|
سرّ كافافيس 2 / 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1516 - 2006 / 4 / 10 - 05:03
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في جسد " مدينة العالم " :
تحتمَ على كافافيس ، إنساناً وفناناً ، أن تلازمه صفة التغرّب في حياته ، وبعد مماته أيضاً . كإغريقي مصري ، كان عليه أن يقبل بقسمته تلك ، مقاسماً أبناء جلدته فيها ؛ أولئك المتجذرة شجرة سلالتهم العريقة على ضفتيْ وادي النيل ، قبل أن تدهمها وتذريها صاعقة التحوّلات السياسية ؛ بدءاً بالهيمنة البريطانية وإنتهاءً بالمرحلة الإنقلابية ، الناصرية . على أنّ الجذور ، الراسخة ، ما فتئتْ حيّة رغم كل ما ألمّ بتلك الجالية اليونانية ، العريقة ، من آلام ومحن ؛ الجذور التي ضافرَ في روائها ما إرتوته من سلسبيل كلمات إبن الإسكندرية وشاعرها . ما كان كافافيس ليجاهر بتغربه ، وربما صحّ له أن يتجاهله . لقد كان معتداً دائماً بإنتمائه لمسقط رأسه وحاول ، على طريقته ، أن يكون جديراً بهذا الإنتماء . فعلى ذمّة علمنا ، ما من شاعر آخر ، غيره ، تماهى إسمه بإسم مدينته ؛ حدّ أنها تنعتُ ببساطة " إسكندريّة كافافيس " ، سواءً بسواء عند المصادر المحلية أو الأجنبية. كما أننا لا نعثر على شاعر يُماثله ، لجهة حقيقة اخرى : تشابه مصيرا أسرته ومدينته ؛ من التألق والتسامي ، إلى التردي والإنحدار .
هذه الحقيقة وتلك ، هما منبع فنّ شاعرنا وتأتى لهما ، أيضاً ، أن يكونا سببَ شهرته ؛ شهرة لم يسعَ هو إليها أبداً في حياته ، بدليل أنه لم يرَ من ضرورة لجمع قصائده في ديوان . مثلما الأمرُ في أيّ مصادفةٍ ، عابرة ، وُفقَ عابرٌ للإسكندريّة في الإهتداء إلى مسكن كافافيس : كان هذا العابرُ ، وإسمه " إي . م . فورستر " ، كاتباً معروفاً في موطنه ، بريطانيا ؛ الدولة الخاتمة لسلسلة غزاة مصر . لقد جاء الرجل إلى الإسكندرية خلال أعوام الحرب العظمى ، وكما كان الحالُ مع أقرانه الأدباء ، فقد بهرته المدينة ؛ فكتب عنها فيما بعد مؤلفاً بعنوان " الإسكندرية : تاريخ ودليل " . وبما أنّ الأوساط الثقافية الأوروبية ، في المدينة ، كانت تلغط بسيرة " الشاعر الشيخ " ، بين متحمّس لفنه ومزدر لحياته الخاصة ؛ كان لابدّ لفورستر إذاً أن يتعرّف على كافافيس وشعره (1) . قبيل الحرب العالمية الثانية ، حينما حلّ بمصر عابرٌ آخر ، هو البريطاني لورنس داريل ، كان إسمُ كافافيس قد بات معروفاً إلى حدّ ما في أوروبا ، بفضل بعض الترجمات لشعره التي أنجزها فورستر ، بشكل خاص . لا غروَ ، والحالة هذه ، أنْ يكون كافافيس بمثابة " الروح " ، بالنسبة لجسد مدينته المختلقة في رواية داريل الكبرى " رباعيّة الإسكندرية " ، وأن يطوّف إسمه بين الفصول ، كظلّ حارس ٍ : " كنت أحسّ بالشاعر الشيخ يملأ المكان حولي . وهكذا كان عليّ أن أحاضرَ ناثراً الشوارع الحزينة ، حول حجرة المحاضرة ، بشذا تلك الأبيات التي إعتصرها مما مارسه من حبّ أمتعَهُ رغم سوقيته ؛ حبّ ربما إشتراه بالمال ، فلم يدُم إلا للحظات قصار ، إلا أنه يحيا الآن في شعره ". (2)
