يوميات الحرب.
19-3-2003
فجر يوم جديد…!
مصطفى علي نعمان.
معادلة صعبة:
أقمار صناعية، صواريخ دقيقة محملة بما لا يمكن تصوره من دمار، طائرات خيالية، لا ترصدها عين، ولا يرصدها رادار، حاملات طائرات أشبه بمدن حديد، تعوم فوق الماء، قوة كل الجبارين، في كل بقاع العالم، اجتمعت لتنتقم من شعب جائع، مريض، أعزل، لا ناقة له ولا جمل في الحرب، شعب جرده حكامه من كل شيء، جردوه قبل أي شيء من مثله الأعلى، من كرامته، من مبادئه، من عزته، من لقمة الخبز، ثم طلبوا منه أن يدافع عنهم، أن يدحر قوى العالم كلها، بكل جبروتها، وحينما تردد ليفكر وضعوا السلاح في ظهره، وخيروه بين أن يقتل على أيديهم، فيعتبر خائناً، متآمراً أو يقتل بأيدي العدو فيصبح شهيداً، وهو في كلا الحالين ميت، فمن يفهم هذه المعادلة!
إرهاب الجوع:
قال المذيع الأمريكي: إن الجنود الأمريكيين المتوجهين إلى العراق يواجهون جيشاً عرمرماً، هائل العدد، نحو خمسة أضعاف عددهم! أكثر من مليون جندي، يدافعون عن صدام..معظمهم متطوعون يطلق عليهم جيش القدس.
نعم، جنودنا متطوعون، والتطوع يعني اختيار المصير! يعني اختيار القتال عن عقيدة، عن اقتناع كامل! فهل اختار جنودنا مصيرهم عن اقتناع؟
كان لي بيت في بغداد، في السيدية، بعته سنة 1995، قبل أن اخرج أهلي من العراق بيومين، وكان لي جار هناك أعتز بجيرته، احترمه، وأحبه، جمعة الرصافي، معلم له سبعة أطفال، قتل في القصف العشوائي في حرب تحرير الكويت، ترك سبعة أطفال: خمس بنات، وولدين، سعد، ثماني سنوات، قيس، ست سنوات!
قبل بضعة أشهر أخبرتني ابنتي، وكانت في زيارة لدبي مع زوجها، أن سعد بن جمعة جاري الشهيد، تطوع في جيش القدس! شعرت وكأني أصبت في رصاصة في القلب، لم أصدق! سعد الطفل، الرقيق، الذكي، يتطوع! أ هو نفسه الذي كان يخف لمقابلتي حينما أصل بغداد، فأمزح معه ومع أخيه وأخواته إلى حد الإعياء! لا، هناك شيء ما خطأ!
وبعد التفكير لم أجد أي خطأ، الخطأ الوحيد كان في أنا، في تصوري أنا.
لم أدرك أن جنودنا أطفال، غسل مخي إعلام السلطة، فحسب الإدعاء الرسمي إنهم رجال، رجال أشداء، تطوعوا للحرب، تطوعوا باختيارهم، لم يجبرهم أحد، لكن كم عدد من يعرف أن هناك إجبار! هناك ضغط من غير جهة، من غير قوة! هناك من هو أقوى مني ومنهم، أقوى من كل القوى، أجبرهم، تسلط عليهم، فرض عليهم التطوع، ساقهم إلى الحرب: أيوجد أقوى من الجوع، من الذل، من اليتم، من الحرمان، لم يكن عندهم خيار، الموت جوعاً، ذلاً، حرماناً، يتماً، أم التطوع مع لقمة مغمسة بعرق الرجولة! أطفال كسعد، انتزعوا من الملاعب! من المدارس! من ميادين الرياضة، من المراسم، من الجامعات! من الورش، من الأسواق، وقعوا على أوراق بيض: تطوعنا بملء إرادتنا، لكنهم لم يتطوعوا إلا ليسدوا فم غول الجوع، ولا أرهب في الحياة، كل الحياة من الجوع.
