|
محمد الماغوط شاعر الرثاء الكوني
علي حسن الفواز
الحوار المتمدن-العدد: 1517 - 2006 / 4 / 11 - 06:22
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
محمد الماغوط من اكثر الشعراء العرب ضجيجا وتمردا، فهو صاحب القصيدة النافرة وصاحب الرؤيا التي تذهب مباشرة الى الطين الحري، يكتب وكأنه يتلمس جرحه، يمد اصابع الى الجمر وكأنه يجترج لغة نارية تعادل احزان الكائن والمكان .. جاء الماغوط من الحياة الواسعة والمكشوفة على الفقراء الى الشعر دونما عربات!! لم يفلسف الطريق الى القصيدة ، ولم يؤجر مزاجا رومانسيا مثل كل اصحاب البدايات، جاء الى الشعر بقلقه واحزانه واحلامه المرعبة عبر بوابة السجن الذي دخله مبكرا عام 1955 ،، باحثا عن حيوات استثنائية تحتمل اسئلته المريبة !!كتب اولى قصائده وهو محبوس تحت عنوان (القتل) وكأنه يقول على طريقة شارلي شابلن (جئتك يا نيويورك غازيا) انني سادخل الحياة متورطا بقتل ما ، القمع الكوني ، الجسد الخانع للخيانات، الاوطان المشغولة على طريقة النساجين!! النساء اللائي يعشقن باصابعهن.. كان الماغوط يتحسس كثيرا من الامكنة، ويؤمن جدا ان القصيدة لاتعيش في الهواء الفاسد، عليها ان تكون حرة ومتوهجة ونافرة كالخيول البرية،،وربما كان هذا الاحساس اللجوج هو الذي دفعه للرحيل مبكرا الى بيروت ، والذهاب بعيدا في مغامرة الوعي الشعري من خلال مشاركة اصحاب مجلة شعر مغامرتهم وليكون جزء ا من تمردهم على زمن الشعرية المكرر والباهت..انطلق بجموح اخاف الجميع ،لكنه كان اكثر صدقا في تحويل هذا الجموح الى روح صاخبة لا تستكين للاخطاء ومحاولة تشويه الجوهر الانساني!! كتب مجموعته الاولى( حزن في ضوء القمر) عام 1959 ومجموعته الثانية (غرفة بملايين الجدران) وهما يكشفان عن نزوع شعري جديد وجد في الفضاء النثري مجالا جماليا واسعا في التعبير عن وعيه الاشكالي ازاء الشعر والحياة ، حمل عبر مزاجه الحاد رؤيا طاعنة في الكشف عن الوجع الانساني او الاحساس العميق بالقهر الذي ظل يطارده حدّ التفجع!! واحسب ان مجموعته( الفرح ليس مهنتي) عام 1970 هي خلاصة لهذا الاحساس القهري ازاء الخارج الضاج بالرعب ،رعب الهزائم القومية ،ورعب الجوع وغياب العدل الاجتماعي.. لا يعدّ محمد الماغوط من اصحاب المشاريع الشعرية على طريقة ادونيس رغم مجايلته له في الشعر والقرابة (زوجته سنية صالح شقيقة زوجة ادونيس خالدة سعيد) لانه كان يؤمن ان الشعر يشبه نوبات الطبيعة العاتية ،تذهب مباشرة لتخريبها او لاعادة صياغتها من جديد ، لذلك كان يكتب بشراهة في كل الاتجاهات،وكأن يسعى التي تخريب المزاج الشعبي واعادة صياغته في آن معا،،،، فهو صاحب عمود صحفي في جريدة تشرين السورية وصاحب عمود اخر في مجلة المستقبل،،كانت اعمدته تلك بمثابة الصوت الصادم الذي( يقدم بيانات صادقة عن محنة العربي) كما قال احدهم في وصف تجربته الصحفية .... كتب الماغوط للمسرح عام 1960 مسرحيته الاولى (العصفور الاحدب) والتي قدمت لنا كاتبا مسرحيا يمزج كثافة الشعر بسيولة الفعل الدرامي سعيا باتجاه توسيع مديات التعبير لنزعة الاحتجاج والقلق التي تسكنه دائما.. ولم تحول شهرته المبكرة التي اصطنعتها المغامرة الشعرية التي كان جزءا من هوسها التجريبي مع يوسف الخال وادونيس وشوقي ابي شقرا وانسي الحاج ،من ان يواصل الانحياز الى تمرداته الشخصية ومزاجه السوداوي،،فذهب الى كتابة المسرحية الشعبية اللاذعة في روحها النقدية بالتعاون مع الفنان دريد لحام ، اذ قدما مجموعة من المسرحيات والافلام السينمائية ،التي اصبحت جزءا مهما من الذاكرة الشعبية للمواطن في مغرب الارض العربية ومشرقها،،وتحولت شخصية غوار الطوشي الى بطل يومي يلامس خفايا واوجاع (الناس اللي تحت) كما يسميهم نعمان عاشور!!!