|
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
حسان خالد شاتيلا
الحوار المتمدن-العدد: 6106 - 2019 / 1 / 6 - 15:44
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
حسان خالد شاتيلا/عبد الله عبد الله
لا يزال الحزب الشيوعي اللبناني يراوح عهده في الماضي في مكانه بالخندق المحفور في جوف إيديولوجية العلاقات الدولية والتحالفات مع هذه الدولة أو تلك. إيديولوجية ترتفع بالسياسة التكتيكية إلى قمة المحافل السرية للطبقات الحاكمة، وتهبط بالمجتمع إلى أدنى المعالجات الاستراتيجية للمسائل الاقتصادية الاجتماعية. هذا الحزب وحلفاؤه اليساريون، لبنانيون وفلسطينيون، وغيرهم، يتحصنون وراء ثقافة يسارية موروثة عن المخلفات الفكرية للحرب العالمية الثانية، وما تبعها من حرب باردة، وتعايش سلمي، واختلافات بين أقطاب الإمبريالية العالمية، ويقفون وراء هذه المتاريس لكبح حركة المجتمعات العربية بدعوى أنها عفوية وتلقائية ومناهضة للقضايا العربية الكبرى، وتفتقد لقيادتهم الرشيدة. إنه، وإنهم، يضع السياسة بمعناها الأميري فوق المجتمع ليخضعه ويسيطر عليه بما يحمي هذا الأمير الجديد المتربع فوق تلك السلطة الشرقية شبه الأبدية. فقد تم الإعلان قبل أيام قليلة عن ما يسمى ب"المقاومة العربية الشاملة". وهو، بادئ ذي بدء، إعلان لا علاقة له بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، للمجتمعات العربية في حالتها المتأزمة الراهنة. حالة الأزمة الثورية. بل، وإنه يتعامى خلف نظارة البنى العليا وتكويناتها المناهضة للتغيير الثوري الجذري، عن الأزمة الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا. بالمحصلة، هو، وهم، تكرار لتاريخ الحزب الشيوعي اللبناني المنفصل عن الواقع الذي يتطور عبر مساراته المنقطعة عن قياداتها القديمة باتجاه التغيير الجذري منفصلا عن هذه الأخيرة وأمثالها، ليس فقط عند العرب، وإنما أيضا لدى غيرهم من الطبقات الشعبية التي تكافح للانتصار على ذوي السلطان الأكبر في العالم بأسره.
1-) تغييب الأزمة الثورية: يعكس هذا الإعلان خطاباً سلطوياً قائما على العلاقات بين الدول، مغيباً التحليل الطبقي لما يجري في المجتمعات العربية من تفكُّك لتكويناتها الثقافية السياسية، بالإضافة إلى تغييب الأزمة الثورية في المرحلة الراهنة والتي تسير على مسار صيرورة التحرر، والديمقراطية الاجتماعية، والاقتصاد للشعب، والعدالة والمساواة. بمعنى آخر، فإنه يولي الأولوية المركزية للقضية الفلسطينية والصراع ضد الإمبريالية. إن هذا الإعلان يفصل، على هذا النحو، مستعينا بمفهوم الأولوية والثانوية في مجالي التكتيك والاستراتيجية، بين النضال ضد الإمبريالية، وبين الأزمة الثورية التي تترجم عن القطيعة الإيديولوجية والتنظيمية بين الدولة التي باتت عاجزة عن ممارسة سلطتها المبنية على المناورات والمؤامرات واستغلال الطبقات الشعبية، وبين الطبقات الشعبية التي تكافح من أجل التغيير الجذري، التحرر الوطني من التبعية، الديمقراطية الاجتماعية، والاقتصاد للشعب. إن ركون الإعلان إلى مفهوم الأولوية في استعراضه لتصوراته التاريخية للمرحلة الراهنة، حيث تحظى القضية الفلسطينية بمقام الأولوية، يُخفي ما يُخفيه من تحليل يَرمي بالأزمة الثورية إلى المجهول. فالتمييز بين الأولوية والثانوية، حتى وإن كان هذا التمييز لا يعنى الانفصال بين القضية الفلسطينية وبين ما يسميه الإعلان ب"الانتفاضات"، فالرابط، حسب عقل الإعلان