الحلم:
يعلن بوش الثاني بأن حرب تحرير العراق من صدام قد بدأت، وأن الحرب ضد صدام لا ضد الإسلام، وأنها ستتجنب ما أمكن ضرب المدنيين، كلمات سمعتها قبل اثني عشر عاماً، لكني بالرغم مما سمعت لا أدري ماذا يحل بي؟ أحس بكابوس يخنقني، ذكريات حرب تحرير الكويت تعصف بي! تنهال علي كما لو كانت صواعق تدومني من دون رحمة، أتذكر جسر الناصرية، الذي دُمِّر مع من فيه من أبرياء ومواشهيم، بحيث اختلط الماء بالدم بجثث الحيوان والإنسان، أتذكر ملجأ العامرية والجثث المتفحمة: قطع صغيرة، قطع متوسطة، قطع كبيرة، اختلط بعضها ببعض، لولا أنها تحوي بعض التشكيلات السريالية لما خطر ببال أحد أنها كانت حيوات بشرية، مثلي ومثلك، ومثل طفلي وطفلك، ومثل زوجتي وزوجتك! أتذكر الحي الكبير في الموصل الذي دمر بما ومن فيه، فأصبح هياكل سود لكل من يمر في الطريق، أتذكر طريق الموت بين السالمية وسفوان، ومئات آلاف الجثث المنبثة فيه، أتذكر طريق الزبير بصرة، المليء بالخوذ، الملابس، الأسلحة، السيارات المقصوفة، الجثث، بحيث لا تستطيع السيارة السير بأكثر من سرعة خمس كيلومترات، أتذكر أسوأ يوم في تاريخ العراق الحديث، يوم الجمعة الأسود، في الثامن من شباط، سنة 63، حيث قتل آلاف أبناء الشعب، مع أعظم، وأعدل، وأنزه، وأشجع، وأفضل رجال التاريخ على مر العصور، أتذكر مقتل ذلك الإنسان الخـيِّر، الطيب عبد الكريم قاسم، حيث بدأت غيوم الظلام ولما تنتهِ، أتذكر، وأتذكر، وأتذكر، وأنتظر ماذا سيحدث بعد هذه اللحظة! وسأبقى ساهراً كما بقيت قبل أحد عشر سنة، وأنام وأصحو وأنا في مكاني، وأحلم، ثم أحلم، ثم أحلم بفجر يوم جديد!
20-3-2003
خطابات الطغاة:
لم يُلقِ صدام أي خطاب جيد، منذ أن نصبه أسياده على عرش العراق وحتى البارحة، فللخطابات أسس، وقواعد، وثقافة لا يمتلكها صدام، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولعل أسخف خطاب سمعتُه في حياتي، كان خطاب "صدام" البارحة، لم يكن الخطاب سخيفاً حسب، بل تافهاً، منحطاً، مقززاً، ولعل أكثر ما يثير التقزز أبيات الشعر الهابطة التي انتهى بها.
صدام أمي، تعلم القراءة والكتابة بعد وصوله إلى السلطة بالرغم من ادعاءات إبراهيم الزبيدي ورهطه "الكرام"، ولقد التقيت من كانوا معه في الابتدائية، فأكدوا أنه لم ينجح من السادس الابتدائي إلا بالتهديد والوعيد، وبالرغم من كل مواهبه الوحشية إلا أنه لم يكن يستطيع أن يفك الخط.
وربما تعلم القراءة والكتابة فيما بعد، لكنه بقي أمياً، كما ولد، وسيبقى أمياً إلى أن يموت، بالرغم من خطابات السخف، وروايات السخف، وفلسفات السخف، نعم، سيموت قريباً، قريباً جداً، سيموت ملعوناً، مقبوراً غير مأسوف عليه.
ولست أدري كيف يغامر من نصب نفسه رئيساً على شعب عريق، مرّ به زعيم مفوه، بليغ، كالمغفور له عبد الكريم قاسم، الذي لم يخطئ باللغة العربية قط، وكان يعبر بوضوح ويرصع كلماته بالآيات القرآنية، والأمثال، ويخترع فائق التعبير، كيف يغامر مثل ذلك الأبله فيلقي شعراً، يخطئ في ألفاظه، ووزنه، ومجراه، وهو قد رأى مثل ذلك الزعيم! لكن إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت !
كلما أرى صدام أتذكر أستاذه "الجليل" عبد الناصر، الذي زكاه للـ:C.A.I ، ودربه، وعامله معاملة الملوك، وهو شقي، أمي، تافه، وسلمه لأيدي أمينة أوصلته إلى ما وصل إليه، ذلك الأستاذ الخسيس، كان أيضاً خطيباً "مفوها"، لكنه كان يعرف قدر نفسه، فلم يغامر قط، لم يخطب إلا بالعامية، كان يكره العراق، يكره عبد الكريم قاسم، وفرح فرحاً لا يوصف عندما، استبيح العراق يوم الثامن من شباط، واستشهد عبد الكريم، لكن عيبه الرئيس أنه كان مصاباً بالغرور، والتباهي، فبعد بضع سنوات قاده تباهيه وغروره إلى بئس المصير، فلم يجد نفسه إلا وهو غاطس في مستنقع الهزيمة، والذل، والخذلان، وسار على خطاه تلميذه النجيب، الصبي، صدام، سار في نفس الطريق لينتهي إلى نفس النهاية، وفي نفس المستنقع، ولقد حانت النهاية واقترب المصير، وإن غداً لناظره قريب.
