|
الرجع البعيد قراءة اخرى لاستحالة العودة
عصام عباس أمين
الحوار المتمدن-العدد: 6103 - 2019 / 1 / 3 - 00:51
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
من الطبيعي جدا ان تتعدد القراءات للنص الواحد، فما بالك لو جاء النص محملا باكثر من معنى ورمز، ومستويات مختلفة من الغموض والتعقيد والتركيب وحتى التبسيط المفرط في احيان اخرى، ففؤاد التكرلي اختار لروايته هذه تقنية السرد المتعدد الاصوات، والابتعاد عن النمط التقليدي في تتابع الاحداث، مع التركيز العالي على التبئير. وهذه التقنيات تحتاج لقارئ من نوع خاص، ليكون قادرا على التفاعل مع النص بطريقة ابداعية تتساوق مع ابداع التكرلي في السرد، وبغير ذلك فقد تضيع من القارئ متع كثيرة في خضم الانتقالات اللولبية للكاتب بين الاحداث والازمنة والشخصيات وهي تتصارع من اجل تحقيق الوجود بدلالات عديدة. وكمدخل لهذه الرواية لابد لنا ان نتوقف عند العنوان الذي اختاره التكرلي، (الرجع البعيد) والمقتطع جزئيا من آية (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ۖ ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)، وهو عنوان مرمز بدقة عالية، يحلينا معه الى فكرة استحالة العودة الى الحياة كما وردت في اصل الاية، واستحالة العودة عن الاحداث الكبرى كما وقعت في هذه الرواية، وتحديدا عندما يتعلق الامر بالموت (الفناء) او الاغتصاب. ورغم ان الرواية تضمنت (13) ثلاثة عشر فصلا، وبعدد صفحات بلغت (478) اربعمائة وثمانية وسبعون صفحة. الا انها تضمنت ثلاثة احداث رئيسية وهي موت (فؤاد) وموت (مدحت) وحادث السفاح الذي وقع لمنيرة، وعلى الهامش من تلك الاحداث الكبيرة، كنا نسمع التفجيرات ورشقات الرصاص التي رافقت الانقلاب العسكري في العام 1963 كحدث ثانوي في الرواية لكنه جوهري في رمزيته لبدأ مرحلة اخرى في العراق. واذا اعتبرنا السفاح موتا لمنيرة على المستوى المعنوي والاعتباري، فالرواية تدور اذن في اطار اهم فكرة في الوجود وهي فكرة الموت في مقابل فكرة الحياة بكل تعقيداتها وتشابك احداثها. كان الفصل الاول مهما في تهيئة المكان ووصفه والتعريف بأهم شخوص الرواية لكن تدفق الافكار والصور والرموز ابتدأ من الفصل الثاني عندما اطلق التكرلي العنان لـ (كريم) في سرد مباشر، اشبه بالتداعي الحر، وهو يفصل حالته بعد فقدانه لصديقه (فؤاد) في حادث دهس غير متوقع وفي توقيت سيء للغاية، ليضعنا في مواجهة مباشرة مع هذا النوع من الموت العبثي الذي يملئ الحياة من حولنا، وعرض تفاصيل تلك الحادثة ومقدماتها العميقة ليتحقق في النهاية نوع من الارتباط أو التمازج الروحي بين فؤاد الميت و (منيرة) القادمة من بعقوبة... (لم افقد فؤاد، ولم يغب عن عالمي، كذلك لم اخنه، لم أخنه لحظة، مطلقا، انه يحيا بشكل ما في هذه المخلوقة ذات الابعاد المبهمة التي لم آلفها، انه يجذبني اليه من ليلي، انا احس به يجذبني، انه يجذبني...ص 35). كان موتا عبثيا، (فهو لم يرد ان يموت، لم يجب ان يموت؟ باي شيء اذن يمكن تسويغ هذا الحادث او تفسيره؟ زلت به قدمه او تعثر في سيره، ماذا يجدي كل هذا مادام الامر قد انتهى به تحت العجلات الوحشية؟ ص 39). حادثة الموت تلك اعادت تشكيل عالم (كريم) بشكل جديد، وكانت مفتاحا لمناقشة فكرة الوجود كله، كان موت (فؤاد) ايذانا ببدأ عذاب من نوع جديد اختصرها كريم بوصف نفسه (كنت قصبة فارغة يهزها الغثيان...