|
الذاكرة العراقية ..!
هادي فريد التكريتي
الحوار المتمدن-العدد: 1520 - 2006 / 4 / 14 - 13:48
المحور:
حقوق الانسان
قرأت يوما ما عن سيرة موجزة لحياة مناضل شيوعي عراقي ، وقع بيد بهجة العطية ، جلاد التحقيقات الجنائية أيام حكم نوري السعيد ، ورغم ما عاناه هذا المناضل من تعذيب جسدي ، وضغوط نفسية ، مورست عليه ، لم تفلح معه حتى بانتزاع اعتراف منه باسمه الحقيقي ، وبينما هذا المناضل قابع في زنزانته ، تعرف عليه أحد المستخدمين في هذه المؤسسة ، وبعد تحيته لهذا المناضل عرض عليه أية خدمة يمكن أن يقدمها له ، أجابه هذا المناضل شاكرا موقفه ، مع الرجاء بعدم الإدلاء عنه بأية معلومة يعرفها حتى لو كان اسمه ، وعده هذا المستخدم خيرا ، وانصرف لتوه باتجاه أرشيف التحقيقات ليستخرج إضبارة هذا المناضل ، فوجدها مليئة بمعلومات وتقارير مرفوعة عنه وعن نشاطاته السياسية المعارضة للسلطة الملكية ، لو قدمت ضده كأدلة إدانة ، لحكم عليه بالسجن ، سنوات طويلة ، فقرر أن يتلف كل ما كتب عن هذا المناضل ، وُيبرأه من كل تهمة ، ، فألقى بإضبارته الشخصية في نهر دجلة ، من خلال شباك غرفة الأرشيف المطل على النهر ، وبعد أن تخلص من الإضبارة ، وتأكد من أن مياه دجلة ابتلعتها ، عاد إلى زنزانة المناضل ليخبره أن لا خطر عليه بعد الآن ، وبإمكانه أن يعترف باسمه الحقيقي، فإضبارته الشخصية بقضها وقضيضها تقبع في قعر النهر ، وبدلا من شكر هذا المناضل للمستخدم على صنيعه ، قابله بوجوم وعدم ارتياح ، وصفق يدا بأخرى قائلا " ليش يا أخي فإنك قد ألقيت بكل تاريخي في النهر ، والآن أصبحت ، أنا ، من غير تاريخ ولا ماضي .." هذا المناضل كان على حق ، فتاريخه النضالي وذاكرته كلها في هذه الإضبارة ، وها هي قد مسحت من التاريخ السياسي العراقي ، وما عادت لتلك الشخصية من ذاكرة مكتوبة في أرشيفه أو أرشيف الدولة من وجود . أغلب العراقيين الذين تعرضوا لملاحقة الشرطة لنضالهم السياسي ، إن كان أيام الحكم الملكي ونوري السعيد ، أم في باقي العهود القومية وحتى سقوط النظام الفاشي في العام 2003 ، كانت دورهم معرضة للتحري والتفتيش ، وكل ما تجده العناصر الأمنية لهذه الأنظمة ، من كتب ووثائق ومقتنيات شخصية لهذا المناضل أو المشتبه به ، تتم مصادرتها باعتبارها دليلا جرميا ، حتى وإن كانت قصة أدبية أو قصيدة غزلية أو رسالة غرامية ، وحتى وإن كانت خاطرة عابرة مرت بخاطره فدونها ، ولاتعاد تلك المواد المصادرة لصاحبها ، إن ُحكم عليه أو ثبتت براءته ، هذا الواقع حال دون إقدام الكثير من الناس في مجتمعنا العراقي ، متعلمين ومثقفين ومهنيين أوغيرهم ، وخصوصا العاملين في الحقل السياسي المعارضين للنظام ، من كتابة مذكراتهم أو مشاهداتهم اليومية ، بعكس من يعيش في مجتمعات آمنة ومستقرة ، حيث لم نجد فقط الشخصيات السياسية والثقافية والمهنية وغيرهم من هواة الكتابة ، يمارسون تسجيل مذكراتهم ، أو ما يحدث ويدور في محيط مجتمعاتهم والعالم ، بل حتى الأطفال منذ بداية وعيهم في المدرسة يمارسون الكتابة وكتابة المذكرات وتسجيل مشاهداتهم اليومية ، الموثقة بالساعة واليوم ، وهكذا تنمو وتكبر معهم ذاكرتهم الموثقة ، يرجعون إليها عند تقدم السن بهم ، أو عند الحاجة لتوثيق فترة ما مروا بها ، لذا فالخطأ عند الكتابة عن فترة زمنية مروا بها يكون معدوما أو شبه معدوم . الكثير من