يحيى علوان
الحوار المتمدن-العدد: 6095 - 2018 / 12 / 26 - 19:32
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
1
بمبادرة كريمة من "دار الفارابي" و "الخميرة" الطيبة المتبقية في المشهد السياسي اللبناني – أعني الحزب الشيوعي اللبناني –
دُعينا في الفترة بين 5 – 12 من كانون الأول/ديسمبر الجاري ، السينمائي المبدع والصديق قيس الزبيدي تكريماً لما قدّمه من أعمال
سينمائية متميزة خدمة للقضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الأحتلال الأسرائيلي ، وكاتب السطور لمناسبة صدور كتابه
[ مُطاردٌ بين "الله" والحدود] عن "دار الفارابي"، والذي عُرض ضمن مطبوعات الدار في دورة معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 62 ،
إذ يعتبر المعرض من أهم معارض الكتب في العالم العربي .
2
لم أمتلك جزمة مَطَرية "گالوش" تُمكنني من الخوض في أوحال السياسة بلبنان ... بنظامه الطائفي والفساد ونهب المال العام ...إلخ
مما يُرادُ إستنساخه وتثبيته في العراق وغيره ! كذلك لمْ تكن لديَّ فَكّه (قروش ، خُرده ) تمكنني من زيارة "كازينو لبنان" وسواها
من "مرابع" للأختلاط بالمجتمعات
"المخملية !" وحديثي النعمة من كل الطوائف والجنسيات...!! لذلك سأكتفي بما شاهدته ، وبأنطباعات سريعة وذكريات .
3
ساعةَ وصلنا مساءً ، إستقبلتنا بيروت بزخّةٍ، ظنناها عابرةً ، أو"نعمة"-على ما يقوله المزارعون . لكن ستكشف الأيام التوالي
أنها لم تكن نعمة ، إنما "نقمة!" أغرقَتْ ، حتى "الرملة البيضا"(حي يسكنه المرفّهون في بيروت). مستغرباً سألتُ قيساً
" ما حاجة العروس/ بيروت لكل هذا المطر ، إذْ هي تستلقي على التلال وتغسل أقدامها في البحر؟!"فردَّ ممازحاً
" لا تسأل عما نجهله ! فقد تكون وراء ما لا نعرفه حِكمة ربانية!! "
المساء في بيروتَ ، ونحن ندخلها قادمين من المطار، يُشيعُ الغموضَ ..
ماطرٌ ، يُرخي في النفس كآبةً تُزيدها شحّةُ الأنوار[ أزمة الكهرباء هنا أقدم مما في العراق !].. !
السماء تبدو قديمة ، كأنكَ تنظر إلى مشهد بالأسود والأبيض !
المطرُ حبالٌ خُرافيّة تكاد تُمسك بها،
مطرٌ يتكسّر على الأسفلت والأرصفة بـ"عثراتها"،
وعلى الرخام أمام مطعم الـ " ت ة "
مطرٌ يُطفأُ كل شيءٍ ، إلاّ ناركَ الصغيرة القابعة بداخلك ،
يُلغي كل الشهوات ، إلاّ أنْ تفوزَ بدفءٍ من دون بَلَلٍ ،
لكن بيروتَ هيَ ، هيَ ، تعرف أن الليل صاحبي ! تبدو لاهيةً ... لا تهجعُ حتى حين تخلد الناس للنوم ، مثلما عرفتها في أيامٍ رحلَتْ!
نَشَدنا "الحمراء" ، صحبة الصديق نجا الأشقر – كتلة هائلة من النشاط والعلاقات مع الوسط الفني ومنظمات المجتمع المدني –
حيث سيكون أوتيل نابليون مُستقرنا ( فندقٌ في أحد زواريب الحمراء يبكي شأنا كان له في زمنٍ فات !)
دخلنا حانة أبو إيلي لنَبُلَّ العطَشَ بكأسٍ . كانت المفاجأة الأولى أنك تستطيع التدخين دون منع أو "عزل"! أما الثانية فتثلج القلب
في زمن "قحط اليسار"! ... جدران الحانة الثلاثة رُصفت بمئات الصور ، التي تُعلن هوية الحانة وروادها ، دون مواربة !
ماركس ، إنجلز ، لينين ، تروتسكي ، جيفارا ، فرج الله الحلو، حسين مروة ، مهدي عامل ، فهد ، سلام عادل ، لومومبا ،
ألليندي، كاسترو، فيكتور جارا ، مانديللا ... هلَّلَتْ صاحبة الحانة بنا لمّا عَرّفها نجاد أننا من العراق ...
4
في اليوم التالي ، حل موعد إفتتاح المعرض ، ذهبتُ قبلها إلى " دار الفارابي " في كورنيش المزرعة ، عند "دوّار الكولا"،
وكان عندهم علمٌ بوصولنا .. لكن للأسف لم أحظَ بلقاء المناضل جوزيف بوعقل ولا
بالدكتور حسن خليل المدير العام للدار ، إذ خرجا قبل وصولي لأنني تأخرت بسبب الزحام ، الذي تختنق فيه الشوارع وسط بيروت بعد الظهر.
