راشيل كوري (أ.ف.ب
الفلسطينيون اعلنوها <<شهيدة>>. اسرائيل تنصلت من الجريمة، وحكومة اميركا، وطنها الام، تمنّعت عن ادانة قتلتها. ورفاقها يعتبرون نهايتها بداية لتصعيد عملهم في الاراضي المحتلة.
لم تكن المرة الاولى التي تواجه فيها راشيل كوري جرافة او دبابة اسرائيلية. لكنها كانت الاخيرة. قبل شهرين، قررت مغادرة بلدتها اوليمبيا في واشنطن وتبديل نمط نضالها الهادئ في الدفاع عن السلام والحرية في العالم والانتقال الى مرحلة المواجهة المباشرة، واختارت فلسطين ساحة لها، عملا بشعارها ورفاقها المقتبس من اينشتاين: <<العالم مكان خطير للحياة لا لوجود الاشرار، وانما لأن هناك من لا يفعل شيئا ازاء ذلك>>.
نعاها والداها قائلين: <<لقد منحت حياتها في محاولة حماية هؤلاء الذين لا يمكنهم الدفاع عن انفسهم>>، ونشرا مقتطفات من رسالة بعثتها لهما في السابع من شباط الماضي، بعد فترة قصيرة من وصولها الى غزة. ترى هل كانت ستكتفي بكتابتها بهذه اللهجة لو قدر لها ذلك الان؟!
<<انني في فلسطين منذ اسبوعين وساعة واحدة، وما زلت لا اجد سوى كلمات قليلة لوصف ما اراه. اجد صعوبة بالغة في التفكير بما يجري هنا بعدما اجلس لارسل ما اكتبه الى الولايات المتحدة.
لا اعلم ما إذا كان العديد من الاطفال هنا عاشوا ابدا من دون فجوات قذائف الدبابات في جدرانهم، وابراج جيش محتل يراقبهم باستمرار. اعتقد ايضا على الرغم من انني لست واثقة تماما انه حتى اصغر هؤلاء الاطفال، يدرك ان الحياة ليست هكذا في أي مكان آخر.
طفل في الثامنة من العمر قتلته دبابة اسرائيلية قبل يومين من وصولي. العديد من الاطفال يرددون اسمه امامي. علي؟ او يشيرون الى الملصقات التي تحمل صورته على الجدران.
الاطفال يحبون إجباري على ممارسة عربيتي الركيكة بعبارات مثل <<كيف شارون>>؟ و<<كيف بوش>>. ثم يضحكون عندما ارد <<بوش مجنون.. شارون مجنون>>. طبعا هذا ليس ما اؤمن به تماما، وبعض الراشدين يصححون كلامي هذا ويقولون: <<بوش مش مجنون. بوش رجل اعمال>>.
اليوم حاولت ان اتعلم قول <<بوش اداة>>، لكنني لا اعتقد ان ترجمتها كانت صحيحة. على كل حال، هناك اطفال في الثامنة من العمر، اكثر معرفة مني بعمل هيكلة السلطة العالمية، مما كنت عليه انا قبل سنوات قليلة ماضية من عمري، على الاقل في ما يتعلق باسرائيل.
ومع ذلك، افكر بحقيقة انه مهما بلغ حجم قراءاتي وحضوري للمؤتمرات والعروض التوثيقية، فان ذلك لم يؤهلني لحقيقة الوضع القائم هنا. لا يمكنك مجرد تصوره، ما لم تشاهده. وحتى عندها، تدرك دائما ان تجربتك ليست الواقع كله تماما. ماذا عما قد يواجهه الجيش الاسرائيلي من صعوبات اذا اطلق النار على مواطن اميركي اعزل، وفي ظل حقيقة انني املك المال اللازم لشراء المياه عندما يدمر الجيش الآبار. وايضا، حقيقة انني اتمتع بخيار المغادرة. لا احد في عائلتي اصيب بالرصاص بينما كان يقود سيارته، او بقذيفة اطلقت من برج مراقبة في نهاية طريق رئيسي في بلدتي.
