هكتور شحادة
الحوار المتمدن-العدد: 1519 - 2006 / 4 / 13 - 11:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يبدو العراق وكأنه على شفا حرب أهلية بين مكوناته الطائفية والاثنية وديمقراطيته الأمريكية لا تبدو فعالة, فعلى الرغم من الانتخابات والحضور الجماهيري الكبير الا ان هذه الديمقراطية عاجزة وعجزها من النوع الغريب, فهي ليست أزمة عدم حصول أحد الأطياف على أغلبية أو كتلة برلمانية كبيرة, انما على العكس فالائتلاف الشيعي يتمتع بقوة برلمانية كبيرة ولكنه وعلى الرغم من هذا عاجز عن تشكيل حكومة, بل هذا النظام لديه بدعة خاصة وهي حكومة ائتلافية بين المنتصرين والخاسرين.
لبنان يخوض حوار وطنيا, لكن هذا الحوار يتعثر احيانا ويتوقف أخرى, ولا يبدو أن هناك أفقا للحل السياسي في لبنان بل مجرد مهدئات تبعد شبح الأسوأ.وفي لبنان يوجد نظام ديمقراطي قديم وفعال نسبيا على الرغم من كل الشوائب التي شابت النظام الانتخابي. لكن مع هذا النظام أو غيره لا يبدو أن هناك أفقا لحل الأزمة اللبنانية التي هي أزمة مستمرة منذ استقلاله. واقتراحات الطائف بشأن الغاء الطائفية السياسية لا يبدو انها ستتحقق في الأجل القريب أو البعيد.
ما الذي يجمع لبنان أو العراق حتى يعانيان من هذا الوضع المضطرب على الرغم من وجود نظام ديمقراطي (أو شيء قريب منه) في البلدين؟
ما يميز الانقسامات في البلدين والتي تعبر عن نفسها في الانتخابات هي انها انقسامات غير سياسية, انما انقسامات هوية. فالعراقيون لا يعبرون عن انتماءات سياسية انما يظهرون كشيعة وسنة وأكراد أو عبر عشائرهم. الحال اللبناني هو الآخر يماثل الوضع العراقي فكتلة المستقبل تعبر عن اغلبية السنة, وحزب الله وحركة أمل تعبران عن الشيعة, والجنرال عن المسيحيين وهكذا. حتى الخلافات بين المسيحيين, كجعجع وعون, هي خلافات مناطقية والزعامات الأخرى كلها هي عائلية.
الانتماء الذي يغيب عن العراق ولبنان هو الانتماء الوطني. العراق غيرحاضر في وعي العراقيين, فهو لايمثل أفقا أو مرجعا. هنا لا يوجد معنى للمصلحة الوطنية. الانتماءات التي يحيل اليها العراقيون هي انتماءات دون المستوى الوطني أو عابرة له. حتى الذين يحيلون الى العراق, كالعرب السنة, لا يحيلون اليه كعراق الوطن انما عراق مرتبط بهم. عراق السنة هو العراق العربي, الامتداد للوطن العربي الذي غالبية أهله سنة. العراق الوطن هو عراق العروبة, الأخوة السنية ضد الأخوة الشيعية, ضد عراق ايراني الهوى. الحال نفسه في لبنان. فلبنان الوطن غائب والحاضر هو الانتماءات الأخرى. الانتماء الى الدروز وله اسم لطيف التقدمي الاستراكي, للسنة, للشيعة. حتى الوطنية اللبنانية لا تستحق هذا الاسم فهي محصورة على العموم بالجانب المسيحي الذي يجعلها مناهضة للانتماء العربي المرتبط بالمسلمين السنة.
