يقول الكاتب و المؤرخ المعروف توينبي بأن هناك فرق بين منتجات الحضارة و بين قيم الحضارية ، وأن أشياء من منتجات الحضارة قد تسبق الحضارة في الانتقال إلى ابعد من مكان الحضارة .
ثمة إجماع في أوساط الشعب العراقي بأن كبار طواغيت الشركات الغربية ساهموا في بقاء النظام العراقي ، وبالتالي عملوا في تعميق استمرار معاناة العراقيين ، و تأتي في المقدمة الشركات الألمانية و الفرنسية و الروسية خاصة و الغربية بصورة عامة ، شركات هذه الدول زودت مفردات و مرادفات الأجهزة الأمنية العراقية و الجيش العراقي ، بأحدث ما أبدعته التكنولوجيا من أجهزة و مواد في مجال القمع و التعذيب و القتل و الاغتصاب ، و تعتقد هذه شركات بأنه لا توجد جهات عراقية أو جماعات عراقية تلجأ إلى إقامة دعاوى للتعويض عن الضحايا العراقيين الحاصلة نتيجة تعاملها مع النظام العراقي ، متناسية بأن عدم حصول تلك الدعاوى هي بسبب مشاكل و ظروف خارجة عن إرادتهم ، و لا يعني هذا بأن التيارات أو الجماعات الوطنية العراقية قد تنازلت أو نسيت حقها، ويعلم العراقيون بأطيافهم جميعا ، بأن الدول و الحكومات التي لا تتحرك عاطفتها لما يجري للعراقيين ، بأنها حكومات و جهات غير أنسانية ، و الساكت عن الحق شيطان اخرس.
أن أنامل الحكومات الفرنسية و الألمانية و الروسية المتعاقبة مغروسة في الواقع الصعب الذي يعيشه العراقيون منذ وصول البعثيين إلى الحكم ، المطلوب من الفاعليات العراقية أن تبقي ملفات تعامل هذه الدول و شركاتها مع النظام العراقي مفتوحة باستمرار ، لتقتطف منها ما تؤكد حصول انتهاكات خطيرة ولإثبات تورط جهات مسؤولة في هذه الدول في سرقة أموال العراقيين و مساهمتهم في معاناة الشعب العراقي .
حينما تتكلم هذه الدول عن معاناة الشعب العراقي يكون عندها القول سهلا ، ولكن في حالة المطالبة برفع هذه المعاناة يكون رد فعلها صعبا من ناحية التجاوب مع معاناة شعبنا ، و السنين الماضية اُبتت بأن هذه الدول لا تفعل إلا ما يزيد شعبنا العراقي قهرا على قهر ، كأنه لا يكفيهم ما يعانيه شعبنا من الموت و الاعتقال و الإذلال ، بل يتصرفون عن سابق تصميم بأنهم يريدون مضاعفة آلام شعبنا .
هناك عوامل عديدة تجعل هذه الدول في موقع الدفاع المباشر عن نظام قد سقطت أوراقه، منها ما هو ظاهر و ما هو خفي ، الظاهر من هذه العوامل هو مسايرة الرأي العام الذي هو ضد الحرب كحرب و ليس الدفاع عن نظام صدام حسين ، أي مواقف عاطفية من هذه الجماهير ربما كانت بعضها صادقة ، و لكنها في التحصيل الحاصل ليست عاطفة إيجابية لأنها تحول دون سقوط أشرس نظام عرفه التأريخ القديم و الحديث ، أما الخفي من هذه العوامل التي تدفع هذه الحكومات للوقوف إلى جانب النظام العراقي ، هو وجود مشاركة بمليارات الدولارات من الأسرة الحاكمة في العراق ومن المقربين منها مع كبريات الشركات في هذه الدول ، بالإضافة إلى استلام مسؤولين كبار في هذه الدول من الساسة و رؤساء الشركات و من أعلى المستويات للرشاوى و الإعانات من النظام العراقي خلال العقود المنصرمة .
إن حلقات مؤامرات شركات الدول الغربية ضد الشعب العراقي ليست بنت يومها بل هي تعود إلى عقود ، وما مطالبتها مؤخرا باستمرار احتواء العراق ، وبقاء المفتشين في هذا البلد لمنع تطوير و إنتاج الأسلحة المحرمة ، هي خدمة جديدة تقدمها للنظام العراقي على حساب معاناة العراقيين ، مما حدى بمستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس للقول ( يوم الأحد 2/2/2003 حيث نقلت هذه التصريحات جريدة الأهرام اليومية التي تصدر في القاهرة ) إننا نسمع البعض الذي يقول ربما يكون بإمكاننا احتواء النظام ، و لكننا نعرف انه لا يمكن احتواؤه ، و هناك البعض الذي يقول انه لا يمكنه تطوير أسلحته في الوقت الذي يوجد فيه المفتشون هناك وفي الوقت الذي نبقي فيه على العقوبات ، و لكن ماذا عن الشعب العراقي الذي يقال له يجب أن تبقى تحت العقوبات لأننا لا نستطيع التعامل مع هذا الدكتاتور القاسي .. الشعب العراقي يستحق افضل من ذلك ، ( انتهت التصريحات ) .
