|
تأملات في الثورات والمصائر (2)
منذر علي
الحوار المتمدن-العدد: 6070 - 2018 / 12 / 1 - 15:56
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
غني عن القول، إنَّ الثورات الشعبية تنجح في التاريخ، فقط ، حينما تتوفر لها الشروط الموضوعية الملائمة ، أي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة، المستقلة عن الذات ، القابلة للتغيير و التحول صوب مرحلة مختلفة . والشروط الذاتية المواءمة، أي وحدة القوى السياسية ، وإمكانياتها في استيعاب المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية الموضوعية القائمة ، كما هي بشكل علمي وبدون أوهام ، وقدرتها على قيادة الجماهير باتجاه التغير المنشود ، صوب خلق بديل مختلف عن الوضع السائد. وهكذا تنجح الثورات الشعبية عندما توفر لها الشروط الموضوعية والذاتية المناسبة ، بالتلازم مع الظروف الخارجية الملائمة، وتفشل حينما لا تتوفر لها تلك الشروط، ببعديها الداخلي والخارجي. وهذه هي المعادلة العلمية التي من شأنها أن تفسر الانتصارات، أو الإخفاقات في مسيرة أية ثورة اجتماعية و أية تحولات سياسية شاملة في مسيرة الحضارة الإنسانية. والثورات، وفقًا لهذه الشروط، قد تنجح و تتقدم، وقد تجهض وتتعثر وتتوقف مكانها، و قد تكبح و تتراجع ، بشكل مأساوي، حتى عن الأوضاع التي كانت قائمة قبل انطلاقتها. وإذا طبقنا هذا القانون الثوري أو هذه المعادلة العلمية ، المتصلة بالبعد الموضوعي والذاتي لما عُرف بالثورات العربية ، أو ، بالانتفاضات الشعبية في كل من تونس وليبيا وأوكرانيا واليمن ومصر وسوريا ، فتتجلى لنا الصورة والأحداث على النحو التالي: أ) تونس في تونس نجحت الثورة التونسية رغم المسالك المتعرجة والمؤلمة التي سلكتها، بسبب الظروف الموضوعية القائمة ، التي طبعت المؤسسة العسكرية الموحدة والمحايدة ، والحياة الاجتماعية التونسية ، التي تتميز بالتمدين والتحضر عن معظم الدول العربية، وبوجود طبقة متوسطة علمانية قوية لا تخشى الإعلان عن علمانيتها، بحسب توصيف المستشرق الفرنسي جيل كيبل ، Gilles Kepel. وبسبب الظروف الذاتية للقيادات السياسية، سواء اليسارية أو الليبرالية أو الإسلامية ، التي نبتت في بيئة مدنية ناشطة ، و في مجتمع متفتح ، وفي إطار حراك سياسي ناهض، و قيادة سياسية مستنيرة، بقيم الحداثة والتنوير ومنفتحة على العصر ، وبالتالي كانت قادرة على استيعاب الظروف الموضوعية القائمة ، وتمكنها من قيادة الحراك الاجتماعي بشكل فعاَّل صوب غاياته السياسية ، التي لم تخلو ، بالطبع، من الصعوبات والتضحيات ، ولكن دون انتكاسات كبرى ، أو حروب أهلية دامية ، كما جرت الأمور في بلدان أخرى. ب) ليبيا وفي ليبيا الغنية والمغلقة ، المجاورة لتونس ، انتفضت الجماهير الشعبية، التي ضاقت ذرعًا بنظام معمر القذافي الأهوج ، ولكنها لم تكن منظمة في أحزاب سياسية علنية ، ولم تكن موحدة حول مشروع سياسي محدد، وتغلب عليها التركيبة القبلية، وليس لديها قيادة سياسية فاعلة ومستنيرة. وأنقسم الشعب بين مؤيد ومعارض للانتفاضة،كما انقسمت النخبة السياسية والعسكرية والقبلية، فضلًا عن الانقسام الجغرافي للبلد بين بنغازي الثائرة في الغرب ، وطرابلس الراضخة في الشرق. و سرعان ما استغل الغرب الامبريالي الأوضاع المتنافرة هناك، وتدخل حلف الناتو ، بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا ، لصالح المنتفضين في الغرب الليبي، وتم تصفية الرئيس الليبي معمر القذافي. وهكذا نجح التغيير بفعل الانتفاضة الداخلية الجزئية والتدخل الخارجي الكلي للأنظمة الخليجية الكالحة وحلف الناتو المجرم ، الذي يشكل الأداة التوسعية الضاربة للامبريالية. وعقب مقتل الرئيس الليبي ، وفي ظرف عصيب كانت تمر به ليبيا ، فأنَّ القاضي مصطفى عبد الجليل، الذي تصدر المشهد أثناء الانتفاضة واستُغل ، بشكل لئيم ، من قبل قطر والسعودية ، وأصبح رئيسًا للمجلس الوطني، أطلَّ ذات مساء حزين بوجه أليف ، يشبه وجه الماعز، ووقف فوق الخرائب في طرابلس , وصرَّح من موقعه السياسي والتشريعي ، بأن همه الأوحد ، هو " تطبيق الإسلام والسماح للرجل