الوطن لا يحضر في العراق أو لبنان, وان حضر فيكون كجزء من ترسانة الوعي ما دون الوطني, فيقتصر الوطن على مجموعة دون أخرى. يتم في لبنان اليوم الهجوم على حزب الله انطلاقا من الوطنية اللبنانية ولكن هذه الوطنية لا تتسع للشيعة, والذين لا يفهمونها الا بالارتباط بما هو متجاوز لهذه الوطنية. بل المسألة تزداد تعقيدا عندما يتقدم السنة اليوم وللمرة الأولى تاريخيا, منذ الصلح, كحاملين للوطنية اللبنانية وفي مواجهة الشعور العربي, والذي بقي تاريخيا ملازما للسنة في كافة المنعطفات السياسية بدءا من 1958 حتى الحرب الأهلية. ولهذا تبدو الوطنية اللبنانية السنية طارئة وبقدر ما بقيت سنية فهي لا تمثل وعيا تأسيسيا للوطنية البنانية, وخاصة مع انقلاب الجنرال على التحالف مع هذه الوطنية السنية المستجدة لمصلحة تحالفه مع حزب الله الشيعي.
المسألة في كل من لبنان والعراق هي غياب الوطن من الوعي الجمعي لمصلحة انتماءات أخرى تحتل مواقع الأولوية وهذا الأمر يمكن فهمه على مستويين.
الأول طارئية هذه البلدان, أي كيانيتها, فهي كيانات لا تملك أي حضور تاريخي يمكنها الاستناد عليه. هي طارئة بفعل التقسيم للمنطقة الذي حصل بجرة قلم بدون أي معنى أو مضمون. تقسيم مفرط في عبثيته بالنسبة للسكان الأصليين. وهكذا فالبلدان هي مسألة طارئة بالنسبة لهم, لاتملك بذاتها مضمونا يمكن أن يشرعنها أو يعطيها مضمونا في وعي ابنائها.
هذه الكيانات المصطنعة كما وصفها الخطاب القومي العربي مصيبا( تحديدا بالنسبة الى الهلال الخصيب) هي أكثر اصطناعا من اسرائيل نفسها.
وهذه الكيانات لم تنجز خلال تاريخها القصير ما يشرعنها بالنسبة الى أفرادها, بل على العكس استندت شرعية انظمتها دوما على نفي شرعية هذه الكيانات. فالأنظمة القومية العربية في كل من سوريا والعراق استندت دوما على الشرعية الثورية القومية التي تعلن أول ما تعلنه اصطناعية هذه الكيانات وضرورة زوالها وتحطيمها من أجل غد أفضل للعرب. والحال كان كذلك وان على وتيرة أقل خلال الخمسينيات في سوريا. اللبنانيون لم يقصروا في هذا المجال. هوية لبنان لم تحسم منذ التأسيس و يبدو انها مسألة غير قابلة للحسم. وخلال الحرب الأهلية كان نصف الشعب اللبناني يحارب لأنه لبناني والنصف الآخر لأنه عربي.
الثاني هو أن هذه الكيانات لم تحمل الكثير من التجارب الجيدة لشعوبها. بالاضافة الى هزائمها المستمرة, بل حتى وجودها المهين كآخر بقايا الاستعمار, فان هذه الكيانات كانت استمرارا لدولة التنظيمات, وهذا يعني انها شكلا هجينا من أشكال الدمج بين الادارة الاستعمارية والدولة العثمانية. الدولة كجهاز ضخم للقمع والضبط. جهاز منفصل تماما عن المجتمع ولا يتقاطع معه سوى عبر علاقات القوة. الدولة قوية بقدر ما أن المجتمع ضعيف والعكس صحيح.
الدولة المنفصلة عن المجتمع وأداة الغلبة كانت دوما هدفا لقوى التغيير عبر الانقلابات, فالاستيلاء على الدولة يعني الوصول الى قوة يمكن بواسطتها اعادة تشكيل المجتع لتحقيق الأهداف الخاصة بهذه المجموعات. لكن هذه الدولة وعلى الرغم من تمتعها بالقوة واحتكار العنف بقيت ضعيفة كونها لا تملك شرعية في المجتمع, شرعية مؤسساتها, والعلاقة معها كانت دوما علاقة استيلاء.