ص 44). الفصول الثمانية الاولى من هذه الرواية كانت تتعلق بالشخصيات، من خلال التعرف بعوالمها الداخلية وعلاقاتها مع بعضها ومع محيطها، اما الفصول الاخرى فانها كانت تتعلق بالاحداث ومسار تطورها، وابتداءا من الفصل التاسع، نجد تحولا كبيرا في ايقاع الرواية وحتى في طريقة السرد، حيث استخدم التكرلي في هذا الفصل فقط طريقتين في السرد، الاولى السرد المباشر على لسان (منيرة) وهي تتحدث عن حياتها في بعقوبة في بيت اختها وتعرفها على عدنان ابن اختها، والثانية السرد غير المباشر (سرد الرواي) لتفاصيل حادث السفاح الجنسي الذي تعرضت له مع (عدنان). هذه الانتقالة كانت محسوبة بدقة لسببين مدمجين في سبب واحد، الاول، أن التكرلي اراد ان يكون موضوعيا في سرد تفاصيل الاغتصاب، الثاني الصعوبة الفنية لمعرفة التفاصيل النفسية التي عانتها منيرة في تلك اللحظات الصعبة، والتي انتهت بفقدانها لعذريتها بدون اي مقدمات لذلك سوى التقارب العفوي الذي حصل بينها وبين عدنان. بمجرد ان ينتقل السرد الى منيرة حتى يبدا التكرلي بالسماح لنا لمعرفة عالمها المغلق (اني اتسلى هنا، منذ مجيئنا، بأن أنسى سريعا معاني الكلمات المبطنة، يهمني الا اشقى طوال الوقت، اذ يبدو أن من التعقل، ونحن في ملجأ أمين، الا نأكل لحمنا، أن نلعق الجراح فقط، هذه هي المهمة المثلى. يكفي احيانا أن ننجو من بعض الاخطاء لا كلها، وأن نشعر أننا بعيدون عن ساحة العذاب. وليس من قبيل التواضع، إن شهيق الحياة لا يمنع أن يعقبه بثوان زفير الموت. بل هذا هو المنطق الوحيد، فإذا سنحت الفرصة لشهيق آخر، فهو نعمة زائدة... ص 244)، هذا النص لوحده اعتبره نص ملغم، فاضافة الى التكثيف العالي للافكار التي يحتويه، فهو يضم بعض الاشارات الغامضة، ولا ينبغي باي حال ان تمر تلك الاشارات هكذا ببساطة على القارئ، واعتقد ان التكرلي يريدنا ان نلتقط اي اشارة في نصوصه مهما كانت مضمرة او مخفية. فعن اي جرح تتكلم منيرة في ملجأها؟ وهل التمتع بالشهيق نعمة في النهاية؟ ثم لتطلق منيرة اشارة اخرى (أمسك بيدي على موضع الاصابة وأخفيه فلا يعود له وجود ظاهر، ويصير بالامكان معاودة العيش السوي، ثم تتساوى الامور كلها... ص 245)... ربما تكون الاشارة هنا اكثر وضوحا من المقطع السابق، الا ان الغموض لا يزال قائما، فهي تتحدث عن امكانية العيش السوي، وهو رجع بعيد كما سيتضح لاحقا. وكلما تحدثت منيرة كلما اتضحت تلك الاشارات، فهي بصدد اعتماد الية دفاع جديدة في تنظيم حياتها (اني اخفي كل اندفاع نحو الخارج واحاول ان اتعلم الانكماش عن الحياة... ص 246)... ولكي يصبح الفهم واضحا يبدأ التكرلي بالسرد بنفسه وهو يصف تفاصيل حادث السفاح الجنسي، بقدر عال من الموضوعية، مبتعدا عن الصور الايروتيكية في عرض المشهد، فمنيرة كانت تمرح (وهي لا تروم شيئا غير ان تملأ صدرها بالهواء النقي المعطر...