|
قتل النساء وأزمة الهوية
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 6083 - 2018 / 12 / 14 - 02:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قتل النساء وأزمة الهوية
جواد بولس
لم أتخيّل أن سيحصد الموت ضحيته التالية بهذه الخفة وبهذا الجنون؛ رغم ما كتبت، بأسف، قبل أسبوع متوقعًا بألا تكون الفتاة "يارا أيوب، ابنة قرية الجش الجليلية الوادعة، آخر الضحايا؛ فمن وما قتلها وقتل وسيقتل غيرها ما انفك يعيش ويتوالد بين ظهرانينا ". لكننا مجتمع مصاب، بدون ريب ، بفقدان البصيرة ويمضي نحو هاويته مثل أسراب الفراش الطائش.
وقعت القرعة ، هذا الأسبوع ، على عكا، مدينة الملح "والسلطان ابراهيم"، فقدّمت "ايمانها" قربانًا لأرباب الخديعة والزبد ؛ وذكّرتنا، مع أن البرق لم يمهلنا فرصة للنسيان، بأننا عرب كنا وسنبقى حرّاس ذلك "الشرف المخاطي" نتوالد على شفراته " كالراءات" في الأبجدية .
ُتنشر، عندنا، أخبار سقوط الضحايا بدون إثارة وتوزّع أعدادها كإحصائية روتينية مثل باقي الهوامش ؛ فاليوم نعرف أن عددها قد وصل نحوا من ست وخمسين ضحية، وأنّ من بينها ثلاث عشرة إمرأة. شوارعنا صارت ممالك للعرابيد وتحوّلت بيوتنا إلى حيّزات هشة ومستباحة، والناس يلعقون فيها عجزهم مثل القطط، ويدفن بعضهم موتاهم بصمت ويعودون إلى "كهوفهم" بقلوب تدميها الحسرة والجزع ؛ فمن لا يجد ملجأً آمنًا وطريقًا للنجاة يعش عبدًا وفي ذل دفين.
أشعر باحباط كبير، كأننا نعيش داخل آلة زمن معطلة نكرر فيها مخلّفاتنا ونصنّع اليأس و"زرد السلاسل".
العنف عندنا لم يجد من يصدّه فتمادى حتى صارت معاقلنا "مقاصل رؤوسنا " وحواضن للخوف و"لزغب الحواصل" . نهاراتنا نار وليلنا كليل الناموس، قارس وقارص، والناس تهذي فيه وتلهج وكأنهم يستعيدون أمجاد "برج بابل" .
الدولة تستعدينا، قالوا لنا، لكنهم قالوا كذلك : لنا في "أثدائها" حصص، أسوة بأبنائها اليهود ؛ فما العمل ؟ ومن سيخترق الحصار ؟ من سيوقف الدمار ؟
" فهذه المسيرات لم تجلب لنا أي نتيجة؛ لذا فمن المفروض أن نبحث عن طرق بديلة لمحاربة الجرائم والعنف ، كما اعتقد أن الجناة لا يشاهدون هذه الفعاليات عبر وسائل الاعلام وشبكات التواصل بل هم مشغولون بقتل البشر" ، بهذه الكلمات البسيطة الصادقة عبرت احدى قريبات ايمان ، ضحية عكا الاخيرة، عن مشاعرها وقد أوجزت بقولها كل الحكاية وعرّت بها أضلاعَ أحجيتنا الكبرى، فمن سيقود "الخراف" إلى تلك الطرق البديلة؟
عنوان هذه المرحلة محفور على أسوار المقابر ؛ فاذا كانت الحكومة عدوتنا واذا صارت الشرطة شريكة في الجرائم واذا أصبحت قياداتنا "رهن القبائل" وإذا نام الشعب في حضن الحمائل، فحتمًا ما كان هو ما سوف يكون.. واغرقي أيتها المآقي وجفي يا حناجر.