ملاحظة الروائي ، الأخيرة ، عما وصفه بـ " الحبّ السوقي " ، المرهونة له حياة كافافيس ، الجنسيّة ، تضعنا في أجواء شعره ؛ الشعر المخلد ذلك الحبّ ، بحسب القول آنف الذكر . وقبل كل شيء ، علينا ملاحظة أنّ كافافيس ، وعلى الرغم من محتدّه النبيل ومنشئه الغنيّ _ في سنوات يفاعته على الأقل ؛ فلم يتوانَ عن البوح في قصائده برغباته الجسديّة ، السريّة . ولعله أيضاً ، بين الشعراء المعاصرين ، كان الأكثر جرأة في التعبير عن رغباته تلك ، المثليّة . ها هوَ في إحدى قصائده المبكرة ( " نعم ولا " ) ، يحتفي بأولئك الرجال الجسورين ، المفصح كلّ منهم عن موقفه في لحظة ما ، حاسمة ، من عمره :
" على بعض الناس ، يأتي يوم يجب أن يقولوا فيه " نعم " الكبرى ، أو " لا " الكبرى . وكائناً من يكون الرجل فسيظهر ، فوراً مَن في داخله " نعم " جاهزة لتقال وهو يمضي قدُماً ، مشرفاً "
إن من لديه كلمة " نعم " ، جاهزة دوماً ، ماض ٍ في طريق سهل ، لا محالة ، وربما يوصله لمراتب الشرف والرفعة . أمّا ذلك الرجل ، المختلف ، المستعد لقول " لاءته " في الموقف الصعب ، فسيقولها :
" ولن يندم من أنكر سيقول " لا " ثانية ، إن إمتحِنَ لكن " لا " المتميزة تلك ، ستسعده في حياته كلها " (3)
عنوان هذه القصيدة ، الأصلي ، سجله الشاعر باللاتينية ، نقلاً عن جملة مروية في " جحيم دانتي " ، منقولة ، بدورها ، عن لسان البابا سيليستينوس الخامس : " ذاك الذي أقدم على الرفض الكبير ، بسبب جبنه " (4) . وعلاوة على تصرّف كافافيس بهذه الجملة ، فمن الأهمية ملاحظة مصادره التاريخية ، والملحمية ، المتنوّعة ؛ المصادر التي وجدَ فيها رموز فنه ومقاصده . ما من ريبٍ أنّ شاعرنا ، في خاتمة تلك القصيدة ، كان يشير إلى خيارات حياته القاسية ، الحرجة ، وكيف أنّه مضى في إمتحان " الرفض الكبير " ، بلا ندم أو وجل . يجوز لنا الإفتراض هنا ، أنّ إختيار كافافيس لجملة واردة على لسان البابا _ وبغض النظر عن تناقضه المذهبي معه _ ربما فيه من السخرية ما فيه : أيْ كأنما هدفه الإيحاء لقارئه ( أو لنفسه تحديداً ، لم لا ؟ ) ، بالعمل المعاكس لإرشادات رجال الدين وتعاليمهم . بيد أنّ هذا الأمر ، ليس من الضرورة أن يعني إهتمام الشاعر بإزجاء النصائح وتحديد ما يتوجّب من سلوك . فالنقاد ، بشكل عام ، إتفقوا على أنّ فن كافافيس في أوان نضجه ، وخاصة ّ ما فيه من إستلهام للماضي الإغريقي ، لم ينطو البتة على نزعة تعليمية أو مغاز أخلاقية ؛ بل كان موضوعياً مجرداً ينمّ عن ذوق مرهف ، قبل كل شيء . (5)
الرغبة غير المنتصرة ، هي من موضوعات كافافيس ، الأثيرة . تبدو هذه الموضوعة ، ظاهرياً على الأقل ، أكثر ذاتيّة وحميميّة ، في فنه . مما له مغزاه ، والحالة هكذا ، أن تكونَ " الرغبات " ، هي قصيدته الأولى ، المبوّبة في تصنيفات أعماله المكتوبة في تواريخ تسبق العام 1911 ، وبإتفاق مؤرخي الشاعر ونقاده . سيؤوب كافافيس إلى هذا الموضوع ، المرة تلو الاخرى ؛ حتى أنّ قصيدته ما قبل الأخيرة ( وعنوانها " أيام 1908 " ) ، المكتوبة في العام الذي سبق وفاته ، يحلق معناها بذلك الإتجاه الموصوف . فلنرَ أولاً ، ما تقوله القصيدة الأولى :
