تعرضت الطبقة العاملة المصرية لتجربة قاسية مازالت تعانى من آثارها حتى الآن ، هى تجربتها مع النظام الناصرى الذى مازالت فلول اليسار المصرى والعربى السلطوى ( الستالينيون و الناصريون والتجمعيون ) يزرفون الدموع عليه ، ويعتبرون سقوطه ردة يمينية مثلما يرددون شعاراته ، والستالينيون فى هذا بالتحديد ، يخونون الطبقة التى يدعون الدفاع عنها ويدعون تمثيلها ، و هم الذين ساعدوا هذا النظام الحاكم على أن يحقق أغراضه الدنيئة فى تحطيم وحدة و وعى الطبقة العاملة المصرية ، عندما ربطوا أنفسهم به ،وكرسوا أنفسهم لخدمته والدعاية له ، الأمر الذى أوصل الطبقة العاملة المصرية لما بها من ضعف مزرى لا يتناسب و أهميتها وحجمها وتاريخها النضالى الطويل ، و فى هذا المقال سأقدم نقدا يساريا تحرريا ليس فحسب للنظام الناصرى الذى هو مجرد مثال ، بل لكل الأنظمة التى كانت ومازالت تدعى كونها اشتراكية ، و التى والتى يعتبرها اليسار التحررى مجرد تنويعات على نمط الإنتاج الرأسمالى بل هى أسوء تلك التنويعات ،حيث ترزح فيه الطبقة العاملة تحت قهر واستغلال الدولة بشكل مباشر ممثلة فى البيروقراطية ، والنخبة السياسية الحاكمة ، وتتدهور فيها أوضاع الطبقة العاملة من البروليتاريا الحديثة إلى حالة من العبودية المعممة للدولة ، برغم كل الشعارات البراقة ، والأقنعة البالغة الزيف عن تحريرها المزعوم عبر السلطة القمعية للدولة . ذلك التحرر الذى لن يتم إلا عبر تحطيم أى سلطة قمعية .
إن قصة الناصرية مع الطبقة العاملة المصرية تبدأ من إعدام قائدى إضراب عمال كفر الدوار فى أغسطس 1953 خميس والبقرى ، وقمع اضرابات عمال نسيج إمبابة بالدبابات فى نفس الفترة ، و فى مارس 1954 استطاع النظام الناصرى شراء رؤساء نقابة النقل العام ، برشوة بلغت عشرة آلاف جنية ( قدمها عبد الناصر أو ممثله لرئيس تلك النقابة ) ، كثمن لخيانة طبقتهم التى يدعون تمثيلها ، ومن أجل دعم الديكتاتورية العسكرية فى مواجهة الحركة الشعبية المطالبة بالديمقراطية وعودة الجيش للثكنات، وفى عام 1957 فقدت التنظيمات النقابية العمالية استقلاليتها عن الدولة كما فقدت طريقة تشكيلها الديمقراطية ، حيث تم تأميمها عبر انشاء تنظيم عمالى بيروقراطى واحد ينظم كل شئونه القانون الذى ضمن سيطرة الدولة وأجهزة أمنها عليه ، بحيث أصبح لا يمكن إلا لعملاء الحكومة أن يشغلوا مناصبه القيادية العليا فى الاتحاد العام والوسطى فى النقابات العامة ،حيث أصبح النجاح فى الانتخابات النقابية وقفا على أعضاء أحزاب النظام الحاكم ( من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى وصولا لامتدادهم المتمثل فى الحزب الوطنى على التوالى ) ، و فى يناير من عام 1959 تم اعتقال معظم كوادر الحركة الشيوعية المصرية ، ومعهم معظم القيادات العمالية المستقلة عن جهاز الدولة ، وتعرضوا للتعذيب المنظم لمدة خمس سنوات حتى أفرج عنهم بشرط حل تنظيماتهم المستقلة فى مارس وابريل 1964، و تعاونت بعض كوادرهم مع النظام و الدولة تحت وهم اشتراكيته ، و هو ما أفقد الطبقة العاملة طلائعها القيادية ، وبالتالى فقدت الطبقة العاملة تماما قدرتها على الانتظام سياسيا ونقابيا واجتماعيا بعيدا عن جهاز الدولة البيروقراطى وهو الأمر المستمر حتى الآن ، حيث يحظر القانون انشاء مثل هذه التنظيمات الديمقراطية و المستقلة عن جهاز الدولة ، و يرفض اليسار السلطوى انتزاع هذا الحق بتشكيل تنظيمات بديلة ، بناء على أوهام وحجج شتى ، و يصر على الاشتراك فى لعبة انتخابات تشكيلات هذا الاتحاد السلطوى ، ودفع العمال للمشاركة فى مهزلتها ، فى حين تبتعد عن هذا التنظيم النقابى ومهزله تشكيله ، الحركة العمالية العفوية تماما تعبيرا عن عدم ثقتها بهذا التنظيم