الكتاب والمثقفين عندنا ، على مختلف اختصاصاتهم ، والمناضلين على مختلف توجهاتهم السياسية والفكرية ، كتبوا مذكراتهم ، عن حياتهم وعن مجتمعاتهم ، بعد أن تقدم العمر بهم ، معتمدين على ما علق بالذاكرة ، التي أتعبتها سنون النضال والمنافي ، وجراء هذا الواقع فاتتهم الكثير من التفاصيل المهمة ، خصوصا ما يخص النشأة والتاريخ والمكان وحتى الشخوص ، وبين أيدينا الكثير من هذه الكتابات ، أطلق عليها أصحابها تسميات تدلل على أنها مستلة من الذاكرة فقط ، فجاء السرد للحوادث مشوشا وغير دقيق ، وفيه الكثير من الخلط والإرباك ، وليس هذا بقصد منهم ، بل نتيجة لكر الجديدين المؤثر على ذاكرتهم ، وللظروف الأمنية والسياسية القاسية التي عاشوها والتي مروا بها . حال الذاكرة الشخصية ، الفكرية والثقافية والسياسية ، لكتابنا ومثقفينا ، هي الأفضل بما لا يقاس مقارنة مع ما آل إليه حال الذاكرة الرسمية للمجتمع ، والدولة العراقية ، ومؤسساتها من مكتبات ودور بحث ومتاحف وغيرها من المؤسسات العلمية والفنية والأدبية ، بعد سقوط النظام ، فالذاكرة الشخصية قد أرهقها وأتعبها إرهاب الأنظمة والحكومات المتعاقبة ، إلا أنها قاومت ، لحد ما ، الخراب والتدمير ، أما الذاكرة الرسمية للتاريخ والواقع العراقي ، فحالها مختلف كليا ، فقد تعاونت على إتلافها ومسحها قوى متعددة ، خارجية وداخلية ، مختلفة الأغراض والمقاصد ، إلا أنها جميعا قد حققت غرضا واحدا ، هو تجريد الشعب العراقي من كل تاريخه الموثق ، والموروث منذ سبعة آلاف عام ، وحتى سقوط النظام الفاشي ، على يد الاحتلال الأمريكي ، ففي لحظة دخول هذه القوات المدن العراقية ، وخصوصا العاصمة بغداد ، انطلقت عناصر لمنظمات أجنبية من على الدبابات الأمريكية ، كانت تحملهم جنبا إلى جنب جنودها المقاتلين ، مدربة على النهب والحرق والتخريب ، توجهت هذه العناصر ، لتنفيذ أهدافها وفق ما تحمل من مخططات أقدمت على تنفيذها رفقة قوات الاحتلال ، البعض منها هدفه المتاحف التي تحوي تاريخ العراق بل تاريخ البشرية الأولى التي صنعت الحرف والقانون ، لتنهب ما خف حمله وغلا ثمنه ، وتتلف ما استعصى عليهم نقله أو إخفاءه ، وبعضها الآخر هدفه حرق أرشيف دوائر الدولة . في الساعات الأولى من دخول قوات الاحتلال ، ُنفذت جرائم سرقة وحرق ثأرية ، فمثلما أقدمت على فعله قوات الاحتلال الفاشي الصدامي في الكويت عندما احتلته ، في العام 1990 ، من نهب لممتلكات الدولة وأرشيفها ، والسطو على مكتباتها وما حوت من نفائس كتبها ومخطوطاتها الثمينة ، وحرق لدوائرها وما تحويه من سجلات ووثائق ، حدث شئ مماثل في دوائر الدولة العراقية ومؤسساتها ، كما ساهمت في جريمة محو الذاكرة العراقية ، منظمات حزب البعث الفاشي ، التي أطلق عنانها رأس النظام ، بندائه ل " الحواسم " من أعضائه ومن المجرمين الذين أطلق سراحهم قبل سقوط نظامه ، وحدد لهم أهدافهم ساعة دخول القوات الأمريكية بغداد ، بأن تنهب وتحرق وتخرب كل ما تطاله أيديهم ، فهؤلاء ، " الحواسم " أتموا ما لم تقدر على تنفيذه قوات الاحتلال ومنظمات الجريمة المنظمة الدولية ، للتغطية على جرائم ارتكبها النظام الفاشي بحق الشعب العراقي ، ومحكمة الجنايات التي تحاكم صدام وزمرته بجريمة الدجيل ، خير دليل ، حيث تعذر على هيئة الإدعاء العام ، ليس فقط استحضار إضبارة الدعوة التي حوكم بموجبها ضحايا