الذي يعترف بهذه الصلة اعترافا مبنيا على استعراضه المثالي غير الواقعي لتاريخنا، فالرابط بين التكوينين وإن كان حاضرا في استعراضه للحالة التاريخية، لكنه غائب عن تحليله لها ما دام يفصل "لأسباب تكتيكية" ما بين هذين الواقعين. إذ إن هكذا تمييز يُغلِّب جانبا واحدا من التكوين التاريخي، وهو مناهضة أمريكا الإمبريالية وإسرائيل الصهيونية، ويرجِّحه على الصيرورة الاقتصادية الاجتماعية. لكنه، من حيث التحليل وليس من حيث الاستعراض الخطابي، يجزئ التاريخ إلى أولوي وثانوي، فلسطين من جهة، والمجتمع من جهة ثانية، نافيا هكذا أن التاريخ واحد لا يتجزأ، وأن مصدر الفصل والتجزئة مستقى من مصادر علم السياسة البورجوازي. إن الأزمة الثورية حبلى مثنى وثلاث وأربعا، في كل المجتمعات العربية، بالنضال من أجل انتصار الثورة الفلسطينية، ولدحر التبعية للإمبريالية سياسيا واقتصاديا، وكي يصار إلى تشييد سلطات من أجل الشعب بعدما كانت حتى غاية اليوم، ومنذ عهد الاستقلال، خاضعة للطبقة البورجوازية التابعة سياسيا واقتصاديا، تحت ستار الثقافة الوطنية أو القومية، للنظام الرأسمالي العالمي. 2-) مفردات مثيرة للشك والريبة: يتناسى هذا البيان أن المسألة التحررية المناهضة للإمبريالية والصهيونية، ليست مسألة سياسية بين دول ومنظمات، وإنما هي مندمجة بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي وما يتضمنه من علاقة بصراع الطبقات، أو بصلته المادية بالتفكِّك الحاد للتكون الطبقي للمجتمعات العربية، وذلك مقابل تصلب الطبقة البورجوازية الحاكمة. تصلب ما ينفك يتحجر بفضل الاستعانة العسكرية والسياسية بالقوى الدولية والإقليمية. وعلى هذا المسار من الاستعراض الخطابي للمستقبل، فإن هذا البيان يُحل، بالتالي، مفاهيم "الإنقاذ" محل الثورة، و"انتفاضة" الشعوب محل الأزمة الثورية للشعوب، و"المنطقة" إلى درس للجغرافية في المدرسة الابتدائية وذلك محل الوطن العربي، بل وإن الثورة الفلسطينية ممثلة بنضالات الشعب الفلسطيني يحل محلها مصطلح "قضية" الذي يحيل بدوره إلى صورة الملَف في مكتب المحاماة. والمُلفت هنا، أن ثمة ما هو صدمة عدوانية فوق جبين اليسار. فقد ظهر مفهوم "الكتل الشعبية" الذي ورد في نص الأمين العام حنا غريب في مؤتمره الصحفي. إن "الكتلة" كتصور فلسفي سياسي مفهومٌ غامض ومشبوه. إنه يَستدرج مصطلح "الكتلة الوطنية" التي تتسع لتشمل اليميني واليساري، الطائفي والوطني، الممانع والمُطَبِّع، وإلى غير ذلك ما هبَّ ودب من أكلة لحوم الطبقات الشعبية. هذه "الكتلة" تحيلنا بالإيحاء إلى "الشيوعية الأوروبية" ومنظِّرها تولياتي أمين عام الحزب الشيوعي الإيطالي الذي اقتبسها بدوره عن مُدَلَّل المثقفين "الماركسيين"، صاحب مقولة "الكتلة التاريخية"، أنطونيو غرامشي الذي يَخلط بين الحاكم والمحكوم، وبين المجتمع المدني والمجتمع البورجوازي، الأمر الذي انتهي في إيطاليا الشيوعيين إلى قولبة مفهوم "التسوية التاريخية" التي تؤسِّس للتعايش ضمن الديمقراطية البورجوازية بين الحاكم والمحكوم. أي إن "الكتلة" تخطف من التاريخ النضالي للمضطَهَدين المُسْتَغلِّين التكوين الثوري لتنظيمات "الجبهة". ثم إن هذا الإعلان، وهو، بالرغم من أنه يصدر في ما تخترق دول عربية، إذ هي تُطَبِّع علاقاتها مع إسرائيل، متاريس المقاومة وحواجزها في فلسطين، وتفتح ثغرة في جبهة الثورات الشعبية لمرور الثورة المضادة إلى قلبها من أجل إخمادها، فإنه يتناول سياسة آل سعود وآل قابوس بملقط من القطن لا يجرح ولا يَلتقط شيئا. 3-) دولة وطنية ديمقراطية أم دولة وطنية اجتماعية؟ يتمسك أصحاب هذا الإعلان بمفهوم "الدولة الوطنية الديمقراطية"، بانية التحرر السياسي، والاقتصاد الوطني، إصلاح زراعي وتأميم. (كذا). فالإعلان، إذ هو ينبري للدفاع والتبشير بهذا النموذج المعطوب من الدولة، لم ير، طالما هو ينظر إلى نفسه عبر الإيديولوجيا فلا يرى عبر منظارها العكسي المقلوب الواقع المتغيِّر للمجتمعات العربية، لم يرى حتى غاية السنة الثامنة من الثورات العربية حقيقة ما يمارسه هذا النمط من الدولة من حيث هو آلية الثورة المضادة، وترسانة من الأجهزة المدجَّجة بمختلف أنواع الأسلحة الحربية والثقافية لقمع الشارع، ومنها مدفع قاذف لعلم اجتماع الإثنيات. فهي التي اسقطت الثورات العربية. ألم نلمس بالحس والحدس واللمس والسمع والنظر، فضلا عن النظرية والممارسة بمفهوم المادية التاريخية، ما أعطته الدولة الوطنية من نماذج بورجوازية استبدادية في سورية، ونظام العسكر الفاشي في مصر والجزائر، ومتن المزرعة التي أسسها "إمبراطور إفريقيا" معمر القذافي، والعراق الذي تحول إلى مسلخ عبر (ثورة) الدولة الوطنية العراقية التي كانت تشن الحروب ضد الشعوب في المنطقة، على حدودها، وداخل أراضيها. بيد أن البيان، علاوة على ذلك، وبالرغم من حماسه للنموذج المشوِّه للدولة الوطنية، فإنه يُلغي من قاموسه مفردات الاشتراكية، وثورة الطبقات الشعبية، ناهيكم والنضال من أجل الشيوعية.
4-) السجون في غياهب الثقافة وثرثرة "الماركسية" الرسمية: يتحاشى هذا الإعلان الخوض في الحالة السورية من حيث هي مركز معقَّد للترابط بين القوى الإمبريالية، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الاتحاد الأوروبي، تركيا الأطلسية، إيران الملَّات، والرجعية العربية-الخليجية، ناهيكم وإسرائيل أولا وأخيرا. هذا المركز المعقَّد تتفاعل فيه المصالح بين هذه القوى دون أن يؤذي من الناحية العسكرية أحدهما الآخر. فالعلاقات التي تربط بينهم في ما يتعلق بالحالة السورية بخاصة، والحالة في مجتمعات البلدان المعنية بوجه عام، وهم ينبذون الرجعية العربية والخليجية منها بوجه خاص، تتَّسم بما يميِّز أحدهما عن الآخر على وجه الاختلاف، وليس الخلاف. حتى السلطة السورية، باستثناء إسرائيل، لم تُوجّه إليها طلقة نارية واحدة من أيٍ من هذه القوى، إلا ما كانت تدبره لها الرجعية الخليجية، وعلى رأسها آل سعود الذين لا يألون جهدا، منذ استقلال سورية، لفرض هيمنتهم الكاملة عليها، بالعنف تارة، وبتوزيع أكياس الذهب على قادتها تارة أخرى. فآل سعود لن تغمض لهم عين ما بقيت سورية قلب العروبة النابض. وهي كانت ولا تزال قلب العروبة النابض. الحالة السورية التي لا تجد مكانا لها بالرغم من أهميتها الاستراتيجية القصوى في ما يتعلق بأصحاب الإعلان، الحزب الشيوعي اللبناني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تستحق من هذين الأخيرين وقفة جريئة مع التاريخ. إن المستهدف الأول والأخير في هذا المركز المعقد للتفاهمات الدولية والإقليمية، حيث تستفيد منها السلطة في سورية للحفاظ على علاقاتها، طبقية ودولية، المستهدف الأول والأخير هو ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011، وليس السلطة التي تمارس مع جميع هذه الأطراف دور الثورة المضادة لإحباط الحركة الشعبية. بل وإن هذا الإعلان تهبط به مناوراته ومساوماته إلى حد الانهيار السياسي عندما