أعرف أن موقفي هذا مستفز وجارح؛ لكنه ، مثل الدم ، حقيقي وواضح ؛ فلا يكفي التفاؤل وحده كضمانة لتغيير بؤس حالنا ولبناء مستقبل آمن ، وقد تشكّل ارادة من يتولون مهمات النضال والتصدي لتلك الانهيارات، شرطًا مؤسسًا للعمل؛ لكنها لن تكفي لابراء واقعنا المعقد المنكوب، فنحن بحاجة إلى أكثر من جبر الخواطر.
كثيرون من المعارضين لظواهر العنف في مجتمعاتنا العربية حاولوا، من خلال مواقعهم القيادية والتمثيلية، أن يقاوموها وان يتصدوا لها بجدية وأن يقضوا عليها، لكنهم فشلوا؛ فالجميع يعرف أنه لو كان العنف "رجلًا لقتلناه"، لكنه كالسرطان ينتعش اذا فشلناً في تشخيصه ويردينا اذا اخطأنا في علاجه. فلماذا أخفقوا؟
فشلنا لأننا أضعنا برّنا ولأنكم تاجرتم ببحرنا ! وضعفنا عندما تخاصمتم على رسمنا وعلى اسمنا .
فنحن لن ننتصر على الفاشية إذا لم نواجه قضايانا الحقيقية الأساسية وفي مقدمتها أزمة هويتنا المتصدعة ولن ننجح في مواجهة العنف الا اذا اتفقنا على مصادره وأجمعنا على وسائل مجابهته، فالنضال الجماهيري هو عبارة عن حالة تتشكل تلقائيًا اذا هُيّئت لها الفضاءات الملائمة.
قد يشكك البعض بوجود علاقة بين مسألة الهوية وبين قتل النساء أو تفشي العنف أو ضعف الأحزاب والحركات السياسية التقليدية التي تصدرت العمل السياسي بيننا حتى مطلع القرن الحالي، لكنني مؤمن ان التهرب من مواجهة هذه الازمة وما تفرع عنها من إشكاليات سيبقى هو السبب لمعاناتنا من جميع العلات التي ذكرتها .
فمن نحن ؟ هو سؤال الأسئلة، وماذا نريد ؟ هو السؤال التالي ، وكيف سننتصر ؟ يأتي بعده ، ومن يقرر في ماذا ؟ سيكون خاتمة العقد.
لن ننجح في ترتيب علاقتنا مع الدولة ومؤسساتها ولن نحافظ على سلامة وأمن مجتمعنا اذا لم نجب على جميع تلك الأسئلة؛ فهويتك تحدد علاقتك مع الدولة ومفاصلها؛ وهويتك هي التي تملأ قوالب مواطنتك وتعبد أرصفتها؛ وهويتك تفرض عليك من هم حلفاؤك ومن أعداؤك؛ وهويتك ترشدك لوسائل نضالك ولأهدافه.
فمن يعرّف نفسه عروبيًا قوميًا سيقف على رماح تلك العروبة، فهل هي عروبة "الأسد " أم عروبة "تميم" أم عروبة "السيسي" وما موقف هؤلاء من دولة إسرائل ؟ ومن يعرف نفسه اسلاميًا قضيته مع الدولة اليهودية محسومة ، هذا علاوة على حيرته في ايجاد عمقه السياسي الاسلامي، أهو في حضن "أردوغان" أم بين ذراعي "السيد" أم مرابط في أرض الحجاز ؟ ثم كيف سيتفق الاسلامي مع الشيوعي المؤمن بأن "بوتين" هو حصنه الفريد، وبأن للمرأة ما للرجل ولها ما له في جميع الميادين العامة وفي حقها بقطف الحرية الحمراء مثله .
فكم مرة أوقعتنا تعقيدات حياتنا الجديدة في مناكفات وصدامات مازالت جروحها تنزف في مواقعنا ! وكم تقاتل جنود المعسكرات بسبب مؤتمر، أو زيارة أو مشاركة أو احتفال أو مظاهرة !
