأبواب الواسعة لإيجاد وظائف في الشركات الكبرى.
لوحظ أن الكثير من الموظفين المطرودين من عملهم يُفضّلون الإنتحار على نشر الخبر الفضائحي وسط العائلة والأصدقاء، فسعت معظم الشركات والدوائر إلى إيجاد مخرج للشعور بالذنب، بإرسال هؤلاء الموظفين إلى مكاتب لأداء أعمال يُمكن بسهولة الإستغناء عنها. هؤلاء يُسمّون بـ «موظفي الأقبية». إلا أن المشكلة الأكبر، والتي تُناقش هذه الأيام بكثرة، هي كاروشي وكاروجيساتسُ. كاروشي (Karōshi 過労死) كلمة يابانية تعني «الموت بسبب إرهاق العمل». والتعبير هذا كان مقتصراً على اليابانيين، إلا انه امتد في السنوات الأخيرة إلى أماكن اخرى (كوريا الجنوبية والصين على سبيل المثال).
حتى قبل سنوات قليلة، لم يُشر إلى كاروشي كمشكلة، لكن، وبعد الموت المفاجئ لشبان في العشرينات، لاحظ الخبراء أن تفاني الموظفين، وخاصة الذين بدأوا للتو حياتهم المهنية، يعملون ساعات إضافية تصل أحياناً إلى ستة عشر ساعة في اليوم، لينتهي الأمر ببعضهم إلى الموت المفاجئ. الجدير بالذكر أن هناك فارق بين الموت بسبب إرهاق العمل، والموت بسبب ضغط العمل: كاروجيساتسُ (karōjisatsu 過労自殺). وهذا يحدث حينما يطلب ربّ العمل أداءً إستثنائياً من موظفيه، الذين لا يرفضون الأوامر خشية الطرد. فالأول (كاروشي) يموت لأنه يريد أن يعمل أكثر، والثاني (كاروجيساتسُ) يموت لأنه تحت ضغط مستمر. في السنتين الأخيرتين، وبعد إلقاء الضوء على المشكلة، قررت بعض الشركات حصر ساعات العمل بين الثامنة والخامسة فقط. التعليمات وحدها ليست كافية، برأيي، لوضع حدّ للمشكلة، بل ينبغي إيجاد سبل لطريقة تفكير مغايرة، وهذه مسألة شائكة جداً في اليابان، إن لم تكن مستحيلة.
اليابان، ربيع ٢٠١٧
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
واشوكُ ويوشوكُ
-
في زيارة مسقط رأس كينزابورو
-
الساكورا، روح الربيع الياباني
-
أم كلثوم وأنا
-
الساكيه، «نبيذ» اليابان
-
حفلة ليلة السنة الجديدة
-
محمد عبد الوهاب وأنا
-
القطط وأنا
-
البيرة، وما أدراك!
-
بعوض وحشرات اخرى
-
عائلة سورية لاجئة في اليابان
-
في ثقافة التواليت
-
السريان، من القامشلي إلى السويد
-
أوساكا (٣)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
كوبيه، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
أوساكا (٢)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
أوساكا (١)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
نارا (٢)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
نارا (٣)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
-
نارا (١)، هم الذين يطلقون سراح الشمس
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
قلعة الكهف
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|