|
ثقافة الماينبغيات والخطاب العربي الغارق في المثل الأفلاطونية
فارس إيغو
الحوار المتمدن-العدد: 6039 - 2018 / 10 / 30 - 19:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يمتلئ خطاب المثقف العربي بالـ "ما ينبغيات"، والتي تبدأ بأفعال الوجوب، يجب وينبغي ووجوب ما يجب، ووجوب ما لا يلزم إلخ إلخ... إنه نوع من الهروب الكسول من تحليل "ما هو كائن"، وما هو بالمستطاع تحريكه قليلاً نحو الأفضل وعلى ضوء المعطيات الصلبة للواقع، هروب نحو تنزيل المثال على هذه الواقع، فيصبح الخطاب جنساً من التمني والأمنيات والأحلام التي تبعد الانسان العربي عن التفكير المنطقي وتحيله الى التفكير الأسطوري الخرافي. والما ينبغيات في خطاب المثقف العربي لا تكلف شيئاً، ولا حدود لها، كما كان الخطاب العربي في عصر الأيديولوجية القومية العربية، وزمن المذياع والخُطب الملتهبة في سورية ومصر، قبل عام 1967، وكيف خُدع المواطن العربي بقدرة جيوشه على رمي إسرائيل في البحر. يُشكل هذا الخطاب المليئ بالوعود المعسولة الكاذبة، نوعاً من الدغدغة الرخيصة لطموحات المتلقي المشروعة، وتحقيقها على مستوى القول والاستماع، فتفعل فعلها المخدر والمنوم في العقل المتلقي لتغرقه في المثاليات الموجعة جداً، حين يصطدم بدروس الواقع الصلبة والعنيدة. هي شبيهة لآليات الحلم التي شرحها فرويد في تحليل الأحلام، حيث يجري أثناء الحلم تحرر الوعي من رقابة "الأنا العليا"، والتي تمثل القيم والمعايير التي يضعها الاجتماع البشري، لكي تدخل البشرية مرحلة الحضارة، أو بلغة أخرى، أن الحضارة والاجتماع البشري قائم بالضرورة على كبت بعض الرغبات وإلا تحققت الفوضى وانتفت شروط قيام المجتمعات. إذن، يفعل خطاب الماينبغيات فعل الحلم عند فرويد، أي يحقق الرغبات البشرية التي لا تتحقق في الواقع الصلب عن طريق أحلام اليقظة، التي تكون الاستفاقة منها سقوط في حبائل نظريات المؤامرة في تفسير التاريخ، أو الانجراف الى الجماعات الإرهابية. يشكل الخطاب الديني عند المفكرين الإسلاميين والذي يدعو الى العودة الى العصر الذهبي في الحضارة العربية الإسلامية، أحد أجناس خطاب الماينبغيات الأكثر إغراقاً في المثاليات والدعوات الطوباوية. وقد انتشر هذا الجنس من الخطابات الدعوية بعد الهزيمة الحزيرانية الكبرى عام 1967، وأفول الأيديولوجية القومية العربية، حيث ظهرت الدعوات النكوصية التي فسرت الهزيمة بأنها هزيمة لنوعية الأيديولوجية، وليست للايديولوجية ذاتها؛ لذلك، يكفي أن نغير الصفة من أيديولوجية قومية الى أيديولوجية دينية إسلامية، نسخة الشيخان محمد متولي الشعراوي والدكتور يوسف القرضاوي، يكفي هذا لكي ترتفع أسهم "الأمة"، وتبدأ مرحلة الانتصارات الكبرى. لكن تفكيك هذه الأطروحة الطوباوية التي تولى مهمتها وبشجاعة نادرة المفكر المصري فرج فودة، وذلك في كتابه "الحقيقة الغائبة"، وفي مناظرته الشهيرة مع د. محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي في ندوة "بين الدولة الدينية والدولة المدنية" والتي عقدت في القاهرة عام 1992، أدت الى إغتياله بعد الفتوى الشهيرة التي كفرته. والفضيحة الكبرى التي تلت حادثة الاغتيال، هي التبريرات الرخيصة التي صدرت عن الكثير من الشخصيات الدينية، فمثلاً أحد شيوخ الازهر الكبار وصف الجريمة بالقول: "فرج فودة هو الذي قتل فرج فودة"، وحاول الهضيبي تبرير الاغتيال، أما الصدمة الكبرى فكانت شهادة الشيخ محمد الغزالي خلال محاكمة القاتل. هذا يصلنا الى مقولة مهمة عند المفكر اللبناني علي حرب تقول: أن لا شيء يعود على ما كان عليه، وبلغة أخرى لا أصل يعود إلا بصورة سيئة، أو كاريكاتورية، أو مدمرة. وهذا ما حدث مع التجارب التاريخية القريبة العهد، سواء مع الأصوليات السلفية الجهادية أو الأصوليات السلفية التقوية، من القاعدة الى بوكوحرام، وصولاً للدولة الإسلامية، الى الإسلام السياسي الشيعي الحاكم في ايران، والإسلام السياسي السني الحاكم في السودان والمملكة العربية السعودية، التي انكشفت أخيراً أمام العالم في الجريمة الوحشية التي ارتكبتها ضد معارض معتدل ولم يطالب يوماً سوى بالإصلاح؛ لقد كان الكاتب والصحافي الجزائري كمال داود الذي يعيش في منفاه الباريسي مجبراً بعد تعرضه لفتوى تكفره، أقول كان محقاً في وصف المملكة العربية السعودية بأنها "داعش ناجحة". في الختام، إن خطاب "الماينبغيات" الطوباوي، لدى المثقف العربي الأيديولوجي، أو المفكر الإسلامي، يدفع أصحابه للسقوط في "الدعوة" دينية كانت أم دنيوية، أو الوقوع أسرى المشاريع الفكرية الجاهزة التي تزين للمثقف معرفة كل شيئ، وبالتالي يكرس كل حياته الفكرية لخدمة مشروعه، الذي يشكل رؤيته الخاصة للدين والعالم والطبيعة والتاريخ. إن الدور الجديد الذي يجب أن يلعبه المثقف، هو أولاً الخروج من خطاب الماينبغيات والمشاريع الكبرى والدعاوى الأيديولوجية الضيقة والدعوات الدينية الطوباوية؛ يكتفي المثقف، اليوم، في زمن التحولات التكنولوجية الكبرى والطفرات الإعلامية والمعلوماتية التي غيرت وجه العالم، بوظيفة جد متواضعة ومُكلفة، وهي النقد كأداة منهجية لفتح الدروب المغلقة، وخلع الأبواب الموصدة، وتهوية الكهوف التي فسٌد هواءها، وتقديم بعض الأفكار الجديدة، تاركاً للفاعلين الاجتماعيين، سواء أكانوا أفراداً أم تجمعات منظمة وأحزاب مهمة إعادة بناء مجالهم السياسي والاجتماعي وفق قاعدة التداول، وبحسب مفهوم الحرية والمسؤولية.
#فارس_إيغو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا ينجح الواعظ الديني حيث يفشل المثقف الحديث
-
لينين والعمل العلمي الذي أسسه ماركس
-
ظاهرة الالحاد في العالم العربي بين التضخيم والتهويل
-
اليسار الاوروبي وتحديات العولمة
-
هل العلمانية إلحادية ؟
-
المجتمع المدني في سورية بين المفهوم الإحيائي والمفهوم السياس
...
-
الديمقراطية و التنمية
-
المجتمع المدني في سورية و جدلية الشكل والمضمون
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|