فهل يشارك المحامون العرب، مثلًا، في احتفال ستحضره وزيرة العدل بمناسبة تنصيبها لعدد من القضاة العرب الجدد ؟ أو هل يستقبل رئيس مجلس محلي الوزير المستوطن الذي جاء الى القرية كي يدشن عددًا من المشاريع الكبيرة في البلدة؟ وهل نوافق على اقامة محطة شرطة في قريتنا؟
واذا كانت الحكومة عدوتنا اللدودة وامريكا هي الطاعون، فكيف تسكت القيادات السياسية والدينية عن تنظيم مؤتمر يختص في مجال الهايتك ويعد الأول من نوعه، بادر إليه كل من الوزارة للمساواة المجتمعية الذي ترأسه الوزيرة جيلا جمليئيل والسفارة الأمريكية، التي مثلها السفير ديفيد فريدمان، وذلك يوم الثلاثاء المنصرم، في فندق كراون بلازا في الناصرة، التي حضرت من خلال رئيسها المنتخب حديثاً، وشارك فيه العشرات من المبادرين العرب والمستثمرين في المجال من اليهود الأمريكان .
فهل تتذكرون من تك هذه الجيلا ومن هو شريكها فريدمان ؟
واذا حسمنا موقفنا بأن شرطة اسرائيل هي شريكة كاملة في الجريمة ضدنا ويجب على المواطنين العرب مقاطعتها، فكيف سنتوقع مشاركتها في مشاريع مقاومة الجريمة وملاحقة المجرمين وكيف ندعو فرقتها الموسيقية للمشاركة في احياء المسيرة الميلادية ال 36 في الناصرة أسوة بباقي المشاركين .
لن تتوقف هذه المفارقات والمعضلات والخربطات لكنها ستحسم في النهاية ، كما يجري في أيامنا، بواسطة قيادات بديلة شرعية بدأت تملأ الفراغ وتستفيد من عدم مواجهة أزمتنا السياسية الاجتماعية الأولى، فمن نحن ؟ وماذا نريد ؟
يحسم الشعب بشكل غير مباشر في هذين السؤالين، ولكن القضية تتعلق فيمن يؤثر على هذه الجماهير ؟ هل هي الأحزاب فماذا تقول؟ ام هي الحركات الدينية السياسية ام هيئات المجتمع المدني ؟ من الطبيعي ألا يتساوى مفهوم المواطنة بين الانسان العربي القومي وبين الشيوعي، ومن الطبيعي أن يختلف معنى العنف ضد النساء وضد المثليين وضد "الكفرة" بين المتدين وبين العلماني أو غيره ؟ فهل مصادر الوقاية منه تتماثل في الفكرين النقيضين؟
هوياتنا ليست مسلات مصرية جامدة صماء، لأنها دائمة التشكل فمن يؤثر عليها؟
الاجابة على ذلك مكتوبة على أسوار المقابر وفي صناديق الانتخابات وفي الفتاوى وعلى أدراج المؤتمرات وفي المشاريع الاقتصادية التي تولّد شرائح اجتماعية جديدة تخيط بدلات هوياتها عند خياطين مختلفين وعصريين.
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرف العربي معلق على خاصرة وردة
-
فتشوا عن - المشترك- وليس عن -المشتركة-
-
اتركونا نحن العرب في اسرائيل لنحيا
-
ياسر عرفات .. ذكرى
-
انتخابات المجالس المحلية:ماذا قالت الجماهير العربية في اسرائ
...
-
القدس بين سلطان ودير
-
-لجنة المتابعة- هدف معارك اسرائيل القادمة
-
القدس عارية
-
الحكمة والوجع في دموع اكتوبر
-
الحرب هي على انجازات أسرى فلسطين
-
في -الغفران- تبكي القدس فيصلها
-
هل من بروكسيل سيأتي الخلاص؟
-
حين كانت فلسطين محتلة!
-
في فيينا او في كريات حاييم، الفاشية واحدة لا تلين
-
من سيُسجن في سبيل العلَم؟
-
البركة في مظاهرة تل أبيب
-
إسرائيل والمسألة الدرزية
-
قانون القومية اليهودية وصراعات القبائل العربية
-
قانون القومية:-إسرائيل فوق الجميع-
-
فلسطين دمعة التاريخ الحارة
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|