وتفتت الوحدة العمالية التى ترتعد فرائص البورجوازية منها ، إلى ذرات من الأفراد الذين أصبحت غالبيتهم مجرد موظفين لدى الدولة بدرجة عمال ، و اصبحوا فاقدي القدرة على الضغط لتحسين ظروف حياتهم وعملهم منتظرين ما تجود به عليهم سيدتهم البيروقراطية من منح ومكتسبات ، و اصبحوا فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة التى نزعت يد الدولة من الإنتاج والتدخل الاقتصادى والاجتماعى الذى كان العلامة المميزة لربع القرن المجيد الذى أعقب الحرب العالمية الثانية ،كاليتامى على موائد اللئام ، فمن ناحية فقدوا قدرتهم على انتزاع المكاسب أو المحافظة على ما فى أيدهم من مكاسب مثلما سحبت منهم هذه المكاسب ، ومن ناحية أخرى فهم يواجهون هذه الظروف و هم منزوعى سلاح الوحدة العمالية المنظمة ، و بعد أن انتهى دور العصا أتى دور الجزرة ، لكى يقضى على إمكانيات تشكل الوعى العمالى نقابيا كان أم سياسيا ،وقد بدء هذا عام 1961 .. فقد ارتدى النظام القناع الاشتراكى وفقا لمودة تلك الأيام ، و أخذ النظام يقدم المكاسب تلو المكاسب للعمال وفقا لنظام المنح الأبوى والسلطوى الأقرب للرشوة والتضليل من أجل الترويض منه لإصلاحات حقيقية لصالح العمال ، فقرر مشاركة العمال فى الإدارة والأرباح ، ونسبة الخمسين فى المئة عمال وفلاحين فى المجالس التشريعية والمحلية والمستمرة حتى الآن ، ونظم التأمينات الاجتماعية لتشمل العمال ، وقد أخذت أوضاع العمال المعيشية تتحسن نسبيا بالفعل ، إلا أن هذا لم يعنى على الإطلاق زوال خضوعها لقهر و استغلال السلطة البيروقراطية .
فالقطاع العام المملوك للدولة تسيطر عليه البيروقراطية ، و هى تنهبه سواء عبر الامتيازات الرسمية التى تحصل عليها أو عبر الفساد والسرقة ، و هى فى كل الأحوال لا تترك للعمال سوى الفتات ، فالعمال فى القطاع العام لا يستطيعون التحكم فى ظروف العمل ، و لا فيما يحصلون عليه من أجور التى تحددها الحكومة وفق قوانين عامة تنطبق على كل العمال والموظفين لديها ، والمشاركة فى الإدارة مشاركة صورية حيث لا يشكل ممثلى العمال الأغلبية فى عضوية مجلس الإدارة فضلا عن كونها مجرد أقلية شرفية ، هذا إذا افترضنا أن الانتخابات لمجالس الإدارة تجرى بالاستقلال عن أجهزة الأمن والإدارة وهو ما لا يمكن أن تسمح به الدولة على الاطلاق ،كما فرضت القوانين واللوائح البيروقراطية زوال الفوارق بين العمال والموظفين فقد افترضت أساسا فى تعريفها للعامل أنه كل من يعمل مقابل أجر ، وساوت بين الموظفين الإداريين وعمال الإنتاج ، مما فتت الوحدة بين عمال المصنع ، لمجرد أفراد يتنافسون على العلاوة والترقية والحافز ، ويتسابقون فى إرضاء الإدارة وطاعتها طمعا فى كسبها لصفهم خلال تنافسهم الفردي ، و لينحصر وعيهم الطبقى فى فهم أطنان القوانين واللوائح التى تنظم علاقات العمل التى تقررها أجهزة الدولة ، باحثين عبر رفع الدعاوى القضائية والتظلمات المستندة لتلك القوانين و اللوائح ، على ما قد تحققه لهم من مكتسبات ، كانت هذه هى الأسس المادية فى تحويل الوعى لدى العمال من التضامن الجماعى فيما بينهم لتحسين ظروف عملهم ، إلى وعى الحل الفردى على حساب التضامن الجماعى الذى هو جوهر القوة العمالية فى صراعها ضد البورجوازية سواء من أجل الإصلاح أو الثورة ، أدى الوعى الفردى ومنطق الحل الفردى إلى سعى العمال كأفراد لتحسين ظروفهم المعيشية سواء بالعمل الإضافى أو الالتحاق بعملين أو ثلاثة فى نفس الوقت بحيث قد تصل عدد ساعات العمل اليومى للعامل إلى ستة عشر ساعة أحيانا لتعويض ضئالة الأجر المدفوع مقابل يوم العمل الرسمى ، أو الهجرة لبلاد النفط أو أوروبا ، أو الاستثمار فى المشاريع التجارية والحرفية الصغيرة كبيع بعض السلع لزملاء العمل وأعمال السمسرة والوساطة ، و هو ما أضعف الوحدة العمالية فى النهاية ،و أخل بطبيعة البروليتاريا و أضعفها، وقد ساعد فى استفحال الأمر حرمان العمال من أى امكانية للنضال النقابى المستقل ، وحرمانهم عموما من الانتظام كطبقة مستقلة نقابيا وسياسيا ، وحرمانهم من حقوقهم السياسية كطبقة وعلى رأسها حق الاضراب مما جعل العمال فى أوضاع أقرب ما تكون لعـبودية الدولة .