دولة التنظيمات هذه قامت في كل من سوريا والعراق بعمل هام وهو التوسع الأفقي ضمن المجتمع عبر انشاء شبكات هائلة من الرشوة والانتفاع المتبادل تحت تسمية الوظيفة- وبسبب ندرة الثروات في سوريا بالمقارنة مع العراق ستتميزالسلطة السورية بالدهاء والقدرة على عقد الكثير من التفاهمات والتنازلات المتبادلة بالمقارنة مع السلطة العراقية التي ستجد نفسها في حل من هذا بسب تحكمها بثروة هائلة جعلتها تتمتع باستقلالية كبيرة- وتوسيع القطاع العام. هذا التوسع زاد من قوتها بشكل كبير فالدولة أصبحت الملاك الأكبر وأصبحت تتحكم بلقمة العيش.
ان انحلال هذا الجانب من الدولة في الزمن الحالي لا يعني اضعافا للدولة وحسب, انما زيادة في الانحطاط في علاقة الدولة مع المجتمع, وهذا ما عزز الابتعاد عن الدولة واعتبارها كيانا هامشيا. هنا عادت المجموعات القديمة بشكل جديد لتلعب أدوارا جديدة وتعزز سيادتها وبالتالي شرعيتها في وجه أي شرعية أخرى وتحديدا في مواجهة شرعية الدولة الضعيفة أصلا. فالعشيرة أصبحت هي مصدر الأمان للعامل أمام احتمال البطالة أو العسف, والعائلة الكبيرة هي الحماية عند التقاعد, كذلك دور جمعيات الرعاية ذات الطبيعة الدينية في مساعدة الفقراء والمحتاجين.اما الدولة فلم تعد قادرة على فعل أي شيء.
انحلال الدولة هذا عزز الاتجاه لرفض أو تجاهل واقعة الانتماء للدولة- الكيان. عند سقوط النظام العراقي قام العراقيون بتدمير الكثير مما تمتلكه الدولة من مدراس وملاعب ومعامل باعتبار انه ملكية النظام. هذه الواقعة لم تحصل عند سقوط النازية أو الفاشية. الدولة المتجاوزة للنظام, الدولة-الوطن هي اللبنة الأساسية في الوعي هناك, لكن عندنا الوطن ليس سوى أمر طارئ.
الديمقراطية هي شكل الحكم في الدولة. لكن مشكلتها الأولى عندنا هي الدولة ككيان طارئ, كيان مصطنع لا يقبل أهله به بل يرفضونه. ما يحدد انتماءاتهم مسائل أخرى مغايرة ومضادة لمفهوم الدولة وهذه الانتماءات يتم التعبير عنها عبر النزاع على السيطرة على الدولة, كجهاز للغلبة والسيطرة. ليس لدينا لينانيين أو عراقيين, انما دولة لبنانية أو عراقية وفئات تتنازع السيطرة والهيمنة على هذه الدولة عبر انتماءات هوية وليس انتماءات اقتصادية أو سياسية تسلم أولا بالانتماء الوطني والدولة-الأمة.
تعريفات الذات المستندة الى ماهويات ثابتة لا يمكن لها أن تتعايش مع الديمقراطية لسبب جوهري وهو انها أغلبية ديمغرافية وليست سياسية. الديمقراطية تفترض أن البشر يمكن أن يغيروا آرائهم, فالذين يخسرون يملكون امكانية النصر فيما بعد. الخلافات الماهوية لا تعطي امكانية لمابعد. الشيعة أغلبية الآن وغدا وربما لمئة عام مقبلة وهذا واقع ديمغرافي لا يمكن أن نغيره. الديمقراطية في حالة الوعي الطائفي لا تعني سوى طغيان الأغلبية, بل حتى هذه الأغلبية بحكم طبيعتها ستستند الى فئة قليلة تمتلك السلطة الرمزية, سطة الهوية لهذه المجموعة والديمقراطية ستعني طغيان هذه الأقلية في النهاية.