واصبحت حدوده التي اقترحها في (مكاننا) العربي حدودا فاصلا بين وعي غائب تؤجره الحكومات لتخريب المواطن والمكان والروح،وبين وعي حاضر يمارس ابصاره وبصيرته !! بنوع من الكوميديا الباذخة ...... فضلا عن ان الماغوط غامر بكتابة الرواية في اطار بحثه عن الوهج العميق للاشياء ،فكتب رواية(الارجوحة)عام عن دار رياض الريس 1974 والتي اعادت دار المدى طبعها مرة اخرى عام 1991 .. لم يكن الماغوط يتحدث كثيرا عن تجربته،، ولم يضع مشروعه في المغامرة الشعرية امام انظار النقاد والباحثين الذين كثيرا ما تجاهلوا منجزه !! وسط احتفاء استثنائي باغواء ما تركته بروق التجريب الشعري وتثاقفاتها التي تركت باب الشعرية العربية مفتوحا للمغمرين وصيادي الجوائز!!!!لكن الذاكرة الشعبية كانت اكثر التماسا لحفظ ماتركه على حيطانها من شتائم واحتجاجات،، ولعل اغلب المثقفين وعمال المساطر وسكان المقاهي ومنظري الاحزاب قد قرأوا كتابه الاحتجاجي(سأخون وطني) الذي جمع فيه سلسلة من المقالات التي نشرها في الدوريات والصحف العربية .. ان هذا الشاعر البانورامي الصادق حدّ البكاء والحزين حدّ المرارة لم يتخل عن حزنه وصدقه حتى لحظاته الاخيرة ،،لقد قال عنه نزار قباني وهو يحتضنه ويبكي (انك اصدقنا وانبلنا) مثلما كان في لحظة موته الاخيرة يحتضن المذياع الذي كان يقرأ سورة يوسف ،وكأن يقول لاخوته اذهبوا الى غفران السماء وردوني الى ابي ليستاف برائحة القميص غبرة الرؤيا ... اسلم الماغوط جسده الاحتجاجي الى علل القلب ،لكنه ظل يقاوم بقصائده التي يلوذ بها الى احلامه القديمة، اذ كتب في مجموعته الاخيرة التي لم يهنأ بها بعد (البدوي الاحمر) احساسه بالموت ،وتأمله العميق لحيوات كان يفترسها في احلامه وظل وهو يطارد ها يحدس بهذا الموت الذي تلبس امكنة الجسد ،القلب وشقوق الروح. تشابكت عند هذه الاحلام رؤاه حتى باتت اشبه بالغمامة التي تمطر على كل الامكنة ،تسيل منها قطرات اللغة والروح والمراثي وكأنه يكتب رثاء كونيا ..
كل يوم اكتشف في وطني مجدا جديدا وعارا جديدا واخبارا ترفع الرأس واخرى ترفع الضغط مللت اللجوء الى التبغ والخمر والمهدئات وابراج الحظ ان سعة الخيال تمزق اعصابي ولم تعد عندي حدود واضحة أو آمنة بين المجد والعار والامل واليأس والفرح والحزن والربيع والخريف والصيف والشتاء والمذكر والمؤنث والمرفوع والمنصوب وها أنا اضع آخر جملي وآخر قصائدي في اذني واصابعي على الزناد، وانا واثق بأن حلقات من الدخان ستتصاعد كأنها حقيقة ,, بشراهة ونهم الفهد الجائع اضع راحتي حول فمي واصرخ يا الهي انقذني من هذه الصحراء....
مات محمود الماغوط عند اعتاب الفرح ،لم يمارس طقوسه ، كا ن يتلمسه بلذة المبصر،،قال عنه جئت متأخرا سيدي بعد ان ادمنت مهنتي القديمة،،واسلمت الجسد(جسد البدوي) الى لذة ملوحته التي غادرت مبكرة مع الفقر القديم ،وشواظ الروح التي لم تستكن،ومع غياب الاحبة (زوجته الشاعرة سنية صالح) التي تركت القلب شاغرا ومكشوفا على خواء الصحراء!!!!!
#علي_حسن_الفواز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصداقة //الانسان وتعدد المرايا
-
حسين القاصد الكتابة عند مراثي الصوت
-
الكتابة عند صناعة المنفى في شعرية كمال سبتي
-
وعند دارفور الخبر اليقين
-
الطفولة العربية / اسئلة عن حياة صالحة
-
ادونيس وتهريب جائزة نوبل
-
ثقافتنا العربية اسئلة البحث عن الوجود والهوية
-
الهوية الوطنية اشكالات واسئلة الحلقة الاولى
-
اصعد قريبا من مراثيك يا عراق
-
حرية المرأة العربية وشروط الحاكمية السياسية
-
اديب كمال الدين محاولة في كتابة اللذة
-
عدت وحيدا الى وجهي
-
الثقافة العربية/ موت المركز
-
المثقف00تراجيديا الاسئلة وكوميديا الاخطاء
-
كيف نرمي الحجر على التكرار؟ كيف نصنع سؤالنا في الحداثة؟
-
مراثي الجسد
-
مطاع صفدي قراءة في اجندة المثقف الاشكالي
-
امال موسى // الكتابة بشروط
-
اعلامنا العربي حريات هاربة وحلول مؤجلة
-
جمانة حداد الكتابة عند احتمال الحرية
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|