ولعل أبرز برهان على أن الدولة الناصرية لم تكن أبدا دولة العمال ، وانما كانت دولة البورجوازية بجناحيها التقليدى والبيروقراطى ، ما حدث عام 1968 فيما عرف باحداث الطيران ،فبعد الهزيمة المزرية التى لحقت بالنظام الحاكم فى 5 يونيو 1967 ، والتى كشفت مدى الفساد التى وقعت فيه قيادات الجيش المصرى بل وكل البيروقراطية الحاكمة فى ذلك الوقت ..صدرت أحكام الطيران التى ادانت عدد من ضباط الطيران ككبش فداء يدفع تهمة الخيانة العظمى عن كبار رجال الدولة والقيادات العليا للجيش ،وكان الحكم الصادر يقضى بسجن قائد السلاح خمسة عشر عاما ، ونائبه عشر أعوام وبراءة باقى المتهمين ،وسرعان ما تحركت الطبقة العاملة فى حلوان لإدانة هذه الأحكام ،فقد اتضح أن شهداء الحرب 20000 جندى وضابط ، وبحساب بسيط فـأن حياة الشهيد لا تساوى أكثر من ثانية سجن واحدة ، و فى مواجهة التحركات العمالية االمطالبة باعادة محاكمة ضباط الطيران ، و إلغاء سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم واجهت الحكومة هذه التحركات السلمية بالقمع الوحشى ، و فى الحركة الموازية فى جامعة القاهرة عقد أحد الطلاب مقارنة بين حكم صادر على سائق نتيجةحادث تصادم قطار وسيارة نقل قتل فيها ثلاثة و اصيب خمسة وعشرين مواطنا ، حيث صدر حكم بالسجن للسائق سبع سنوات قائلا : ( سائق أهمل فأضاع مصير ثلاث أفراد وحكم عليه بسبع سنوات سجن ، وصدقى أهمل فاضاع مصير أمة و حكم عليه بخمسة عشر عاما .وهكذا نعرف طبيعة الدولة الناصرية وكيف أنها دولة البورجوازية التى تستخدم أسلحتها لقمع العمال وقهرهم واستغلالهم ، وتدافع عن نفسها بكل الوقاحة فى لحظات انكسارها المهين .قارن بين القمع الدموى لعمال كفر الدوار و إمبابة وحلوان نتيجة شروعهم فى اضرابات سلمية فى الخمسينات والستينيات ، و التعامل الرقيق الذى عومل به أحد كبار الملاك الزراعين فى الصعيد ( لملوم باشا ) عندما قاد تمردا مسلحا ضد حكومة 23 يوليو احتجاجا على ما قررته من إصلاح زراعى فى نفس فترة إعدام خميس والبقرى .