بعدها ركبت السرفيس بأتجاه الروشة – البينيل ، حيث يُقام معرض الكتاب . [ البينيل ، "أرضٌ جديدة"شاسعة نشأت إثر رمي أنقاض
خرائب الحروب في البحر وسيطرت عليها "جهة" سياسية بعينها !! ]
للمرة الأولى أزور هذا المعرض الهائل والهام ، أول ما لفت إنتباهي ، الجمهور الغفير والمنوع في إهتماماته . بل أن كثرة من العوائل
إصطحبت حتى أطفالها ، مما يوحي بأهتمامها بتقريبهم وتحبيب الكتاب لهم. ومما أسرّني أن الأطفال والنشأ الصاعد لم يكونوا منهمكين
بموبايلاتهم ، مثلما نرى أقرانهم في أوربا ! كذلك لفتني أن أكبر جناح في المعرض ، كان لدار الفارابي ، التي قدّمت 178 عنواناً جديداً
في هذا العام فقط ، حسب ما قال لي د. حسن خليل ، حين إلتقيته في الجناح ، فكان مُرحباً ، بشوشاً، شديد التواضع .. يدخل القلب بسرعة !
5
في اليوم الرابع إنتهت السماء من مهمتها! فقد أفرغت كل قِرَبِها ، وأفسحت قليلاً للشمس أن تُطلّ . إنتهزتُ الفرصة للبحث
عن " ساحة رياض الصلح"و"ساحة البرج"لأن لي فيها ذكرى ترتبط ببدء الحرب الأهلية في نيسان / أبريل عام 1975.
كان الرفيق عبد الله راشد ( أبو غسان) ممثل "جبهة التحرير الوطني البحرانية" وأحد قيادييها مقيماً في بغداد خلال السبعينات.
سألني مرة ، وكان في زيارة للجريدة ،"طريق الشعب"، إنْ كنتُ على إستعداد لأداء خدمة لهم بجلب بريد حزبي لهم من رفيق ،
لايريدون قدومه إلى العراق خوفاً عليه من خطر إنكشافه ، لأنه موجود هناك لـ"السياحة" مع عائلته. وافقتُ ، فقال ، سأرتب الأمر
مع ر. أبو حسان رسمياً ( كان الرفيق الراحل ثابت حبيب العاني مسؤولاً عن العلاقات الأممية في الحزب). سافرت بعدها إلى بيروت
وتوجهتُ حسب الوصف إلى فندق – نسيت إسمه – كان بهوه في الطابق فوق الأرضي نصف دائري ، يُطلُّ على "ساحة رياض الصلح"...
إلتقيت الرفيق البحراني تبادلنا الأشارة المتفق عليها ، وجلسنا نشرب القهوة وندردش ، سألني عن صحة أبي غسان ...
وإذا بقذيفة سقطت فأنهدمت واجهة البهو ، فوجدنا أنفسنا في العراء وإندلع إثرها رصاص كثيف لا ندري من أية جهة ولماذا ...
وكانت تلك "فاتحة" الحرب الأهلية الطاحنة ....
وجدتُ شيئاً آخر غير ساحة البرج ( السوليدير حالياً) ورياض الصلح غير تلك التي أستقرّت في الذاكرة ...
لم أتعرّف إلا على التمثال فقط ! المباني الجديدة ، خرسانةٌ تشعُّ برودة ، غابت عنها تلك الإلفة وذاك الإحساس بالدفء ،
أحسستُ بغربة في "غربتي"! فمنذ 25 سنة لم أرَ لبنان !
6
لكن بيروت تظل حافلة بالنقائض ، تُقدم لك ما تشتهي ، لاسيما شريانها الأبهى "شارع الحمراء" ، الذي ما زال يقاوم "الترييف"
- من ريف – للحفاظ على هويته "التأريخية"، حاضنةً مُتحضرة للثقافة والفنون بكل ألوانها ومشاربها ، تتعايش بسلام مع بعض ، دون "قطبية أحادية"!!
في اليوم الرابع على وصولنا بيروت ، وفي ساعة متأخرة نسبياً شعرنا بعطش لكأس بيرة ، قلت لقيس إبق أنت في الغرفة فالجو ماطرٌ ،
سأذهب بسرعة إلى سوبر ماركت في ركن الحمراء لأشتري بيرة...
دخلتُ "التعاونية" بحثاً عن بيرة . لم أجد . سألت رجلاً فارعَ القامة بلحية مشذبة منشغلاً بالموبايل ، يتلصّصُ على مؤخرات النساء وصدورهن ،
سألته عن مكان البيرة ، قطّبَ حاجبيه ،مستنكراً سؤالي وقال :" المحل الذي خلفنا في الزاروب على مبعدة 15 – 20 متراً لديه كل ما تبحث عنه ...
فنحن لا نتعامل مع المُنكَرْ !! "
جاهدتُ في كتم ردة فعلي ...، لكنها أفلتَتْ مِنّي ، قُلتُ :" لا تتعاملون مع المُنكرْ ، لكنكم تَدِلّونَ عليه !!" وخرجتُ ..