" مثل أجساد جميلة ، ميتة ، لم يمر عليها دهر مغلق عليها ، مع الدمع ، في زينة المدفن البهية الورد عند رؤوسها ، والياسمين عند أقدامها . الرغبات هي مثلها رغبات أمست باردة دون أن تلبّى دون أن تحظى في ليلة عذبة بوقت فرح أو ألق صباح "
هذه القصيدة ، المقتصدة المفردات والشديدة التكثيف ، تختصرُ فنياً إسلوب كافافيس ؛ بالأخص لجهة ثيمة " البوح الجسدي " ، بما هي الهاجس الأول لعالمه الشعري .. في وجهة نظرنا . لا تبدو هذه القصيدة المبكرة _ مثلما هو أمر أخواتها اللاحقات _ ذات رؤىً فلسفيّة أو دلالات معرفيّة ، خاصّة . إنها تعطي " فكرة " عن رغبة ما ، لم يتهيأ لها حظ التلبية . حتى الصورة ، فإنها على شفافيتها ونعومتها ومسحة الحزن فيها ، مألوفة ٌ ولا تدّعي الغموض والمماهاة . بيْدَ أنّ قراءة اخرى _ بين السطور ، كما إعتدنا القول _ تستدعي على الفور مسألة المثلية ؛ أو البوح الجسدي ، عند كافافيس . الرغباتُ ، إذاً ، مغلقٌ عليها كأجساد جميلة ، ميتة ، ما لم تلبّى ؛ هكذا يقول المعنى الظاهري للقول الشعري هنا . إلا أنّ هذا القول ، بما هو إيحاءٌ قبل كل شيء ، يذهب بنا إلى " ماهيّة " رغبات كافافيس ، حصراً : إنها على كل حال ، وبصفة سرّانيتها ، ما كان لها إلا أن تبقى مغلقاً عليها ! هذا ما يؤكده الشاعر ، في قصيدة اخرى بعنوان " تفرستُ كثيراً " ، كتبها في غمرة أعوام الحرب العظمى وفي أوج عطائه . يقول المقطع الأخير من هذه القصيدة :
" خطوط الجسد ، الشفاه الحمر ، الأطراف الشهاء ذلك الشعر .. وكأنه مأخوذ من التماثيل الإغريقية الشعر الجميل ، دوماً حتى لو كان أشعث ينحدر ، قليلاً ، على الجبهة البيضاء . وجوه الحب .. تماماً مثلما أرادها شِعري مثلما أرادها .. في ليالي فتوّتي في ليالي لقاءاتي السرّية "
المدهش في ختام المقطع هذا ، ليس تأكيد كافافيس على أنّ " وجوه الحب " ، المرتسمة في فراسته ، كان قد سبق له الإلتقاء بأشباه لها في ليالي فتوّته ، بل لأنّها : " .. تماماً مثلما أرادها شِعري " . فهو هنا ، يقدّم المقصد الفني على ما عداه ؛ بمعنى أنّ تسجيل تلك الرؤى ، القديمة بشكل خاص ، لفتوحات الحبّ والرغبة الجسديّة ؛ هذا التسجيل ، هو ما كان يشغل الشاعر ، قبل أي شيء آخر .. بحسب ما تقوله شواهد اخرى من شعره . سنرى ، ايضاً ، ما يدعم هذا القول ، في قصيدة بعنوان " بصيرة " ، مكتوبة في نفس الفترة الزمنية لسابقتها . حيث نقرأ في أحد مقاطعها :
" في سنيّ شبابي المنغمسة كانت تتشكل مقاصد شِعري . ويتصمم إقليم فني "
و عودَة إلى موضوعنا ، المسمّي رغبات كافافيس ، السريّة ، سنوردُ تلك القصيدة ما قبل الأخيرة في مجمل أعماله الشعرية ؛ وهي بعنوان " أيام 1908 " ، ويقول المقطع الأخير منها :
" يا أيام ذلك العام ، عام التسعمائة والثمانية ، إختزنتك ذاكرتي ومن صورتك ، إنمحت رويداً رويداً السترة المتهرئة ، البنية الحائلة اللون مثل القرفة .