يتعامى عما يوجد في تلافيف هذا المركز المعقد من التفاهمات الدولية والإقليمية من قمع مفضوح. ففي قلب هذا المركز ثمة سجون تحظى من الإعلان على صمته عنها، أي بتأييده في نهاية المطاف للقمع، وذلك بالرغم من استعراضه لعدد من السجون والمساجين هنا وهناك.. غير أن الإعلان يأبى إلا أن يهبط بمستواه السياسي إلى درك التواطؤ بوقاحة لا مثيل لها مع الأجهزة القمعية عندما يخرس ويسكت على الضيم والقهر الذي يلحق بالرفاق الشيوعيين أسرى ورهائن إرهاب الدولة/السلطة، وفي مقدمتهم الرفيق عبد العزيز الخير. إن الإعلان الذي يُعتبر مرجعا عالميا في مسألة فسخ التاريخ إلى أولويات وثانويات بين ثورتين توأمين يولدان من رحم واحد، أو توائم غير منفصلة، الثورة الفلسطينية وثورات الأزمة التاريخية، توائم تولَد من رحم تاريخ لا نهاية له من الثورات المقموعة في المجتمعات العربية منذ القرن الثامن عشر، كان حريا به، وهو فيلسوف الفصل ما بين الأولي والثانوي، أن يميِّز، بالمقابل، بين الحركات الإسلامية العسكرية في سورية، وبين الشيوعيين وحلفائهم في النضال، وغيرهم ممن يرفضون التدويل بجميع أبعاده الداخلية والخارجية، ويطالبون بإصلاحات جذرية. ثورة الخامس عشر من آذار للعام 2011 في سورية مُكَوِّن اقتصادي اجتماعي من أزمة ثورية. فإذا كانت هذه الثورة تدخل في الظروف الدولية الراهنة في طي النسيان، فإنها مستمرة. هي ثورة مستمرة ما لم يجد التغيير الاقتصادي الاجتماعي على صعيدي السلطة والمجتمع طريقا له نحو اقتصاد مجتمعي، دبلوماسية علنية، وسياسة ثورية تحرُّرية. هذه الإشكالية السورية تحتاج إلى تفكيك ما دامت تشكل الحلقة الصلبة - إن صح التعبير - في مسلسل المعركة المناهضة للصهيونية، الإمبريالية والرجعية العربية. إشكالية معقدة ليس من اليسير تحليلها إلى عناصرها من جراء التناقضات الجوهرية التي تجمع وتفصل في وقت واحد بين السلطة السورية وحلفائها، إيران، حزب الله وروسيا الإمبريالية. فإذا كان الإعلان يشق طريقا للمقاومة بعيدا عن المسارات التاريخية لسورية، حصن المقاومة العربية، فإنه يحكم على نفسه، بافتراض أنه برئ من أية تهمة تدينه بممالأة الرجعية، بالإعدام، ليس غير. أيا كان الأمر، فإن التناقضات الحادة في تركيب الحالة السورية لا تعفي الإعلان من الزج بنفسه فيها، لاسيما وأن الحالة السورية تفرض عليه بقوة خوض المعركة في الساحة السورية ضد الإرهاب الإسلامي. وكانت أجهزة السلطة الحاكمة في دمشق أُخذت على حين غرة من أمرها أمام انطلاقة الحركة الشعبية. ولما كان مكوِّنُها يندرج ضمن نمط الدولة الشرقية، أي أن المجتمع امتداد لسلطات الدولة وأجهزتها القمعية والاقتصادية، فإنها سارعت بحكم طبيعتها الشرقية إلى قمع الطبقات الشعبية. مما ضاعف من جبروت هذا التكوين الشرقي، وأضاف إليه المزيد من الصلابة. الأمر الذي يقودها في هذا المسار من الأزمة الثورية إلى توثيق علاقاتها مع حلفائها حتى وإن أدى الأمر إلى الاستعانة بالإمبريالية الروسية لاجتثاث الإرهاب الإسلامي من جذوره. جذور مزروعة في الرياض، وما إيناعها في التربة المضافة إلى التراب السوري من خارج هذه الأرض، سوى فروع لجذورها الضاربة في قصر آل سعود بالرياض. فلقد استفادت الرجعية بقيادة آل سعود، وبالتواطؤ مع إسرائيل والأجهزة البوليسية والعسكرية الأمريكية، من قمع السلطة لحركة الطبقات الشعبية، فكان "جيش سورية الحر" الذي طمس الثورة بحربه العسكرية الكلاسيكية ضد السلطة. كما استفاد