كان عزائي في ما دهاني من غربة ، أن الحمراء، والبربير، وكورنيش المزرعة ، والمصيطبة ، ودوّار الكولا، والقنطاري... لا تزال حارسة للذكريات أمينة عليها...!
7
بيروت مدينة تسرق وقتك .. تطحنك إن لم تتحلَّ بالبرمجة والأرتخاء في آن . كثرة من الأصدقاء يشكون من هدر المدينة للكثير
من وقتهم في الزحام الخانق وتعدُّدِ مسؤولياتهم وإنشغالاتهم العامة ، مما لا يترك هامشاً نحيفاً لما هو شخصي أو عائلي ..!
أحدهم شكا لي أنه يسافر إلى طرابلس لإلقاء محاضرات في الفلسفة بالجامعة هناك ، إضافة إلى مهامه الحزبية المتعددة
وعجئة (زحام) بيروت مما لا يُبقي وقتاً للعائلة ... وأضاف بحرقة أصيلة :" تصوّر أني إنتبهتُ بألم بأن أبنتي الصغيرة
أصبح عمرها ستة أشهر تذكّرتُ أنني لم آخذها مرة بيدي أو حُضني .. أيةُ قسوة هذه ؟!"
8
نظّمَ" نادي لكل الناس "– وهو منظمة مجتمع مدني تهتم بالشأن الثقافي عامة والسينما بشكل أخص – أربعة عروض لأفلام قيس الزبيدي ،
إثنان في بيروت . عُرض فيلمه الروائي الهام " اليازرلي"في قاعة الميتروبوليس بالأشرفية ، وفيلمان وثائقيان وفيلم روائي قصير
" شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب"و " بعيداً عن الوطن" و"الزيارة " في قاعة "دار نمر" بالقنطارية .
وتم تنظيم عرضين في الجنوب ، واحد في بلدة أنصار وآخر ، كان الأهم والأكثر حضوراً في صيدا ، إذ عُرض فيلمه الجميل والمؤثر"واهب الحرية "
في قاعة المركز الثقافي لمعروف سعد عن المقاومة الوطنية اللبنانية بكل شرائحها وطيوفها، رغم أن الحزب الشيوعي اللبناني
هو الذي أنتج الفيلم ! وحظي الفيلم بأهتمام من قبل الجمهور ، لأن جزءاً أساسياً من الفيلم وثَّقَ للمقاومة في صيدا وما حولها وإنتقالها إلى مناطق أخرى في جنوب لبنان .
9
ركبتُ السرفيس من "الحمراء" بأتجاه دوّار الكولا . السائق مكفَهرُّ الوجه "طفران"! يستمع لنشرة الأخبار في الراديو
ويضرب بيده على مِقوَد السيارة ، يُبربرُ ويلعن ... بعد مسافة صعد راكبٌ يبدو عليه موظفا في دائرة أومؤسسة أو ربما شركة !
"طفران" هو الآخر ، طلب من السائق بحنق أن يسكّر الراديو وأخبار أولاد .... فردَّ عليه السائق :" مهلَكْ ، شوي يا إستاز ..
لِسّاتَك طالع وتوزّع اوامر ... هيدي فيك تعملها بالضاحية ، مِش هَوْن ..!" فأجاب الراكب محتداً :" .. أبو الضاحية على أبو السوليدير
على أبو هالبلد..اللي ما بيعرف البَني آدم كيف ياكل لُئمة حلال ، بلد كِلّو حرامية وكزّابين ..!"
صعد راكب آخر . سرعان ما إنخرط في الجدل المحتدم .. دخل كل شي ببعض ! إنتبهوأ إلى صمتي وأنا أستمع لما يدور .
سألني السائق مُستعلماً :" شو ، يا إستاز ما إسمعنا رأيك ؟!" قُلتُ أني عراقي أزور لبنان لأول مرة!!
لا أجروء على إبداء رأي ! فأهلُ مكة أعرف بشعابها ..!
توقّف السرفيس عند الإشارة الحمراء ، رمى الراكب قبل الأخير ورقة نقدية بحضن السائق فتح الباب ، جهة اليسار ونزل يشتم "الروس واليابانيين والناس أجمعين "!!
ما إستخلصته من هذه الحادثة وغيرها أنَّ الناس ملَّت الحروب و"الطخ على بعض "! يتناقشون ، يختلفون ، وحتى يتشاتمون ،
دون أنْ "يطخّوا على بعض "وهي مرحلة متقدمة عما مرّوا به في العقود الماضية... فلبنان بكل طيوفه ، وحضارته مثل غيره من بلدان الله ،
بلد أهله طيبون ومتحضرون يستأهلون دولة مؤسسات مدنية ، لا دولة محاصصات دينية وطائفية أو مذهبية، دولة مواطنين حسب ،
يسري فيها القانون على الجميع ، دون تمييز أو محسوبية !!
#يحيى_علوان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