وإحتفظت به يخلع سترته المتهرئة . يلقي بها من عليه ، ثم ينفض عنه ملابسه الداخلية المرتقة . ويبقى أمامي عاري القوام بالغ الكمال مثل تحفة لا تشوبها شائبة . شعره مشدود إلى الوراء غير ممشط . وقد لوحت الشمس قليلاً أطرافه ، بسبب عري الصباح ، أثناء الإستحمام في البحر ، والإستلقاء للإستجمام على الشطئان " (6)
مقاربة هذه القصيدة المتأخرة ، بتلك المبكّرة المسماة " تفرست كثيراً " ، سالفة الذكر ؛ هكذا مقاربة ، تستدعي أولاً إسلوب كافافيس الفني . فكما ذكرنا من قبل ، كان في شعره مُقتصدَ المفردات إلى حدّ الشحّة ؛ حتى أنه يكررها في القصيدة تلو الاخرى ، لدرجة مؤالفة القاريء لها . ويذهب ناقدو الشاعر إلى القول ، بأن إسلوبه هذا قد ألب عليه أنصار الجديد والقديم في الأدب اليوناني الحديث ، على السواء (7) . ولكننا في مقارنتنا بين القصيدتيْن المذكورتيْن ، سنعثر أولاً على موضوعه المفضل ، الموصوف ؛ الرغبة السريّة ، المستعادة : ها هنا وصفُ الحبيب ، المحتفظة به ذاكرة فناننا ، تعتريه سمات الحسن ، ذاتها ؛ خصوصاً شعره المتطاير وأطرافه المتألقة العريّ . علاوة على صورة شعرية ، مشتركة ، هنا وهناك ؛ المتمثلة بالتمثال الإغريقي في قصيدة " تفرست كثيراً " ، والتحفة في القصيدة الاخرى " أيام 1908 " . هذه الصورة ، المتماثلة الإيحاء ، تحيلنا إلى جذور الشاعر ؛ الإغريقية المتحدّرة من سلالة نبيلة . ليس بغريب ، إذاً ، أن يكتشف كافافيس رموزه وإستعاراته ، غالباً ، في أوابد أثرية أو أشياء أنتيكا ؛ هو المحاط بها على الدوام ، بحكم تعايشه اليومي لمدينة ذات ماض ٍ حضاريّ كالإسكندرية . إنها على أيّ حال ، الحاضرة التي كان لورنس داريل قد قصَدَ ربما شاعرَها الإغريقيّ ، بقوله على لسان بطل رباعيّته : " إنّ المدينة تصبح ُ عالماً ، عندما يحبّ المرء أحد سكانها " (8) . واقع الإسكندرية ، المتردي قياساً لمجدها السالف ، لعب دوره في إتجاه مقاصد شعر كافافيس ، فضلاً عما ألفه في طفولته وصباه ، من أبهة الحياة الرغدة . كان شاعرنا قد أضحى شبه مفتقر ، حينما بدأتْ مرحلة إنتاجه الناضج وتفتح زهرة عبقريته ؛ الزهرة المنصاحة بمعجزة ، في خريف عمره . ورغم مجد عائلته الأرستقراطي ، المندثر آنئذٍ ، فإنّ كافافيس ظل متعلقاً بأصرَة ذكرياته ؛ هذه التي صارت تصدى بشدة في قصائده :
" لكن ليس غريباً عليّ ، وأنا منفيّ هنا ، رهين الأدواء ( لتنتبه إيرين دوكينا الخبيثة ) أن أسلي نفسي بنظم ستة أبيات أو ثمانية _ فإن فتنتني كتبتُ حكايات أسطورية عن هرميس وديونيسيوس وأبولو عن أبطال ثيساليين أو بيلوبونيزيين . وأنا أتبع أدق القواعد في الوزن الإيامبي إلى حد _ ولتسمح لي أن أقول هذا _ لا يتقنه أدباء القسطنطينية . وربما كانت دقتي هذه سبب إستنكارهم "
