|
تأملات فلسفية - 5 -
شادي كسحو
الحوار المتمدن-العدد: 6040 - 2018 / 10 / 31 - 03:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1- الزائف أفقاً للعالم: لقد أحاك الإنسان جريمته الكبرى ضد الله ببراعة. لكن الله قد مات فعلاً، مات ومات كل قتلته أيضاً. هكذا استطاع الإنسان تحرير نفسه من أوحال الآلهة وراح يقوم بتنصيب نفسه سوبرماناً على العالم. لكن هذه الصلصة الفلسفية لن تمر دون عواقب. ظن الحيوان البشري لوهلة أن حنق الآلهة سيكون علوياً، لكنه تفاجىء أن العواقب لم تأت من السماء بل جاءت من تحت. من العالم نفسه. لقد بدأ العالم بالتمرد على قاطنيه. بدأ بحنث عهوده مع الذات. لقد بدأ بالتحول إلى ما لا يشبهه، إلى ما ليس هو، إلى ما لن يكونه بعد الآن. هذه هي ورطة الذات التي لم تعد تفهم عالما تحول إلى أشباح وظلال وصور. هكذا ذات تطور تكنولوجي جميل ولماع ارتدى العالم بزته الافتراضية الجديدة وصار يتبختر بسديميته وضبابيته وسرابيته وقدرته على الاختفاء والاختباء. إنها لحظة زهو العالم بنفسه حيث كل شيء يغدو شفيفاً بلا بنية، وهشاً بلا ملمس، ومتحركاً بلا نقطة عطالة، وحياً بلا روح، مجرد جريمة. لكنها ليست جريمة كبرى هذه المرة، بل جريمة كاملة حيث يجري كل شيء بلا شهود. أو حيث كل الشهود هم شهود زور. هنا حيث كل شيء مصاغ ومسبوك ومخطط له جيداً لكيلا يحيل إلى أي أثر. إنها لحظة شرود الوجود. هذه هي الجريمة الفعلية في حق وجودنا الراهن. إنها جريمة عالم غدا يتمرد على نفسه فصار يشبه لعبة تنس بين لاعبين يتراشقان الكرة دون شبك يفصلهما. هنا حيث لا تفقد اللعبة معناها فحسب، بل ويفقد اللاعبين معناهما أيضاً. كلا اللاعبين فائز وكلا اللاعبين خاسر. لعب بلا معنى. كل شيء صحيح وكل شيء خاطىء. بلا نقطة عطالة كل شيء جميل، ومثير للشغف، ومذهل، وفريد، ويجري أمام جمهور لم يعد يجيد سوى التصفيق أو الموت. 2-الشاشة كـ جريمة إن الشاشة الراهنة هي تمرين افتراضي على النسيان الجذري للعالم. تدريب على الطمس والطمر والغمر والإخفاء والاتلاف والحجب. لكن حذار أن يظن البعض أن الصورة قد تمارس لعبتها على سبيل الإضمار الميتافيزيقي للسر أو المعنى. لا إطلاقاً. إن الغياب الذي تؤسس له الشاشة ليس غياباً موجباً. إنه بكلمات أخرى ليس غياباً شعرياً لعالم آخر يتوارى خلف ظاهر ماكر، بل إنه حجب ما بعد أو ما فوق ميتافيزيقي حيث تتلاشى الأشياء وتتوارى الأحداث وتذوي الموضوعات دون أن تخلف أثراً وراءها. إنها الصورة كـ جريمة كاملة. ضرب من الغياب الفاجر والمضاعف والفاحش. إنه فحش أن يتلاشى الظاهر فيما هو أبعد منه أي فيما هو أكثر ظهورية من الظاهر نفسه. وفجور انمحاء المرئي فيما هو أكثر مرئية من المرئي نفسه. إنها وقاحة عالم بلغ به الشطط أنه لم يعد يرى شيئاً، ويعلم أنه لا يرى شيئا، ويصر على تأبيد انعدام رؤيته بإدعاء الرؤية الكلية. ربما كان هذا الانمحاء الجذري إرهاصاً آخر على بلوغنا الزائل إطلاقاً. الفاجر إطلاقاً. 3- روح اللا أصل: تنقصنا روح سأطلق عليها من الآن فصاعداً: روح اللا أصل، أو قوة اللا تاريخ. وجود بلا ماض مجيد ولا تليد. انزلاق، وسيولة، وارتحال بين الهويات والكيانات. تحاضر دائم. تكرار أبدي لذات تستوطن العالم كنزيف دائم للآن ها هنا. 4- برفقة هيدغر: مدهشة هي الحيل والأحابيل اللغوية التي يستخدمها هيدغر في شرح فلسفته في كتابه العمدة: الكينونة والزمان؟ مع أنه لا يوجد في الكون كله متلاعب لغوي كهيدغر لكنني بعد هوجة حمقاء اعتبرت فيها هذا النص أعظم نص فلسفي في العالم، ها أنا أستعيد زمام نفسي واقول: لقد أساء هيدغر تقدير قيمة اللغة إلى الحد الذي جعلها شيئا ما شبيها بالقفص.