لدي منزل. ومسموح لي بالذهاب الى المحيط. ومن الصعب علي ان أُحتجز لشهور او سنوات من دون محاكمة (هذا لانني مواطنة اميركية بيضاء وهو ما لا ينطبق على كثيرين)...
ولهذا، اشعر بالغضب عندما اصل وادخل جزئيا وبشكل غير كامل الى عالم يتواجد فيه هؤلاء الاطفال. اتساءل بشكل عكس: كيف سيكون الامر بالنسبة لهم اذا وصلوا هم الى عالمي. انهم يدركون ان اهالي الاطفال في الولايات المتحدة لا تطلق عليهم النار، ويدركون احيانا ان بامكانهم مشاهدة المحيط. لكن ما ان ترى المحيط وتعيش في مكان هادئ، حيث الحصول على المياه امر مسلّم به ولا تُسرق ليلا من قبل الجرافات، وما ان تمضي امسية وانت لم تمضها متسائلا عما اذا كانت جدران منزلك ستنهار فجأة، وتوقظك من نومك، وما ان تلتقي اناسا لم يفقدوا احدا من قبل، وما ان تعيش تجربة عالم واقعي لا تحيط به ابراج قاتلة ودبابات ومستوطنات مسلحة، اتساءل عندها ما اذا كان بإمكانك ان تغفر للعالم لكل اعوام طفولتك التي امضيتها موجودا موجودا فقط وانت تقاوم القوة الخانقة المستمرة لرابع اكبر جيش في العالم، والمدعوم من القوة العظمى الوحيدة في العالم، في محاولتها لمحوك من منزلك؟!.
هذا شيء افكر فيه حول هؤلاء الاطفال. افكر بما سيحدث اذا علموا بذلك فعلا.
وها انا في رفح. مدينة 60 في المئة من سكانها نزحوا، وغالبيتهم نزحت مرتين او ثلاث مرات... واليوم، بينما كنت اسير فوق ركام منازل كانت قائمة، ناداني جنود مصريون من الجانب الآخر للحدود: اذهبي! اذهبي! كانت هناك دبابة آتية. وتبع ذلك تلويح بالايدي و<<ما اسمك؟>>.
هناك شيء مربك حول هذه الفضولية الودودة. لقد ذكرتني الى أي حد اننا كلنا اطفال فضوليون ازاء الاطفال الآخرين. اطفال مصريون يصيحون لامرأة غريبة تتجول في طريق دبابة. اطفال فلسطينيون تطلق عليهم النار من دبابات عندما يختلسون النظر من خلف الجدران لمشاهدة ما يجري. اطفال دوليون يقفون امام دبابات وهم يرفعون لافتات. اطفال اسرائيليون في دبابات يصرخون احيانا، ويلوحون احيانا، غالبيتهم اجبرت على ان تكون هنا، العديد منهم عدائيون يطلقون النار على المنازل...
انني اواجه مشكلة في الوصول هنا الى الأخبار المتعلقة بالعالم الخارجي، لكنني اسمع بتصعيد للحرب الحتمية على العراق. هناك قلق كبير هنا حول <<اعادة احتلال غزة>>. غزة يعاد احتلالها يوميا بدرجات متفاوتة...
واذا لم يكن الناس قد بدأوا بالتفكير حول عواقب هذه الحرب على شعوب هذه المنطقة باكملها، فإنني آمل ان يبدأوا بذلك الآن.
كما آمل ان يأتوا الى هنا. اننا مشتتون بين الأحياء التي طلبت حضورنا. كما ان هناك حاجة للتواجد الدائم ليلا عند بئر على مشارف رفح بعدما دمر الجيش الاسرائيلي البئرين الاكبر.
وهكذا، نحن قلة قليلة. وما زلت اعتقد ان موطني <<اوليمبيا>>، سيربح كثيرا ويمنح كثيرا من خلال اعطاء التزام ازاء رفح على شكل توأمة المدينتين...
لكن هذا ليس سوى رأس الهرم الجليدي بالنسبة للعمل التضامني الذي يمكن القيام به. فلقد بدأت لتوي في التعلم مما اتوقع ان يكون ارشادا مكثفا حول قدرة الناس على التنظيم برغم كل الصعاب، ومقاومة كل الصعاب.
...
©2003 جريدة السفير