|
فتيات الرّمل
سيدأحمد إبراهيم
صحفي، قاص، وشاعر
الحوار المتمدن-العدد: 6057 - 2018 / 11 / 18 - 18:41
المحور:
الادب والفن
حدثتكَ إحدى الفتياتِ عن جنس النساء ، أخبرتك أنهن جرداوات ، لك في الأنثى ما تزرعه بها ، كصحراء قاحلة ، شمسها دائمة الهيجان ، و رمالها نزاعة للشوى ، ما أن تطأها قدماك إلا و تكون على شفير الصراخ ، إما أن تواصل المسير أو تعلن انكسارك و استسلامك أمام عنفوانها و تتبخر كشيء لا لزوم له . أخبرتك أنهن لسن من صلصال ، بل إنهن الصلصال نفسه ، شكله كما تريد ، و لا تدعه يشكلك فأنت من صلصال أصلًا ، قالت لك في بداية حديثها : احذر فسبيلك إليهن محاط بجهلك بهن ، و ما أن أكملت حديثها ، حتى و أصبحتَ تعرف عنهن ما لا تعرفه عن القيامة ، و قبلتك بحنو على خدك الأيمن ثم نظرت في عينيك ملياً و انصرفت ، يومها أنصتَّ بعناية و باهتمام بالغ ، حتى أنك نسيت أن تمسح دمعتين منحدرتين من مقلتيك ، فتحجرتا ، و نمت في ذلك اليوم و أنت تتحسس موضع الدرس على خديك .
تتذكرُ جيدا حين شددتَ رحالك نحو صحراء تلك الفتاة ظناً منك أنها روضة غنَّاء ، لم تتزود بشيء عدا شوقك و حنينك للارتشاف من بحيرتها العذبة ، نسيت سيفك و درعك و نسيت كذلك أن تأخذ منديلك ، علك أخفيت دمعتيك اللتان أعلنتا انكسارك أمام غرور الفتاة ، و في طريقك لم تأبه لمناداتي لك ، وددتُ لحظتها لو أستطيع جرَّك من ياقة قميصك و أجلسك في مكانك ، لكن كما تعلم ، ليس بمقدوري سوى الحديث المكرر و الثرثرة ، أردت أن أخبرك كيف تتصرف ، أو بالأصح ، كيف لم أتصرف ، كنت سأقول لك : لا تأمن نسمات الخريف ، ففي طياتها تحمل العواصف ، لكنك لم تعرني انتباهك ، فذهبتُ أراقب الرياح و أتذكر كيف سارت الأمور ، حين كنتُ ضاجَّاً بالحياة ، قتلتني إيماءة من وجه ثلاثينية ، كان ذلك في نهاية صيف و بداية خريف ، شعرتُ برطوبة الأرض تحت قدميَّ ، و شممت رائحة المطر ، فانهمرتُ هاوياً على الأرض ، و حين أفقت ، وجدتها قد اختفت . في الليل ، حلمت بها ، حدثتني عن كيف تخرج الأرض من قحطها نباتاً ، أبدت إعجابها بشعري المجعّد ، حكت لي حكاية البشر ، و كلمتني عن ورقةِ التوت ، أشارت إليها على جسدي ، ثم أزالتها باستحياء و ذهبتْ . استيقظت في الصباح و وجدتُ نفسي عارياً من غير إزار ، و مازال طيفها يحوم حول عينيّ ، و ورثت من الحلم دواراً و قلباً منهكاً ، نهضتُّ متثاقلاً قاصداً حيث رأيتها في الحلم ، وجدتها جالسة على أرض خضراء ، تحمل بذوراً في يدها و تدس شيئاً منها في باطن الأرض ، و حين انتهت ، نظرت إليّ و علت وجهها الصافي ابتسامة لا شبيه لها في الكون ، وجهها المنير كسراجٍ شرقيّ ، و شعرها أسودٌ مسترسلٌ كنهر مياهه الليل ، تمشي مبتسمة بناحيتي بخطواتٍ متئدة ، ارتبكتُ حين لمحتُ حركة خصرها المتنقل كأرجوحة ملكية ، فقذفتني بسؤالها : ” ما بك ؟! ” ، و قبل أن أستجمع لساني ، قالت : ” أنا أصلح القلوب المنهكة ” ، تجمدتُّ مكاني و استطعت أن أقول : ” من أنت ؟! ” ، أدارت لي وجهها و مشت في البعيد ، ثم أسقطت ثوبَها و قالت هامسة كأنها لا تخاطبني : ” أنا ابنة الصحراءِ ، سليلةُ الحصارِ الرّمليِّ ، و الجبالِ الشاهقةِ التي صارت إسمنتية ” ، و اختفت كفقاعة صغيرة .