أعداء الثورة من عجز الحركة الشعبية على تحجيم "الجيش السوري الحر"، فأُخمدت الثورة، وأُطلقت يد الإرهاب الإسلامي بحيث يسيطر على ساحة المعركة. الأمر الذي لم يَترك أمام أجهزة السلطة خيارا آخر غير شن حرب إبادة ضد الإسلاميين، فاختلطت الحالة الأمنية في الساحة السورية بين ("ديمقراطي") وإسلامي، وذهب الشعب بأطفاله وشيوخه وغيرهم من لا مبالين ومتفرجين ضحية هذا الإرهاب بعدما تسلَّل هذا الأخير إلى بيوت الأهالي وأحيائها السكنية. هنا، ثمة نقطة تقض مضجع الإعلان الذي آثر الانصراف عنها لأنها مقيمة في مركز المسألة الثورية، موضوع إعلانه، وقوامها باختصار أن حل الأزمة الثورية مستعص طالما تلجأ السلطة الشرقية على غرار (رعاياها) من معارضات مأجورة للرجعية والإمبريالية إلى العامل الخارجي، وهي مستعصية ما دامت الحالة الأمنية تقتضي، بالمقابل وعلى النقيض من التعويل على العامل الخارجي لإفناء الإرهاب الإسلامي عن بكرة أبيه، العودة إلى المكوِّنات الاجتماعية للأزمة الثورية، ألا وهي الطبقات الشعبية، وتسليحها لخوض الحرب جنبا إلى جنب مع الجيش العربي السوري لإنجاز هذه المهمة، وذلك بالرغم من التناقضات وحالات الصراع المتأزمة ما بين السلطة ومجتمع الطبقات الشعبية. ثم إن هذا الإعلان يتجاهل، علاوة على ذلك، الدور الروسي في سورية، والذي هو عبارة عن صمام أمان للعدو الإسرائيلي وكيانه الغاصب عبر تا ريخ من العلاقات السوفياتية-الروسية تمتد من الإعلان عن قيام الدولة الصهيونية إلى مؤتمرات أستانة. فإذا كانت كل من روسيا وتركيا وإيران، وعلى هوامشها السلطة السورية، برفقة كل من "الائتلاف" السوري المعارض وشبيهه "المجلس الوطني"، وغيرهما كثرٌ، يُنفِّذ كل منهم لمصلحته الخاصة التي تتقاطع مع مصالح غيره من هذه الأطراف، وساطة كل منهم مع الأخر، مجتمعين ومتفرقين، للحؤول دون تفكك روابطهم السلطوية، فما ذلك إلا لدفن ثورة شعبية في سورية لن يَخمد لها صوت حر. لذا، فإن الإعلان كان حريا به أن يدخل في صميم هذه المعمعة كي يخرج منها بأقل درجة من الوضوح السياسي الفكري والبرامجي. أما فيما يخص المناضل الثوري الشيوعي جورج إبراهيم عبدالله الذي ورد اسمه في قائمة السجناء الأحرار، فإن الإعلان، وإن كان يستحق عن صدق الإعراب له عن مشاعر الشكر، إلا أن هذا الخطاب، وهو على ما يبدو في عجلة من أمره في ما يتعلق بأقدم سجين ثوري في العالم (35 عاما)، لم يُحًمِّل حراس الدولة اللبنانية ودركها مسؤولية عودته إلى لبنان. فلقد عفا هذه الأجهزة الفاسدة والعميلة، كما عفا نفسه، عن تبني إجراءات وتدابير واضحة وجادة للضغط على الحكومة الفرنسية لفك سراح هذا البطل العربي، لبناني وفلسطيني. إن منظمة تتعهد في إعلانها هذا أمام التاريخ بتحرير كامل التراب الفلسطيني، وإقامة دولة ديمقراطية علمانية موحَّدة، ودحر الإمبراطورية الأمريكية، لم تُلزم بجرأة منها نفسها بتوجيه خطاب رادع للسلطات الفرنسية في هذا الشأن. 