ص 252)، اما بقية التفاصيل فلم تتعدى الحقائق الاساسية، المتمثلة بالتفوق الجسدي لعدنان وهو يمارس الاغتصاب، وشعور منيرة بانها تعامل كبهيمة ملوثة بالبراز... ص 254، وانها كانت بلا أمل، وعلى مشارف الهاوية، أمام الانتهاء، ليباغتها الرعب متأخرا، الرعب من كل شيء، من الظلال البعيدة ومن التراب الحار تحت عجزها، ومن الشمس ومن السكين تشق احشاءها ومن الزفرات المتشنجة ومن الدماء التي تصبغ اللحم المرتعش. اما هو فقد كان مذهولا أمامها، يلهث منحينا ويحاول ان يخفي عورته الملوثة. (نفس الصفحة). لتبقى هي عالقة بين الموت والعهر كما هو حال اي فتاة في مجتمعنا. لم تنتهي حادثة السفاح في البستان، بل شكلت العمود الفقري لفصول مهمة من الرواية وخاصة تلك التي جاءت تحت عنوان (الزخم والبقاء)، في الفصل الثاني عشر وبتسلسلين (1) و (2). وهذه المرة اصبح (مدحت) هو الشخصية المحورية لمناقشة بعضا من تداعيات السفاح، بعد الزواج من منيرة، ورغم انه كان يعيش مع منيرة في بيتهم في منطقة (باب الشيخ)، وكان يرافق منيرة الى الدوام بشكل يومي، الا ان ما وقع لمنيرة بقي سرا لحد ليلة الدخلة، حتى اكتشف بنفسه فقدانها الى الدلالة!! فقدانها الى المعنى الذي ينقص منها، بسبب ذلك الغشاء الممزق، أهو دلالتها؟ أهو معناها؟ اهو الذي يمنحها، او لا يمنحها الحياة؟ .. ص 391. في تلك اللحظات الحرجة لم ير مدحت في عيني منيرة اي نداء استغاثةـ اي نداء حب لانقاذها، لاشك انهما كانا مخلوقين هالكين، ولا افق امامهما، هالكان لانهما غير مقطوعي الجذور... ص 392. يمكن اعتبار هذا الفصل قمة في السرد وفي مناقشة الافكار بصوت واضح لا لبس فيه كطريق للنقاء وللتخلص من وزر بات حمله اثقل مما يطاق، مدحت هذا كان صاحب نظرية (الانانية الصحية) ، ان تكون مركز الدنيا، قبل الجميع وبعدهم، لا شيء قبلك ولا شيء بعدك، أن تملك قوانينك التي لا تفترض أن أحدا سيطبقها مثلك... ص 141، انها الانانية الصحية. العقلية. المنظمة. العالم لي بكل ثمن والانفراد يعني دخوله بحذر وامتصاصه، استهلاكه دون توقف، شرط ان لا تكون منه، لئلا يصير هذا الامر سببا في منعك عن تنفيذ مأربك، هكذا هم الناس الاقوياء، الاقوياء بالمعنى الجديد، إنهم ليسوا حمقى ولا خبثاء، ولا يتملكهم الفضول الزائد او يخجلون، وهم يكذبون بصراحة ولا تقيدهم الاخلاق او يرتبطون باواصر عائلية او عاطفية عميقة، لا عوائق في سبيل الاستفادة من رفاهية هذا العالم الذي خلقه الغير بعرق جبينه وكدحه، كل شيء لي ... بغير حياء.. ص 141. بهكذا افكار كان مدحت يواجه عالمه الصغير، لكنه انهار امام بضع قطرات من الدم رفضت الافصاح عن نفسها في غرفة لا يعلم بهما احد!!!!. رغم انه كان يؤكد لنفسه (ليس من الانانية الصحية أن تمرض نفسيا... ص 142). كان متوقعا ان يصحو مدحت بعد صدمته الاولى، وهذا ما تحقق بعد ان نجح التكرلي في تحقيق المصالحة بين مدحت ونفسه ليصل بعد معاناة طويلة الى حالة من التسامح وقبول منيرة حبيبة اولا وزوجة ثانيا، لكن اختيار لحظة دراماتيكية كنهاية لمدحت بعد ان وضع بنفسه نهاية لكل التساؤلات والشكوك، لحظة العودة الى البيت كاسرا حصار الموت والدمار، لم يكن يحتاج حينها من عمر الزمن سوى خمس ثوان لاجتياز الشارع الفاصل بين زمنين وموقفين متطرفين للغاية، لكن الخمس ثوان كانت كفيله بانهائه جثة في وسط الشارع بدون رفيق. انها قراءة اخرى فقط.
#عصام_عباس_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محاضرة الدكتور فالح عبد الجبار بناء أو تفكك العراق في إطار ن
...
-
قراءة أولية في كتاب عالم داعش لهشام الهاشمي
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|