جريمة الدجيل ، وإنما لم تتوفر أية وثيقة من وثائق محكمة الثورة التي حاكمت صوريا آلاف العراقيين ، نتيجة للحرق الذي شمل أرشيف كل دوائر الدولة ومؤسساتها ، وهذا لم يكن بعيدا عن مساعدة قوات الاحتلال التي حمت هؤلاء المجرمين . قوات الاحتلال نفسها ساهمت في نهب وإتلاف الذاكرة الرسمية العراقية ، وهي نفسها ، قوات الاحتلال ، اعترفت بأنها سرقت مئات الأطنان من وثائق الدولة العراقية ونقلتها إلى الولايات المتحدة ، إلا أننا لم نجد أيا من حكامنا من طالب باسترداد هذه الوثائق ، رغم اعتراف الولايات المتحدة رسميا باستيلائها على هذه الوثائق ، فالاحتلال لم يتمثل على أرض الواقع العراقي ، بأهداف اقتصادية وعسكرية ، وإنما بالسيطرة على أرشيف الدولة العراقية ، بما يحويه هذا الأرشيف من بحوث علمية وعسكرية واقتصادية وفنية وغيرها من مجالات ، حصيلة نتاج أكثر من ثمانين عام من عمر الدولة العراقية . ما تعرض له العراق من إتلاف لتاريخه وذاكرته ، لا يمكن تعويضه ، إلا أن ما ُنهب وُسرق من جهات دولية ومنظمات معلومة ، لم نر أية جهود حكومية مبذولة لاسترداد بعضا من هذه الذاكرة المستباحة ، مما يضع المسؤولية ، ليس على عاتق الحكومة ومؤسساتها الثقافية والأمنية فقط ، بل وعلى عاتق منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني ، للعمل على المطالبة باسترداد مانهبته قوات الاحتلال والإدارة الأمريكية والمتعاونين معها . المواطنون العراقيون ، بمختلف اهتماماتهم ، الذين أدمت محاجرهم الجرائم المرتكبة بحق العراق وتاريخه ، مطالبون بالعمل والمساعدة على إعادة بناء ذاكرة العراق ..! 13 نيسان 2006
#هادي_فريد_التكريتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأئمة من قريش ..!!
-
الدستور هو المشكلة ..!!
-
مصداقية ساستنا ..ووطنيتهم ..!
-
باقة من الورد ..للحزب الشيوعي العراقي في عيده ..!
-
عدوى الديموقراطية ..وعمرو موسى ..!
-
المقاومة ..والدفاع عن الوطن ..! !2 2
-
المقاومة ..والدفاع عن الوطن ...!! 12
-
الدجيل ..وحلبجة ..!
-
المأزق العراقي ..والحل في قراءة التاريخ ..!
-
الحكومة العراقية..متى ..؟!
-
الصب تفضحه عيونه -..! -
-
المرأة العراقية ..والديموقراطية ..!
-
غلطة الشاطر قاصمة..!
-
أين الحقيقة ..ياحكومة !!
-
تفجير المراقد المقدسة ..والقادم أدهى وأمر ..!
-
عمرو موسى ..عذر أقبح من ذنب ..!!
-
صح النوم ..يا سيادة الوزير ..!
-
خطوط حمر ..تصبح ِبيْضا-.!
-
ميليشيات العشائر ..!
-
الدم العراقي المهدور في شباط الأسود ..!
المزيد.....
-
وزير الاقتصاد: القطاع الخاص الفلسطيني ركيزة أساسية في تنفيذ
...
-
فيديو.. أسرى محررون يروون ثلاثية -التعذيب والتجويع الإذلال-
...
-
المغرب.. اعتقال منفذي عملية اختطاف سيدة بطريقة -هوليودية-
-
سوريا.. إلقاء القبض على مسئول أمني سابق ارتكب جرائم قتل وتعذ
...
-
معاناة الأسرى المفرج عنهم بسبب التعذيب والتنكيل داخل سجون ال
...
-
الجزيرة نت تفتح ملف المعتقلين السوريين في سجن رومية اللبناني
...
-
المرسوم الرئاسي وملف الأسرى
-
عدالة القضية الكردية وتطلعاتها المشروعة
-
صمود المقاومة أركع العدو الصهيوني الأميركي مجددا في صفقة الأ
...
-
وكالة الاونروا: 40 ألف فلسطيني اجبروا على مغادرة منازلهم بال
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|