أنصار السلام:
أنا من أنصار السلام، أنا ضد الحرب، أي حرب، إلا إن كانت حرب تحرير أو دفاع، واليوم رأيت من قوة أنصار السلم ما لم أره في حياتي، ففرحت فرحاً طاغياً، وحزنت حزناً دامياً، في نفس ا لوقت.
عتمت الأخبار على الحادث، قالت وكالات الأنباء، سبعة آلاف إلى عشرة آلاف على أكثر تقدير، لكني رأيت ما لا يوصف، امتلأت شوارع شيكاغو، تعطل مركز شيكاغو، توقفت حركة المرور في شيكاغو، إن قلت مئة ألف متظاهر فأنا أخدع نفسي، ولأني لا أملك وسائل تقدير علمية حديثة فلا أستطيع أن أغامر برقم، لكني شاهدت مظاهرة شارع الرشيد، في الأول من أيار سنة 1959، في بغداد، تلك المظاهرة قدرت آنئذ بمظاهرة المليون مشارك، لكنها لا شيء بالنسبة إلى مظاهرة شيكاغو اليوم، فقد تجمعت جماهير على الخط السريع من المطار حتى مركز المدينة، وانقطع السير، ثم امتدت حتى شارع مشيكن، ولا يمكن أن أصف تلك المظاهرات وجماهيرها إلا بيوم الحشر!
سب صديق لي المتظاهرين وهو يحدثني في التلفون: أغبياء، تافهون، يدافعون عن صدام..الخ.
كانت مشاعري موزعة بين الفرح، والحزن وأنا أسمع صديقي، صديقي على حق، والمتظاهرون على حق، فكيف يجتمع النقيضان؟
المتظاهرون على حق لأن غايتهم نبيلة، ولأنهم مخدوعون، ونحن المسؤولون عن الخداع، فلا توجد أي منظمة تنطق باسم عشرة آلاف عراقي في شيكاغو، ولا يوجد أي نشاط، أي محاضرة، أي نشرة، و لا يوجد واحد يستطيع أن يدبج مقالة واحدة تنشر في جريدة يومية في "اللغة الإنكليزية"، يشرح فيها لماذا لا يحب العراقيون صدام! فكيف ننتظر أن يفهم سكان شيكاغو مشكلتنا، ويتعاطفون معنا؟ وهم يظنون أن صدام ككاسترو، محبوب عند عدد لا بأس به من الشعب الكوبي!
تحرير لا تدمير:
لأنهم دمروا أفغانستان بكل ما للكلمة من معنى، ودمروا البنية التحتية للعراق في عاصفة الصحراء، ومن دون داعٍ، أو حق! ادّعوا الآن أنهم محررون لا مدمِّرون، ادّعوا، ولأنهم أقوياء، وبيدهم كل شيء، فلا يهمهم إن صدقهم الناس أم لا.
اتصل بي صديق، وقال بلهجة فرحة أنه اتصل بأهله بالعراق، وأكد ذلك ثانٍ، وثالث، لا، إذاً فهناك نوع من الالتزام، لم يدمروا الجسور هذه المرة، لم يدمروا الاتصالات، لكن علينا أن ننتظر، فلا نعلم ما في صدورهم!
ثم جاءت الأخبار، قصفت قصور صدام، قصفت وزارة الصناعة، انقبض قلبي، ذلك البناء الجميل! تذكرت المهندس الفذ الذي أشرف على تنفيذه، صديقي إسماعيل إبراهيم النعيمي، تساءلت ماذا في الوزارة؟ ماذا في القصور؟ أ يجلس صدام في أحد القصور وينتظر القصف ليقتله؟ ومن يداوم في الوزارة؟ ترى كم جندي مسكين لقي حتفه في كل قصف؟ كم "ابن خايبة" قضى نحبه؟ كم عدد الأيتام الذين خلقهم القصف؟ كم من أرملة؟ كم من ثكلى؟
لكن.. أيوجد حرب نظيفة؟