بالزواج من أربع نساء ، بحسب ما توجبه الشريعة الإسلامية" وبعدها غَرَبَ المسكين وتاه في المراعي ولم يسمع به أحد. لقد أسفرت تلك الأحداث المأساوية المُصنَّعة من قبل الأوساط الغربية والرجعية العربية ، عن سيطرة الغرب على منابع الثروة النفطية ، وتمزيق البلاد ، وتشكيل سلطات متضاربة ، تحكمها مليشيات دينية وعسكرية متعددة ، مدعومة بقوى خارجية متنافرة ، عربية وإسلامية وغربية. ج) أوكرانيا وفي أماكن أخرى غير عربية ، كأوكرانيا مثلًا ، فشل الحراك الشعبي ، على الرغم من وجود مجتمع متفتح و وجود قاعدة تعليمية راسخة ، لأن الثورة انطلقت من الأوهام الليبرالية ، التي بثتها القوى الامبريالية الكبرى ، بغية اجتثاث اليسار في أوكرانيا و تطويق روسيا الاتحادية، المنافسة والمناهضة للتوسع الغربي. فالثورة الشعبية أو ، بالأحرى ، الفورة الشعبية الأوكرانية في فبراير 2014 ، تحركتْ ضد النظام الشرعي، المنتخب ديمقراطيًا ، رغبة في الالتحاق بالاتحاد الأوربي ، وفتح الأبواب للعمالة الأوكرانية لكي تتمكن ، بشكل قانوني ، ودون قيود ، من الانتقال من أوكرانيا إلى سوق العمل في الجزء الغربي من أوربا ، وخاصة إلى الدول الغنية ، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وبريطانيا وغيرها. غير أنَّ وكالات الاستخبارات الأمريكية والأوربية ، ولأسبابها الخاصة ، استغلت هذه الدوافع الإنسانية الطبيعة لدي المواطنين الأوكرانيين ، وخاصة الشبيبة ، وحقنت عقولهم بكثير من الأوهام ، و أنفقت الاستخبارات الأمريكية وحدها ما يزيد عن 5 مليار دولار، كما تؤكد التقارير الغربية الموثقة ، من أجل إسقاط السلطة الشرعة في أوكرانيا ، بقيادة ، فيكتور يانوكوفيتش. و لقد ترتب على تلك الانتفاضة العمياء ، الممولة والموجهة من قبل الرجعيين العرب والامبرياليين الغربيين إلى سيطرة الجماعات الفاشية بقيادة ، الملياردير بترو بورشنكو، و نتج عن هذا الفعل المتهور تقسيم أوكرانيا إلى شرق أوكراني ،متعاطف مع روسيا ، وغرب أوكراني، متعاطف مع الغرب الأوربي وحلف الناتو، وبالتالي صدامها مع روسيا الاتحادية ، و ولوجها في حرب أهلية دامية في المناطق الشرقية ، وضياع جزيرة القرم ودخولها في أزمة اقتصادية طاحنة، وسقوطها في وحل المعسكر الامبريالي ، والنزعات الفاشية ، والغرق في البؤس والدعارة ، تحت ذريعة التقدم والحضارة! المؤسف أنَّ بعض المناضلين والمناضلات في العالم العربي، المدافعون بجسارة عن حقوق الإنسان ، الجديرين بالاحترام والتقدير ، بصرف النظر عن مقارباتهم الفكرية والسياسية التي قد لا نتفق مع بعضها، أيدوا بحماس "الفورة" الأوكرانية ، دون تبصر، متأثرين بالإعلام الغربي الماكر ، معتقدين أنَّ تلك الفورة كانت صدىً عميقًا لمطالب الشعب الأوكراني ، وربما متوهمين أنَّ الفورة الأوكرانية كانت مستلهَمة من الثورات العربية التي لعبوا فيها دورًا بارزًا، ولم يتفطنوا للبعد الدولي والتدخل الامبريالي في توجيه مسار الأحداث في ذلك البلد الجميل.
#منذر_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات في الثورات والمصائر (1)
-
خطأ الرئيس اليمني وخطيئة المثقفين!
-
هل التسوية بين القوى المتحاربة في اليمن ممكنة ؟
-
اليمن ضحية الولاية الكهنوتية والنزعات الجهوية والأطماع الرجع
...
-
العرب بين الغزو الامبريالي والجنون الديني (3)
-
العرب بين الغزو الامبريالي والجنون الديني [2]
-
العرب بين الغزو الامبريالي والجنون الديني (1)
-
اللعبة الكبرى في سوريا !
-
ما بعد العدوان الغاشم على سوريا!
-
العالم العربي قُبَيْلَ العدوان المرتقب !
-
كفى صراعًا : علي ومعاوية تصالحا، يا جماعة!
-
أبشركم: اليمنيون سينتصرون!
-
العرب التعليم الديني والمستقبل
-
مجرد تساؤلات في ضوء المحنة اليمنية!
-
اليمن وعلي سالم البيض وحكم التاريخ!
-
تأملات في دلالات الأحداث الأخيرة في اليمن !
-
جار الله عُمر سيبقى مشرقاً كالحقيقة!
-
اليمن الوضع القائم والاختيارات الممكنة
-
لنوقف الحرب ونتصالح صوناً لليمن (2)
-
لنوقف الحرب ونتصالح صوناً لليمن (1)
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|