في هذا المقطع ، المقتطف من قصيدة " نبيل بيزنطي في المنفى يكتب الأشعار " ، يجوز لنا الإفتراض بأنّ كافافيس قد شاء " تقمّص " شخصيّة ذلك النبيل ، باثاً من خلال لذعاته المتهكمة شجونَ روحه المعلقة بين عالميْن . صحيحٌ أنه إبن أصيل للإسكندرية ، وكان فخوراً دوماً بإنتماء تاريخها الذهبي لعصر أسلافه ؛ ولكنه كان ، أيضاً ، " منفياً " ضمن لغته القومية ، ذاتها . فبحكم إنقطاعه الكلي عن اليونان ؛ الوطن الأم للغته الإغريقية ، رأى نفسه في قطيعة شبه تامة مع إرث ذلك الموطن ، الأدبي والثقافي . إضافة للمشكل الأهم ، وهو كتابته الأشعار بلهجة محلية صرفة ، غير مألوفة سوى في وسط الجالية اليونانية الإسكندرانية ؛ لهجة يُضافر إشكال محليتها ما كان من تزمتها وقلة مفرداتها (9) . إن قول كافافيس ، في تلك القصيدة المذكورة ، على لسان بطله " المُتقمّص " من قبله ، بأنه " يسلي نفسه بنظم ستة أبيات أو ثمانية " ، كان واقعيّاً للغاية . فما نعرفه عن سيرة حياته كشاعر ، عزوفه عن الإحتفاظ بقصائده أو نشرها ، إضافة لإحراقه الكم الأوفر منها بسبب دقته في مسألة الجودة الفنيّة ، أو لأسباب اخرى نجهلها . بيدَ أنه كفنان لاذع ، لا يخفي إعتداده بنفسه ، لم يكن ليتحرّج من " إخراج لسانه " لشعراء موطنه الأم ؛ متمثلاً إياهم في قصيدته بـ " أدباء القسطنطينية " ؛ المدينة التي كانت في زمنها ، كبرى حواضر الثقافة البيزنطية اليونانية . وتبلغ سخرية كافافيس من أولئك الشعراء أوجها ، حينما يعرّض بتعلقهم بالأطلال والخرابات المندثرة ، مرمزاً ذلك بكلامه عن الحكايات الأسطورية والتواريخ البطولية . لا غروَ أن يحتفي مؤلف رواية " رباعيّة الإسكندريّة " بروح الشاعر ، المتهكمة بفطرتها ، المفصحة عن أصالة وفرادة ، حدّ أنه يكتب عنه : " إنّ مساواته الرائعة بين السخرية والرقة ، كان من الممكن أن تضعه في مصاف القديسين لو كان رجلاً متديناً . ولكن المشيئة الإلهية لم تجعل منه غير شاعر ، وفي أغلب الأوقات شاعر حزين ، غير أنّ المرء يحس وهو معه بأنه يمسك بكل دقيقة تمرّ عابرة ليقلبها رأساً على عقب حتى يكشف جانبها السعيد " . (10)
في الحق ، كان كافافيس " يُخرج لسانه " لقدَره ، قبل كل شيء ؛ لقدر أسرته النبيلة ، المتهاوية بفعل الإفلاس إلى درك درجات المجتمع . كأنما طقوس ممارساته السريّة ، وبوحه بها في شعره بأوضح العبارات وأكثرها جرأة ، هو تعبيرٌ عن تحدّ لمصيره وسخرية منه . فكافافيس سليل الأرستقراطيين ، المرهف الشعور والمبالغ بالإعتناء بأناقته وإختيار صداقاته وأمكنة سهراته ؛ هذا الرجل نفسه ، من كان يطوّف ليلاً في مسالك الإسكندرية وحواريها المعزولة ، المشبوهة ، بحثاً عن " قنيصة " يتمتع معها لسويعات قليلة . غير أنّ حقيقة اخرى ، فجة ، هي التي كانت تؤلمه : رضوخه لواقع وظيفته الصغيرة في دائرة الريّ بالمدينة ؛ وهي الوظيفة التي مارسها بإلتزام ودقة حتى لحظة تقاعده . تلك الحقائق جميعاً ، جعلته رجل المتناقضات والأهواء المتضاربة ، عكسها شعره بأجلى عبارة أحياناً ، أو تماهتْ في غوصه خلل مجاهل التاريخ القديم . ها هو في قصيدته " إلى اللذة " يُسمّي متعة حياته ، متبطناً ، كالعادة ، لهجة السخريةٍ واللامبالاة :
" بهجة حياتي وعطرها هما في ذكرى الساعات التي ألقى فيها اللذة وأمسكها كما أردتها . بهجة حياتي وعطرها هما رفضي كل إنغماس في الحب المألوف "