يستند دفاع اليسار السلطوى عن الناصرية على الفهم السلطوى للاشتراكية بأنها الملكية العامة لوسائل الإنتاج ، و لما كانت الدولة هى ممثلة المصلحة العامة فى عرف السلطويين على تنوعاتهم ، فالملكية العامة لا تعنى الملكية الاجتماعية ولكن ملكية الدولة ، والتى تتجسد كمؤسسة كلية الجبروت فوق المجتمع وأفراده ، وتتجسد سلطتها المجردة فى ممارسات أفراد النخبة البيروقراطية والسياسية ، التى تسيطر على وسائل الإنتاج كما تسيطر على الدولة وتديرها لصالحها ، مرغمة العمال على العمل وفق الشروط التى تحددها هى وفق هذه المصالح ، مما يجعل وضع العمال فى علاقة الإنتاج أسوء من وضع العمال الذين يعملون لدى المؤسسات الرأسمالية الخاصة ، و الذين يتاح لهم على الأقل وبرغم كل شىء الضغط على تلك المؤسسات بالوسائل النقابية المختلفة لتحسين ظروف عملهم و مستوياتهم المعيشية ، تلك الامكانية ترتبط بتوازنات القوى بين العمال والرأسماليين ، أما فى الحالة البيروقراطية فالعمال يخضعون لعقود إذعان يفرضها القانون الذى تضعه البيروقراطية الحاكمة ، لا توازنات القوى التى تميل لصالح البيروقراطية المسيطرة على السلطة على نحو مطلق ، ومن ثم فلا دخل للعمال فى تحديد قواعد تلك العلاقة التى تحدد لهم ظروف عملهم على نحو لا يسمح لهم بالضغط لتحسينها ، ومن ثم فأن معدل استغلالهم وقهرهم يتزايد برغم ما قد يحوزنه من مزايا شكلية على سبيل التضليل ، والملاحظ عبر تجربة القرن الماضى أن إنتاجية مثل هؤلاء العمال تنخفض وتسوء فى هذه الحالة مثلما تنخفض إنتاجية العبيد والأقنان عن إنتاجية العمال لدى المؤسسات الرأسمالية الخاصة .برغم أنه فى بعض اللحظات التاريخية المفعمة بالحماس العام شهدت زيادة إنتاجيتهم عن عمال المؤسسات الرأسمالية الخاصة مثلما حدث فى الحركة الستاخانوفية فى الاتحاد السوفيتى فى ثلاثينات القرن العشرين و فى الفترة التى تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة فى شرق أوربا.
أما الاشتركية التحررية فهى لا تعنى ملكية الدولة لوسائل الإنتاج لأنها ضد الدولة أى دولة ، فهى لا تهدف للقضاء على عبودية العمل المأجور للرأسماليين لتكرس تلك العبودية المأجورة للبيروقراطيين ، إنها تعنى الملكية الاجتماعية لتلك الوسائل كما تعنى السيطرة الجماعية لكل أفراد المجتمع وعلى نحو متساو على كل مصادر السلطة المادية أى الثروة والعنف والمعرفة ،و من زاوية أخرى نفى العمل المأجور ،وكل من البورجوازية والطبقة العاملة على السواء ، أما المنتجين الأحرار فهم ينتفعون باستخدام تلك الوسائل فى الإنتاج والخدمات عبر تكوينهم لجماعات مختلفة من المنتجين الأحرار المتعاونيين ، المنضمين طوعا لتلك الجماعات ،والذين يديرون ما تحت سيطرتهم من وسائل عبر ديمقراطية الإدارة حيث يحددون السياسة الإدارية العامة لما تحت أيديهم من مصانع ومزارع ..الخ ، بالإضافة للقواعد التى تحكم العلاقة فيما بينهم من جانب،و فيما بينهم و بين غيرهم من الجماعات و فق قواعد الديمقراطية ، و يتقاسمون عائد العمل وفق إنتاجية كل منهم ، و يفوضوا من يشاءون من المختصين من أعضاء الجماعة كالمهندسين والمحاسبين والفنيين والإداريين ..الخ لتقرير ما يتعلق بالمسائل الفنية المختلفة فى حدود اختصاصهم ، و الذى يكون للأعضاء القدرة على عزلهم وتكليفهم ومحاسبتهم و مراقبتهم ، ،و لا يحوز هؤلاء المختصين بناء على أداء هذه المهام المكلفين بها على أى امتيازات تختلف عن ما يحصل عليه باقى الأعضاء ، و لا يملكون من السلطة إلا بمقدار ما فوضوه من أجله . هذه هى الاشتراكية التحررية التى تحرر العمال من القهر والاستغلال الرأسمالى والبيروقراطى على السواء ، لا الاشتراكية التسلطية التى يتحول فيها العمال لأشباه عبيد لدى الدولة . ومن ثم لا يدافع اليسار التحررى عن القطاع العام وكل ما من شأنه تعظيم دور الدولة ، لأنه يعرف مقدار ما يحتويه هذا الدفاع من تضليل للعمال عن قضيتهم الأساسية فى التحرر من القهر والاستغلال البيروقراطى والرأسمالى على السواء