5-) جحيم السلام الظالم (غير العادل!): يركَّز الإعلان على رفضه القاطع ل"صفقة القرن"، متناسياً عن قصد طموحات الأنظمة المسماة بالوطنية إلى التفاوض مع الكيان الصهيوني، والانتهاء في نهاية الأمر إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين، أو دفنهم في مخيماتهم. والمثال على ذلك يشرئب أمام ناظرينا بطلوع الوساطة التركية، في حينه، من الخزائن الحديدية للدبلوماسية السورية، والتي كانت بدأت عملها للتوفيق بين النظام السوري والاحتلال الإسرائيلي الغاصب، وذلك ما قبل اندلاع الثورة السورية. غير أن الإعلان من الناحية التكتيكية، وما لم يكن الأمر سرا مطويا بين مصنفاته الأمنية الخطيرة، لا يضع في حسابه أن التكتيك بصلته مع الاستراتيجية يُلزِمه بوجه الضرورة أن يخوض معركة سياسية أو عسكرية، أو كلاهما معا، لإرغام السلطات التي كانت وقَّعت أو التي توقع على اتفاقيات سلام مع إسرائيل على نقض معاهداتها السلمية مع الكيان الصهيوني، وفي مقدمتها اتفاقية أوسلو. إن إلغاء هكذا اتفاقيات معرقلة للثورة الوطنية تقتضي من هذا الإعلان تبني آليات جديدة تتبنى حرب المقاومة المسلحة في فلسطين المحتلة، واعتبار هذه المرحلة مرحلة تحرير وطني، حرب شوارع، حرب عصابات وحرب الحجارة. الإعلان الذي يطمح إلى أن يكون الناطق باسم المقاومة لم يطالب الأنظمة العربية المعنية برفض كل الاتفاقيات الموقعة مع العدو الإسرائيلي، ومنها كامب ديفيد، وتدابير التسوية التي كان النظام السوري بدأها منذ "اتفاقية فك الاشتباك" (1974)، مرورا بالوساطة التركية ما قبل ثورة الخامس عشر من آخذا للعام 2011. إن الإعلان يعفي نفسه عن تحديد ما إذا كانت المعركة ضد اتفاقيات الاستسلام تكتفي بحرب المواقع، أم تقتضي حرب حركة شاملة. 6-): الشبح يخيِّم بظلاله المعتمة على الإعلان: في قلب العاصمة اللبنانية وعلى أطرافها القريبة والبعيدة، حيث سُطِّرِت بنود الإعلان، يقيم "حزب الله" كأقوى قوة ضاربة للمقاومة والممانعة ضد العدو الإسرائيلي. فإما أن المكان في الإعلان أضيق من أن يتسع له مربع صغير، أو أن حزب الله بسبب امتداداته السورية الإيرانية أوسع من أن يجد حيِّزا ما له فيه. هذا الاختفاء في وسط يوم ساطع تحت الشمس يكشف عن سر مكشوف لم يجد مكانا له بين أسطر الإعلان. كان حريا بهذا الأخير أن ينبِّه إلى طبيعة العلاقات غير المضمونة مع حزب الله الذي لن يتوانى، إذا ما نشب خلاف غير متوقع ما بين أصحاب الإعلان من جهة، وسورية وإيران من جهة ثانية، أن يمنعهم بقوة السلاح عن ممارسة أي نشاط لهم، وذلك على غرار ما كان فَرَضَه على جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. 7-) النظام الرأسمالي العالمي: يتغاضى هذا البيان كما هو واضح للعيان عن دور الأنظمة العربية وحركتها الاقتصادية المرتبطة بمركزية النظام الرأسمالي العالمي. والملاحظ أن العولمة النيوليبرالية سقطت من التحليل لصالح تحليل مُسْتَلهَم من حقبة الحرب الباردة، والتعايش السلمي، وإيديولوجية الطريق اللارأسمالي، والتحالف الوطني ضمن الدولة الوطنية الديمقراطية. العالم يبقى بمعايير الإعلان على حاله في نهاية القرن الماضي. هذه المسألة أخطر من أن تُغفل من إعلان يريد لنفسه أن يغير المجتمعات العربية وسلطاتها ويهزم الإمبريالية الصهيونية. فالعولمة التي طغت على العالم بالرغم من نهوض حركات "العولمة الأخرى" التي تناضل "من أجل عالم آخر ممكن"، تسلَّلت رويدا رويدا إلى البرامج السياسية لأحزاب اليسار العربي التي تتبنى اليوم الطريق الليبرالي نحو ليبرالية اجتماعية، أو نحو الديمقراطية الاشتراكية، وذلك ضمن "التسوية التاريخية" بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة والمجتمع. الإعلان الذي يوجِّه نداءً لليسار من أجل الاتحاد ضمن صفوف المقاومة، لم يتصدى للانحراف الليبرالي لأحزاب اليسار، بما في ذلك الشيوعية منها، مما يشير إلى أنه يتوجَّه بندائه هذا إلى أحزاب ليبرالية مستميتة من أجل بناء الديمقراطية البورجوازية. الأمر الذي يؤكد بصورة يقينية أن "الكتلة التاريخية" حَذفت الجبهة الثورية. 