اللافت هنا ، أنه لم يقل : " ممارستي للذة ، هي بهجة حياتي وعطرها " ، بل يلحّ على " ذكرى الساعات " التي يلقى فيها لذته . ها هو ، مرة اخرى ، يحتفي بما كان يدعوه " مقاصد شِعره " ؛ مصرّاً على أنّ تسجيله الفنيّ ، على الورق ، لذكرى فتوحاته الليلية تلك ، هي بالذات " بهجة حياته وعطرها " ؛ البهجة الشاذة ، المتحددة برفضه أي إنغماس بـ " الحب المألوف " . وحتى إسرائه إلى آفاق التاريخ الهلليني أو البيزنطي لمدينته وغيرها من حواضر البحر المتوسط ، كان فيه ما فيه من تمجيدٍ للحياة الحرّة ، شبه الإباحيّة ، المنذورة للإبداع والبطولة ، سواءً بسواء :
" أكان ممكناً أن يتخلوا عن طريقة حياتهم المغرية ، وألوان ملاهيهم اليومية ، ومسرحهم الممتاز ، حيث أوجدوا إتحاد الفن بشهوات الجسد ؟ "
هكذا يستهل شاعرنا قصيدته " جوليان ومواطنو أنطاكية " ، التي يتطرق فيها لذلك الفردوس المفقود ؛ موضوعه الأثير ، المألوف . إنّ جوليان ، خليفة قسطنطين الكبير على عرش النسر الروماني ، يحاول إعادة الوثنية التي أنكرها سلفه المتنصّر . إلا أنّ زيارته لأنطاكية ؛ حاضرة البيزنطيين مذ ذاك الحين ، أصابته بصدمة . فالأهالي كما تقدمهم القصيدة ، غير مبالين بتعاقب العقائد وغير مستعدين للعودة مجدداً إلى الوثنية ، وما قد يستجره ذلك من صراعات متجددة :
" كانوا ضالين إلى حدّ ما ، وربما إلى حدّ كبير . لكنهم راضون بأنّ حياتهم البهيجة التي كثر الحديث عنها في أنطاكية هي حياة رفيعة المذاق . أعليهم أن يتخلوا عن هذا كله .. لتتقبل عقولهم .. ماذا؟ ألتتقبل ثرثرته الفارغة عن الآلهة الزائفة ؟ ثرثرته الفارغة عن نفسه ؟ خوفه الطفولي من المسرح ؟ تزمته الخشن ، ولحيته المضحكة ؟ "
وإذاً ، بعد سلسلة من القصائد المستعيدة للحقبة الهللينية ، هوذا شاعرنا يحث قلمه للخوض بالوجه الآخر للتاريخ الإغريقي في حوض المتوسّط ؛ أيْ الحقبة البيزنطية ، التي كانت الإسكندرية وأنطاكية من شوامخ مناراتها . إنّ عبقرية كافافيس ، في إنتقائها للمواضيع وعمق رؤيته لها ، ما كانت إلا لتفصح عن نفسيّة العامّة في مسألة الإنقلاب الديني ، المتمثل بتنصّر الإمبراطور الروماني قسطنطين وإعلانه المسيحية ديناً رسمياً للدولة . فالحياة في حاضرة كبرى كأنطاكية ، ما فتئت على حالها من اليسر والملاهي والمسرات ، وعلى الرغم من إنكار الوثنية وآلهتها . وبما أنّ " الناس على دين ملوكها " ، كما يقال ، فأهل تلك الحاضرة شأنهم في ذلك شأن باقي مدن الإمبراطورية ، قد تعاملوا مع ذلك الإنقلاب الديني بواقعية ، وربما بلا مبالاة أيضاً . إنّ نهوض العاهل الجديد للدعوة إلى الإرتداد للعقيدة القديمة ، قابلوه بالسخرية خصوصاً لناحيةٍ قصدَتها قصيدة ُ كافافيس : إنها شخصية الإمبراطور المتسمة بالغرور والإدعاء والتزمت ؛ هذه الشخصية ، التي لابدّ وأعادت لأذهان الخلق ما عهدوه من أمثالها ، من دعاة التنصّر ، الأوائل ، المنادين بتحريم مباهج الحياة وما كانوا يدعونه بتخليص الروح من آثام الجسد . من المهم الإشارة هنا ، إلى أنّ كافافيس عاد إلى نفس الموضوع في قصيدته الأخيرة ( وعنوانها " في ضواحي أنطاكية " ) ، وهي الوحيدة التي كتبها في العام 1933 ؛ العام الشاهد على موته :
" دهشنا في أنطاكية حين سمعنا بتصرفات جوليان الأخيرة .