عدتُ إلى كوخي ، و رأسي أسير تلك الفتاة التي حارت معها قواي على الفهم ، كنت أرتب الأحداث في ذهني ، لكنها تتدخل بكل قوة و تبعثرها لأضيع في دهاليز معانيها ، يتملكني الإرهاق ، و الصداع يفتك براسي الأسير ، عيناي شبه مغمضتان ، وجفناي ثقيلان جداً ، توجهت ناحية ركن الكوخ عند زيري الفخاري الممتلئ ، شربت من ما قطرته يداي حتى سقط جفناي نهائيا و أظلمت عيناي ، وجدتُ نفسي سائراً بلا اتجاه ، في بقعة رملية لا محدودة ، و من بعيد ، ظهرت الفتاة مغطية وجهها بقطعة سوداء شفافة ، و تمتطي جواداً أصهباً و ترتدي فستاناً كلون الرمل ، أماطت عن وجهها اللثام ، و أشارت إليّ بأن أركب خلفها على الحصان ، أمسكتُ باللجام و أجلستها أمامي و انطلق الجوادُ الأصهبُ كخليط من الطين و الرمل ، يصارع الرمل بحوافره القوية ، كنت كفارسٍ حاذق فوق صهوة الفرس ، كنت فارسها ، و كانت أميرتي بلا شك . غصتُ في حلمي إلا أن رشقت الشمس الصباحية أشعتها في وجهي و نهضتُّ منهكاً جداً من عدوي على الرمل ، تعلو وجهي ابتسامة نصر لذيذ ، كنا معأ ، أجل ، قابلتها راجلاً و رجعت منها على جواد ، احتفى بنا الرمل الدافئ ، و باركتنا الشمس الصفراء ، و اليوم ، سأراها في نفس المكان ، رمالها الحانية ، و شمسها الحميمة . غسلتُ ما علق بعينيّ من شراب الأمس و توجهت نحو عالمها الذي قابلتها فيه ، محملاُ بما رأيته في منامي و بما دعتني إليه ، بصفير الريح الراحلة و أسراب النسور الطائرة بغنجٍ في سمائها الملساء حين لمستها ، و مثلُك تماماً ، ذهبتُ طائراً لا أستمع إلا لنداء أميرتي في أذني و في صدري خفقان عظيم .
وصلتُ إلى الصحراء حيث الفتاة ، رأيتها ، تعدو بمرح و تتأرجح عناقيد شعرها الأسود ، تدور راقصة على أنغام ضحكتها ، حافية القدمين ، حاسرة الرأس ، براقة الوجه و على صفحته اليمنى بعض ذرات الرمل العالقة ، و لكن ، من هؤلاء ؟ ، كثيرون هنا يمرحون برفقة الفتاة ، يرتدون الفضفاض من الثياب، على أكتافهم علامات متشابهة ، يدورون حول الفتاة بضجة و هي ترقص طرباً لذلك ، ربطوا خيولهم على مقربة ، جميعهم فرسان ؟ إذن ، لم أكن فارسها الوحيد ، شعرت بأن الرمل يمور غضباً من وقفتي عليه ، تقدمت ناحية الفتاة و صرخت : ” يا أميرة الصحراء ، أنا هنا بإزاري المَخِيط و شعري المجعد ” ، إنقطع حبل ضحكتها ، و نظرت إليّ بوجهٍ مستنكِرٍ و قالت بدون اكتراث : ” من أنت ؟! ” ثم مضت في ضحكها تلاعب فرسانها و تمتطي خيولهم ، أحسست كأني أسمع دوياً هادراً للرمل ينادي ، و شعرت بحربةِ الشمسِ الصحراويةِ الساخنةِ تنغرز في رأسي ، تمتمت بكلمات أدرك تماما أن الفتاة لن تسمعهن : ” أنا إبنُ الطينِ ، بقايا ما جرفه النهر من الوادي ، و ما حرسه الأجداد الذين صاروا آلهة ” ، ثم تَبَخرتُ إلى ما لا أدري ، و سقط مني صوتي هذا ، يحوم يثرثر و يحكي الحكايات ، فهل تسمعني الآن أحكي لك ؟
#سيدأحمد_إبراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَريم
-
ﻃَﻠْﺤَﺔ ﺍﻟﺘ
...
-
رسالة يائسة
-
جحيم الذات
المزيد.....
-
نخبة من نجوم الدراما العربية في عمل درامي ضخم في المغرب (فيد
...
-
هذه العدسات اللاصقة الذكية تمنحك -قدرات خارقة- أشبه بأفلام ا
...
-
من بينها -يد إلهية-.. لماذا حذفت نتفليكس الأفلام الفلسطينية؟
...
-
تونس تحيي الذكرى المئوية لانتهاء مهمة السرب البحري الروسي
-
مصر.. نجمات -جريئات- يثرن جدلا في مهرجان الجونة السينمائية (
...
-
منصة ايكس تعلق حساب قائد الثورة الاسلامية باللغة العبرية
-
-مصور العراة- يجرد الآلاف من المتطوعين من ملابسهم لالتقاط صو
...
-
إسرائيل لم تضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية فهل هي مس
...
-
طوفان الأقصى يشعل حرب السايبر
-
من مدرسة قرآنية إلى مركز فن حديث.. تجديد إبداعي لمعلم تاريخي
...
المزيد.....
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
المزيد.....
|