هيدغر يخيفني حقا. أشعر كما لو أن أحدهم يريد خداعي والتلاعب بي عبر الكلمات. علي أن أتوجه بشكر لا ينقطع لهذا الفيلسوف الكبير الذي فتح عيني على كينونة يجب تجنبها. لغة صار من الضروري الاعتراف بقصورها وتناهيها. وهذا هو ضد هيدغر بأتم معاني الكلمة. لقد تعلمت من هيدغر كيف أكون ضد هيدغر. تعلمت، كيف أجعل منه خصمي النموذجي. مع هيدغر. مع فيلسوف الغابة السوداء، مع هذا الفلاح الفريد يتعلم القارىء كيف يصبح المفهوم أكثر أصالة من حركة الفكر ذاتها. وهنا يكون هيدغر قد ارتطم بحائط لن يتجاوزه أبدا. دعوني أقول: مع هيدغر، تتعامى المفاهيم عن حركة الأصل الذي يشكلها. إنها تتحول إلى سيمولاكرات لغوية لتجارب وجودية لا تتواءم ولا تلتئم معها. سيمولاكرات أو نسخ رومانسية في حركة انفصال وانقطاع وانطراد عن أصل تريد التنصل منه بلا توقف. 5- كتب للتنظيف أن نضع يدنا علی التاريخ يعني أن نضع يدنا علی كسر من الكسور المختلطة حيث يختلط العظم بالدم وبالكثير من الآهات والصيحات النابعة من الداخل. التقدم والأمل والمستقبل هي أجمل اختراعاتنا اللغوية لكنها ليست أصدقها. التاريخ لا يتحرك بلا مقامرة..أما أولئك الذين يبحثون عن تاريخ آخر خلف تاريخنا أو بعده فهم سذج لدرجة أننا بتنا بحاجة إلی "كتب تنظيف" للعبور إلی الضفة الأخری بأقل قدر من الكذب. 6- جمهور ملعب ولعبة ولا لاعبين.. جمهور يتفرج على لا شيء.. جموع تنتظر أن يعلن الحكم الغير موجود نهاية اللعبة التي لم تبدأ.. 7- اكسيرالأبدية مسكين من يتحرى الأبدية داخل الزمان. إن الأبدية، أبدية أعمال رامبرانت وفان غوخ ونيتشه وهيدغر وباخ وموزارت ومحمود درويش ليست أبدية جماهير وحشود تصفق للشيء ونقيضه، بل هي تدفقات وانتشاءات واندلاعات جعلت من هذه الأعمال تفيض خارج نفسها من شدة المعنى أو من شدة اللا معنى إن شئتم. ليس شرا أن نعيش داخل الزمان، لكن الشر ذاته أن لا نتخيل الحياة إلا داخل الزمان. كما أنه ليس شراً أن نعيش داخل التاريخ، لكن الشر ذاته أن لا نتخيل الحياة إلا داخل التاريخ. الأبدية نقيض الزمن..نده الفريد وترميمنا الوحيد لدورانه المعيب. 8- أبعد من هيرقليطس: يسحرني دائما ما هو موجود ما وراء الوجود أو ما قبله. تلك اللحظات المحايدة من فرط كثافتها. تلك الشساعة الناصعة ذات الطابع النشواني. أعتقد أن الوقت قد حان للدخول في نزاع جدي مع هذه النقيصة الانطولوجية التي تسمى وجوداً. أن نرنو بحيواتنا نحو أسئلة تتعطل عندها حركة الفكر ذاته. قليل من الشوق إلى ما قبل المفهوم. إلى تلك اللحظات حيث كنا معلقين فيها كـ نوازل في سقف مغارة قبيل السقوط في نهر الصيرورة. صيرورة الجد المُحبِط هيرقليطس. 9- حب الحب: لا يحتاج الحب كي يوجد إلی الآلهة بل إلی الشياطين. أولئك المجانين والمتمردين الذين يفلتون في كل مرة، من قبضة أجهزة الرقابة والقمع التاريخي التي اخترعتها البشرية عبر تاريخها الطويل. تلك الزمرة النادرة التي تمارس ما أطلق عليه: حب الحب. 10- ابتكار الانسان لحماية الذات من الفراغ، نحب ونعيش ونكتب ونلعب ونموت أيضًا. كل واحد منا يبحث عن حكاية تحميه من العدم وتضعه في قلب الوجود. هل علينا أن نبتكر الحب من جديد كما كان يردد المسكين رامبو دائمًا؟. ربما كان الأجدى أن نعيد ابتكار الإنسان. 11- وضع اليرقة: ها هو العالم يرقة عملاقة تنتظر التحول الجديد. إنها اللحظة الحاسمة لميلاد فيلسوف أو شاعر أو نبي، أو على الأرجح شيطان. .
#شادي_كسحو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات فلسفية - 4 -
-
تأملات فلسفية -3-
-
تأملات فلسفية -2-
-
بحثاً عن ديونيسيوس
-
سطوح ونواتىء: الصحافة العربية مراسم مرعبة وكليشيهات فارغة
-
جينالوجيا الحقيقة الدينية
-
تأملات فلسفية -1-
-
ضد الذات أو في مديح المواطنة
-
لعنة الإصلاح
-
مثالب الفلاسفة
-
هذيان متماسك (شذرات)
-
في اللامكان قراءة في شخصية السندباد
-
عذراء الكلمات تأملات في الشذرة والكتابة الشذرية
المزيد.....
-
بعد سنوات من الانتظار: النمو السكاني يصل إلى 45.4 مليون نس
...
-
مؤتمر الريف في الجزائر يغضب المغاربة لاستضافته ناشطين يدعون
...
-
مقاطعة صحيفة هآرتس: صراع الإعلام المستقل مع الحكومة الإسرائي
...
-
تقارير: وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله بات وشيكا
-
ليبيا.. مجلس النواب يقر لرئيسه رسميا صفة القائد الأعلى للجيش
...
-
الولايات المتحدة في ورطة بعد -أوريشنيك-
-
القناة 14 الإسرائيلية حول اتفاق محتمل لوقف النار في لبنان: إ
...
-
-سكاي نيوز-: بريطانيا قلقة على مصير مرتزقها الذي تم القبض عل
...
-
أردوغان: الحلقة تضيق حول نتنياهو وعصابته
-
القائد العام للقوات الأوكرانية يبلغ عن الوضع الصعب لقواته في
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|