لقد غضب أبولو على السيّد ، في " دافني " ! ورفض أن يوحي إليه ( أقلقنا الأمر ! ) ، وصمم على أن لا يتنبأ إلا إذا طهّر حرمه في " دافني " . معلناً أنّ الموتى المجاورين يزعجونه . في " دافني " ، قبور عديدة وأحد المدفونين ، هناك ، هو الشهيد الرائع ، مجد الكنيسة ، المقدّس ، المنتصر : بابيلاس "
كما نرى ، فثمة سخرية مُعلنة أو خفيّة ، في كل بيتٍ من أبيات هذه القصيدة : ها هو جوليان ، ( مرة اخرى ! ) . إنه على حاله ، من التهوّر والتزمّت . لا ندري ما الذي يعنينا ، أو يقلقنا ، أاوحى إليه إلهه في " دافني " ، أم رفض ذلك ؟ وماذا يُدعى ، إلهه هذا : أبولو! ولكن ، مهلاً . إنّ جوليان الملك " يدّعي " بأنّ إلهه غاضبٌ علينا نحن أهالي أنطاكية ، بسبب إيداعنا جدث شهيدنا القديس ، بابيلاس ، في البستان المنذور لنزهة الآلهة ، والمسمى " حَرَم أبولو " .. الخ . ولكنّ الأمبراطور الغاضب ، يُجبر أهالي المدينة على نقل رفات قديسهم بعيداً عن بستان آلهته الوثنيّة . ثمّ ما يلبث غضب الربّ ، الحقيقي ، أن يشتعل بدوره :
" لم يتأخر الجزاء .. فقد إندلعت نار كبرى ، نار رهيبة وإحترق الحرم بأجمعه ، وأبولو أيضاً .
وكانت صورته رماداً ، يكنس مع الأزبال .
كان جوليان مهيأ لأن ينفطر ، وقد إنفطر _ أيستطيع أن يفعل أمراً آخر ؟ _ نحن المسيحيين أطفأنا النار . ليظل يتكلم . لم يثبت شيء . ليظل يتكلم . الحق أنه كان مهيأ لأن ينفطر "
هذه القصيدة ، كما علمنا ، هي الأخيرة التي أنهى بها شاعرنا حياته الأدبية ، الحافلة . ربما يتبادرُ للمرء ، ظاهراً ، أنّ كافافيس وقد أحسّ بدنو أجله ، فضل التصالح مع الكنيسة وربّها ، المخلّص . حتى أنّ بعض النقاد أوجس من حقيقة أنّ الشاعر في قصيدته تلك ، لا يتمتع بالتسامح المعهود في قصائده الاخرى ، المتناولة شخصياتٍ ذات شأن أقلّ من الإمبراطور جوليان (11) . وعلى بساطة رأينا ، فمثل ذلك الحكم فيه بعض التسرّع ، علاوة على أنه يُهمل السِمة الأبرز في فنّ كافافي ؛ وهي سخريته العميقة : نحن هنا ، في القصيدة ، أمام مستوييْن من الكائنات ؛ بشريّ ينقلُ رسالة الغيب إلى البشر فينكرونها ( الإمبراطور جوليان وأهالي أنطاكية ) ، وإلهيّ متمثل بمعبود وثنيّ يتحدّى ربّ النصارى ( أبولو والقديس بابيلاس كممثل للمسيح ) . على المستوى الأول ، نحن على بيّنة من خلال قصيدة سابقة لكافافيس _ وهي بعنوان " جوليان ومواطنو أنطاكية " ، السالفة الذكر _ أنّ ريبة متبادلة تستحكم بعلاقة الإمبراطور بأهالي تلك المدينة السورية ، العنيدين . إنهم لم يستحسنوا قبلاً دعوته للعودة إلى الدين القديم ، القويم بنظره ، وعلى هذا لم يُحسنوا إستقباله أيضاً. من جهتهم ، فلم يخف اولئك المواطنون سخريتهم بالعاهل ، واسمين إياه بالغرور والإدعاء والتزمت . يحبك إذاك جوليان تدبيراً " إلهياً " ، يعلم حق العلم أنه لابد سيهزّ أهالي أنطاكية . إذ ينقل على لسان إلهه أبولو ، غضبه منهم بسبب عدم إحترامهم لحرمة بستانه ، الكائن في مدينتهم . لذعة السخرية ، في القصيدة ، لا تتجلى في طريقة الراوي الجمعي ( مواطنو أنطاكية ) في سرد الحكاية وحسب ، بل وخاصّة في الإيحاء بلعبة الزمن ، الهزلية ، حينما تنكر آلهة وتتسيّد اخرى : فإذا كان بإستطاعة جوليان الزعم على لسان إلهه أبولو ، الوثني ، بأحقيته بذلك " الحرم " لوجود تمثاله فيه ؛ فلم لا يستطيع مواطنو أنطاكية ، إنتصاراً لرفات قديسهم المسجى هناك ، إحراق المكان برمته بزعم أنّ ربهم من صبّ ناره على الأوثان جميعاً ؟ أما لعبة المكان في القصيدة ، فلا تقلّ هزلاً : فالبستان / الحرم ، هو " في الواقع " ساحة حرب بين إلهيْن ، أحدهما شرعيّ والآخر دعيّ ( المخلص و ابولو ) . بيْدَ أنّ هذه الصفة مرهونة حسب ، بوجهة نظر مواطني أنطاكية ، بما انهم أصحاب الرواية والمنتصرون في نهاية ذلك الصراع . أما لو قلبنا الآية ، فلا شكّ في ضرورة إبدال صفة كل من الإلهيْن ، المذكوريْن . إن موهبة كافافيس ، المتجلية خصوصاً في إنتقاء مواضيعها بعناية ودقة ؛ موهبة فذة وأصيلة ، كهذه ، لابدّ أن تستوفي حظها من القراءات المتعددة ، المتجددة ، في أيّ مكان وزمان ، ما ظلت تلك المواضيع معاصرة وراهنة . لقد نوّه رولان بارت ، في تصنيفه للأعمال الأدبية ، بين " أثر " كلاسيكيّ و " نصّ " طليعيّ ، بتأكيده : " فقد يحدث أن يكون في الأثر القديم نصوصٌ ، مثلما أن كثيراً من النتاجات الأدبية المعاصرة ليست بالنصوص " . (12)
هوامش ومصادر :
1 _ بيتر بيين ، مدخل إلى كافافيس و كازانتزاكيس و ريتسوس _ الطبعة العربية في عمّان 1985 ، ص 9 2 _ لورنس داريل ، رباعيّة الإسكندريّة ( الرواية الأولى : جوستين ) _ الطبعة العربية في القاهرة 1969 ، ص 34 3 _ كافافيس ، وداعاً للإسكندريّة التي تفقدها / ترجمة سعدي يوسف _ بيروت 1979 : جميع المقاطع الشعرية ، الواردة في المقال ، مستلة من هنا ، فيما عدا قصيدة " أيام 1908 " 4 _ ديوان كافافيس : شاعر الإسكندرية / ترجمة عن اليونانية للدكتور نعيم عطية _ القاهرة 1995 ، ص 147 5 _ البروفيسور س . م . بورا ، قسطنطين كافافيس والماضي الإغريقي : من كتاب " التجربة الخلاقة " _ الطبعة العربية في بغداد 1977 ، ص 49 6 _ ديوان كافافيس ، مصدر مذكور ، ص 141 : هذه القصيدة ، غير موجودة في ترجمة سعدي يوسف لأعمال كافافيس الشعرية 7 _ التجربة الخلاقة ، مصدر مذكور ، ص 50 8 _ رباعيّة الإسكندريّة ، مصدر مذكور ، ص 86 9 _ التجربة الخلاقة ، مصدر مذكور ، ص 36 10 _ رباعيّة الإسكندريّة ، مصدر مذكور ، ص 136 11 _ التجربة الخلاقة ، مصدر مذكور ، ص 58 12 _ رولان بارت ، درس السيميولوجيا _ الطبعة العربية في الدار البيضاء 1986 ، ص 60
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سرّ كافافيس 1 / 2
-
الدين والوطن ، في ورقة إخوانيّة
-
طغم وعمائم
-
علوَنة سوريّة : آثارُ 8 آذار
-
بلقنة سورية : جذور 8 آذار
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 2 / 2
-
نساء كردستان ؛ الوجه المجهول لشعب عريق 1 / 2
-
مذاهب متشاحنة ؛ السنّة والعلويون والآخرون
-
أثنيات متناحرة ؛ الكرد والسريان ، مثالاً
-
الوثنيّة الإسلاميّة
-
الموساد ، من كردستان إلى لبنان
-
التعددية ، في وصفة بعثية
-
عيدُ الحبّ البيروتي
-
عبثُ الحوار مع البعث ، تاريخاً وراهناً
-
المقاومة والقمامة : حزب الله بخدمة الشيطان
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية 2 / 2
-
رسام الكاريكاتور بمواجهة الهمجية
-
إعتذار صليبي من قلعة الإسلام
-
التحوّلات الكردية : أقلية وأكثرية
-
الإجتماعيات الكرديّة : تقاليدٌ وتجديد
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|