8-) إبادة الأكراد: إن من دواعي الاستغراب والاستهجان أن المسألة "الكردية"، ومواقع الحركات العسكرية والسياسية الكردية فوق ساحة المعركة، على الرغم من أهميتها القصوى في مسار الصراعات الراهنة، سواء في ما يتعلق بالأزمة الثورية، أم سواء في ما يتعلق بتشابك العلاقات الدولية والإقليمية في كل من العراق وسورية بوجه خاص، دُفِنَت في مثواها الأخير بمقبرة الفاشية العربية. إن الإعلان، وهو الذي يجيد رياضة القفز فوق الحواجز، وقفز الأمتار، حسب ما يتبين من تخطيه، بفضل المقويات السلطوية التي يتعاطاها بإدمان والتي تصل إليه بالطرق السرية عبر الحدود المتاخمة، قد نجح تحت أنظار الحكام في الملاعب المجاورة، بالنط فوق التحالفات العسكرية والسياسية لعدد من المنظمات الكردية في كل من سورية والعراق وتركيا مع الامبريالية الأمريكية والأوربية، بل وحتى البترو دولار الخليجية. 9-) خاتمة لا نهاية لها: بين أيدي القارئ مناقشة رفاقية على "الإعلان" يُراد منها إجلاء الغموض الذي يلفه، مما كان يقتضي منها الخوض في بعض التفاصيل. هذه الإطالة في الرد توخيا للوضوح قد تَحمل القارئ على توجيه انتقاد للمناقشة مفاده أنها تخرج عن الموضوع. الجواب على النقد يستقى دفاعه من اتساع الموضوع اتساعا يفوق أي تضييق له في حدود حصرية. بتعبير آخر، فإن موضوع "الإعلان"، أسوة بالرد عليه، أوسع من أن تتسع له صفحات معدودات خلوة في الحالتين، الإعلان والرد، من بوادر أولية أو نواة يُستنبط منها برنامج سياسي استراتيجي ثوري، طالما هما يحلِّقان في سماء الأفكار المجرَّدة ونُسُقِها المثالية، وذلك على مبعدة مسافات متباعدة، وفق الحالات والظروف الموضوعية، عن الواقع والممارسة والبرامج. هذا الإعلان مبني على أسس علمية تراعي المعايير المادية، ومنها الموضوعية، والشمولية والوحدة بين المكوِّنات التاريخية السياسية. لكنه، بالمقابل، يدور حول محور رئيس وهو أن "أولية التصدي تتجاوز، (نعم تتجاوز) ولأسباب موضوعية وتكتيكية، غيرها من الأولويات". هذا "التجاوز" ينحرف به إلى تجزئة الوحدة بين المكوِّنات بذريعة الأسباب "التكتيكية"، وذلك على نقيض ما يطمح هو إليه من شمولية ووحدة. فإذا كان هذا "التجاوز" تكتيكي، فإنه من الناحية الاستراتيجية يفصل ما بين التركيبين، او هو يُلحق الثاني منهما بأولهما. مسألة "التجاوز" هذه تحل متن "الإعلان" محل وحدة التكوينين اللذين لا يتجاوز أحدهما الآخر، لأن "القطيعة" مع عدوهما الطبقي الوطني، هي التي توحد بينهما في ساحة الممارسة، وفي ميدان الحرب السياسية والعسكرية. القطيعة نقيض التجاوز. بمعنى آخر، فإن مثل هذا الإعلان عن مقاومة شاملة، إذا ما هو سار على تناقضات القطيعة من أجل التصدي في جبهة واحدة لا تتجزأ لأسباب تكتيكية واستراتيجية معا، بدلا من مقولة "التجاوز" المستوحاة من السياسة البورجوازية، لتغيَّرت ملامح هذا الإعلان بصورة جوهرية. ملامح ملوَّنة بالدهان الليبرالي. فالمناداة ب"التكامل الاقتصادي-الاجتماعي" العربي، تراه يحل محل الكفاح من أجل تشييد اقتصاد اجتماعي في خدمة الطبقات الشعبية، وتنظيم الاقتصاد من أجل التنمية الوطنية التي تقتضي الانفصال عن السوق الرأسمالية العالمية. ثم إن الإعلان بمجمله يرجِّح، حسب ما يتبين من جمله ومفرداته، كفة العرض اليساري، أو الاستعراض الخطابي الثوري، يرجِّح العرض على التحليل، وهو (التحليل) ليبرالي مُستلهم من حيث خطاه على طريق معركة التصدي، من السياسة الأميرية. ثمة مفارقة، تناقض، طلاق ما بين العرض والتحليل. أي إن الإعلان توخى البدء في عمله بالعرض بحيث يلبي، مراعاةً منه لما يبطِّنه من أسرار، ما تستدعيه منه الظروف السياسية الراهنة، فلم يبدأ بالتحليل لينطلق منه إلى العرض. ثمة هنا سر مكتوم لا يخفى عن الرؤية بمنظار السياسة المادية التاريخية. ثم إن هذا الرد أسوة ب"الإعلان"، يَغْلب عليه الصراع بين الأفكار في مساحات المكاتب الإدارية والثقافية فضلا عن أجهزة الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. لكن ثمة على أرض الواقع إعلان من نمط آخر، وهو مندمج بالأزمة الثورية، ويشكِّل إطارا لبرنامج سياسي مصدره الممارسة الثورية للجان والتنسيقيات والمجالس التي نشأت خلال السنوات الثمان الأخيرة عن ثورة واحد متعددة المتميِّزات، منها بلا شك الثورة الفلسطينية المصرية التونسية السورية الكردية الباريسية، إلخ... . حسان خالد شاتيلا عبد الله عبد الله الأول من كانون الثاني/يناير 2019
#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر: الماركسية والخصوصية - حوار مع جورج لابيكا
-
جورج لابيكا يُقدِّم لكرَّاس لينين: -الدفتر الأزرق-
-
السمو بجسم المرأة العاري تحت أبصار الحداثة الجاهلية في الأَ
...
-
ممارسة السياسة من حيث هي مصدر المعرفة - جورج لابيكا - الملحق
...
-
العنف الثوري أو الحقد الطبقي فَرْضٌ وحَقٌ - جورج لابيكا
-
القطيعة الماركسية مع الفلسفة - جورج لابيكا، الوضع الماركسي ل
...
-
الديمقراطية والثورة
-
الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - مقدمة جورج لابيكا لكتاب
...
-
الماركسية اللينينية (أدلة من أجل النقد) - من أعمال جورج لابي
...
-
الماركسية اللينينية (أدلَّة من أجل النقد) 2 - من أعمال جورج
...
-
الماركسية اللينينية (أدلَّة من أجل النقد)
-
-الماركسية- متن معجم الماركسية النقدي - من أعمال جورج لابيكا
...
-
الماركسية متن الأنسكيلوبيديا الفلسفية الشاملة - من أعمال جور
...
-
من أعمال جورج لابيكا - مدخل الماركسية في الإنسيكلوبيديا أُون
...
-
في اللاعنف، الإرهاب، المقاومة والعنف الثوري - حوار مع جورج ل
...
-
الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا
-
في تاريخ الماركسية - حوار مع جورج لابيكا
-
الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية - الفصل
...
-
الماركسية هي الرد الوحيد لتغيير عالمنا اليوم - حوار مع جورج
...
-
جورج لابيكا: نقد البراكسيس
المزيد.....
-
المستشار الألماني شولتز يقود الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ا
...
-
مواجهات بين الشرطة الباكستانية وأنصار عمران خان، واستمرار إغ
...
-
«أفرجوا عن الدكتور عماشة».. تأجيل محاكمة نقيب الأطباء البيطر
...
-
«أمن الدولة».. تجدد حبس أشرف عمر 15 يومًا
-
«احتجاجات المطرية».. محكمة دكرنس تخلي سبيل طفل من دار الأحدا
...
-
لاجئون سودانيون يعملون بالإكراه في مصر
-
أكادير: احتجاجات وإضراب عام للعاملات العمال الزراعيين باشتوك
...
-
بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
-
فرنسا: هل ستتخلى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن تهديدها
...
-
فرنسا: مارين لوبان تهدد باسقاط الحكومة، واليسار يستعد لخلافت
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|