كنا نصبح سعداء لو كانت هذه الدول تعمل بصدق لأبعاد شبح الحرب عن وطننا و شعبنا ( الذي لا نريده لوطننا ) ، و العمل في نفس الوقت بخط موازي لرفع هذا الكابوس الجاثم فوق رؤوس و صدور العراقيين منذ عقود ، و المساهمة في تخفيف معاناة شعبنا ، و لكن التجارب السابقة و كل المؤشرات تشير بان غاية هذه الدول هي ليست إبعاد شبح الحرب عن العراق ، بل الدفاع عن النظام العراقي و الحؤول دون تغيره ، وإبقاء الأوضاع على حالها ، نظرا لمتانة علاقتها المصلحية مع النظام العراقي ، و لوجود لوبي قوي للنظام في هذه الدول ، وما تشير إليها وكالات الأنباء بين فترة و أخرى بقيام هذه الدول تزويد النظام العراقي بمكونات الأسلحة الفتاكة حتى بعد الحصار و منها قبل عدة اشهر ، هذه التصرفات دلالة على نوع توجهات ومواقفها من النظام العراقي .
إن التاريخ الأسود لممارسات فرنسا في أفريقيا التي تدخلت في شؤون هذه الدول 160 مرة منذ ستينات القرن الماضي ، و ما جرتها ألمانيا على العالم من حربين عالميتين ، و ما مارستها روسيا في أوربا الشرقية ، و إبادتها للشعوب و سلب قدراتها و سرقة خيارتها ، تتجلى حاليا في المآسي التي تعيشها شعوب كثيرة التي خضعت لاستعمار هذه الدول ، حيث قلعت شعوب من أراضها ،و ألغت دول من الخريطة ، وتركت مآسي على الأرض تندى لها جبين البشرية ، قامت بكل ذلك دون وازع أو ضمير ، لذا نحن العراقيين لا نتوقع الخير من أحفاد هتلر ومن اخوة و أشقاء لوبين و فيشيه و أحفاد ستالين .
جاء في التقرير الإستراتيجي لحلف ( الناتو ) في سنة 1998- 1999 ( أي قبل أحداث 11سبتمر في أمريكا بأكثر من سنة ) ، -- بان الهدف الرئيسي للحلف العمل في سياسة مشتركة للتصدي للخطر الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل ، و يعتبر من الخطأ القول بأن التعاون الأمني في إطار الناتو أن يكون مقيدا بحدود مرسومة على أساس جغرافي ، في الوقت الذي تأتي التهديدات من اتجاهات كثيرة وفي أماكن عدة -- .
إن تهرب هذه الدول من التزاماتها مع الناتو في الحالة العراقية ، وحضورها قبلها بقوة في الحالة الأفغانية ، دلالة على عمق مصالحها و قوة علاقاتها مع الأسرة الحاكمة في بغداد ، و المتفقة جميعها على بناء سعادتها على حساب بؤس العراقيين ، لذا يفسر المراقبون سياسة هذه الدول تجاه العراق ، بأنها سياسة محيرة الملامح متناقضة مع الواقع المأسوي الذي يعيشه الشعب العراقي ، أما الادعاء بحقوق الإنسان و احترام الرأي العام ، فقد فقدت بريقها و تأثيرها بمظاهرها الخداعة ، لأنهم لم يتعالوا بصدق و نزاهة مع حقوق العراقيين ، أنهم يذكرون لين الأفعى و ينسيان سمها .
نحن العراقيين قد دربنا أقدامنا على مشاق الصعود و النزول ، و رأينا الكثير من اللؤم والخبث والمتاجرة بمعاناة شعبنا من القريب و البعيد ، و حينما تبدو لأعيننا معالم الطريق المأمون وهو آت لا ريب فيه ، حينئذ نطهر أرضنا من الإفرازات السامة و النباتات المتسلقة لهذه الدول أو لغيرهم ، وذاكرة شعبنا تحتفظ بالكثير من أطماعهم و مواقفهم ، لأن صراعنا إذا كان مع صدام حسين فانه معهم أيضا ، لأنهم هم الذين غذوا مفاصل أجهزة النظام القمعية بحقن المنعشة ، لذا يكون هنا ضروريا على القوى الحية لشعبنا العراقي الوصول إلى ميثاق شرف بعدم السماح مستقبلا ببقاء مصالح هذه الدول في بلدنا ، وشعبنا في الداخل كفيل بطردهم بالعصي و بالأسنان ، كما طردت شعوب كثيرة الألمان من أوطانها بعد الحرب الكونية ، وكما يطرد شعب ساحل العاج حاليا الفرنسيين و كما طرد الروس من أوربا الشرقية .
من حق ذوي ضحايانا المطالبة بالتعويض عن كل قطرة دم أراقها النظام العراقي بواسطة الأسلحة الفتاكة ، و التي حصل عليها من هذه الدول ، لأننا لا ننسى مناظر اخوتنا و أهلنا وآهاتهم و حسراتهم و عيونهم كانت تصرخ باللهفة للحياة ، في حين كان طواغيت المال في فرنسا و ألمانيا و روسيا و في الغرب ، يدخنون و يشربون و هم يمتصون قطرات من دمائنا ، وان غدا لناظره لقريب .