الشيعة "كشيعة" سينتصرون في أية انتخابات ولن يتغير هذا الواقع والذي يملك السلطة عليهم كشيعة هم المرجعيات الدينية والتي تملك السلطة الرمزية والمطلقة ضمن الوعي الشيعي. الديمقراطية سترمي كل السلطة في حضن المرجعية وتؤبد بقائها هناك. أو في حضن شيخ العشرة أو غيره.
لا يمكن للديمقراطية أن تعمل في اطار هذه الشروط وهي متناقضة تماما معها.
هذا هو السبب الذي يجعل الديمقراطية لا تستطيع أن تحل المشكلة فهي أكبر منها, فعلى الرغم من وجودها الطويل نسبيا في لبنان, الا أن لبنان عاش أزمة وطنية مستمرة. وفي العراق تحيا الديمقراطية خطر الحرب الأهلية.
الديمقراطية لا تعمل الا في اطار الشعب- الأمة. ولكن هناك لا يوجد شعب انما مجموعات متصارعة على جهاز للقمع اسمه الدولة وهو جهاز خارجي تماما بالنسبة للمجتمع, ليس بمعنى انه فوق الجميع فهو ليس فوقهم بل طرفا من أطراف الصراع, والموازيين العددية المعتمدة في الديمقراطية هي مقاييس سياسية قابلة للتغيير وليس ديمغرافية.
امكانية الديمقراطية هي جدا ضعيفة فالشروط لتحقيقها غير موجودة ومن المستبعد أن تتحقق على المنظور القريب لكن بالمقابل يستحق الأمر نظرة سريعة على فترة النهضة الثانية " عبد الناصر والأوج القومي" تلك الفترة التي لم تطرح فيها الديمقراطية كهدف, كانت هي الفترة التي امتلكت أكثر مقومات الديمقراطية, فالوعي القومي وان كان متجاوزا للوعي الوطني لكنه اجترح رابطة استطاعت أن تحقق اختراقا على صعيد الروابط الأفقية. رابطة حققت مساواة بين أشخاص متغايرين في انتماءاتهم. وهم الشعب انجزته الايديولوجيا القومية والتي استبعدت الديمقراطية من اهدافها .
أعتقد أن الديمقراطية المحتملة هي عبارة عن تسوية متععدة الجوانب. ابعاد الدولة عن اهم وظائفها وهو دورها التنموي, وبالتالي اضعاقها نسبيا لمصلحة المجتمع والذي سيمثله روابط أهلية. وهذا لا يعتبر تطورا انما تكريسا للتخلف فهذه العملية ستتم عبر ربطها مع المراكز العالمية ضمن علاقة وظيفية جديدة وموقع تابع. وسنرى على الأرجح برجوازيات ذات وجه طائفي وعشائري تملك حجما من السلطة المستندة على قاعدة اقتصادية جيدة وذات ارتباط دولي وهذه السلطة منتزعة من الدولة.
اما الدولة ستكون أضعف من أن تكون موضوعا للاقتتال وسيتم تقاسمها عبر محاصصات. طبعا هذا النموذج غير مستقر بل يحتاج الى رعاية دائمة وأيضا ضبط دقيق لعناصر توازنه وأي تعديل طارئ على موازيين القوى أو ظهور أشكال جديدة من الانتماءات المتمردة سيؤدي الى ازمة لا يمكن حلها الا عبر تأسيس نظام جديد أو قمع لقوى التغيير. النموذج الجديد كما اعتقد سيستلهم نموذج لبنان الحريري وان على مستويات أقل.
الديمقراطية عندها لن تشكل على نظام الهيمنة العالمي في أطرافه, لأنها ستكون بلا مضمون ومجرد واجهة. وعندها ربما سيحزن الديمقراطيون أكثرمن الآن, فهم حاليا يخسرون من أجل قضية عادلة ولكنهم غدا سيربحون من أجل لصوص وتافهين.
#هكتور_شحادة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